آخر الأخبار

حروب محورية

 

 

 

على الحفناوى

 

يقول لى بعضهم: "كفاكم النظر إلى الماضى واكتفوا بالتركيز على الحاضر". فأرد على تلك المقولة بأن الغوص في دهاليز التاريخ تنير طريق الحاضر لرؤية وفهم وتوقع المستقبل. ويتضح ذلك عندما نقوم بإلقاء نظرة سريعة على تاريخ الحروب الأوروبية في العصر الحديث. فقد لا يعلم الكثيرون أن الحرب العالمية الثانية، التي لا يزال العالم يعيش تبعاتها، ما هي إلا إحدى حلقات الحروب الأوروبية الممتدة عبر القرون بين دول وملكيات وإمبراطوريات حاولت الهيمنة على حكم أوروبا مستهدفة الهيمنة على العالم. وكانت بعض تلك الحروب محورية وأساسية في رسم خريطة أوروبا في السنوات والعقود التالية.

 

ودون الرجوع إلى القرون الوسطى، فإن نظرنا إلى المحرك الرئيسى وراء دفع ألمانيا إلى اتخاذ مسار التوجهات النازية خلف هتلر منذ عام 1933، نجدها مدفوعة بالرغبة في الانتقام والتخلص من مهانة اضطرارها قبول الشروط المجحفة لنتائج الحرب العالمية الأولى التي انتهت بتسليمها بالهزيمة... ثم إن بحثنا عن أسباب قيام الحرب العالمية الأولى سنة 1914، نجدها – ورغم بداياتها بحروب البلقان ومملكة الصرب – إلا أنها اتسعت لتشمل روسيا شرقا وفرنسا وانجلترا غربا، حيث أدت تحالفات تلك الدول الثلاثة إلى كبح جماح "جيليوم الثانى" وإفشال غربته في توسيع الإمبراطورية الألمانية لتشمل كل أوروبا. فأدت تلك التحالفات إلى زيادة إحساس الألمان بالحصار بين روسيا وفرنسا وانجلترا... وبالعودة إلى أسباب وطبيعة وتغير التحالفات الأوروبية، نجدها أيضا تعود إلى نتائج حروب سابقة دارت في أوروبا خلال القرن التاسع عشر، وكان أبرزها حرب 1870 بين فرنسا والتحالفات الألمانية بقيادة مملكة بروسيا. فلنلقى نظرة أكثر تفصيلا على تلك الحرب المحورية.

 

بالإضافة إلى مملكة بروسيا، كان التحالف الألماني مكونا من كونفدرالية دول شمال ألمانيا التي تضم واحد وعشرين دولة، وانضم للتحالف كل من مملكة فورتمبرج ومملكة بافاريا ودوقية بآد. وكان المحرك الرئيسى لهذا التحالف البروسى الألماني هو: بيسمارك (أوتو فون بيسمارك) الذى كان يشغل وزير ورئيس مملكة بروسيا، ومستشار الكونفدرالية الألمانية، ولاحقا المستشار الأول للإمبراطورية الألمانية.. وكان بيسمارك قد صرح مرارا برغبته في توحيد ألمانيا والانتقام لها من هزيمتها على يد نابليون بونابارت، وخاصة من هزيمة موقعة "ينّا" عام 1806.

 

أما فرنسا، فكانت في ظل حكم الإمبراطور نابليون الثالث (ابن شقيق نابليون بونابارت) الذى كان قد انتخب رئيسا للجمهورية الثانية بعد ثورة عام 1848، ثم انقلب عليها عام 1852 وأعاد نظام حكم الإمبراطورية لفرنسا...

 

وأخذ بيسمارك في التحرش بفرنسا، تارة لفرض أحد الأمراء ملكا على أسبانيا بجنوب غرب فرنسا، وتارة مطالبا بضم مقاطعة الألزاس واللورين بشرق فرنسا، وتارة أخرى بتهديد النمسا والمجر المتحالفة مع فرنسا.. إلى أن استطاع نصب فخاً وقع فيه نابليون الثالث بخصوص إهانة أحد سفراء فرنسا.

 

كانت فرنسا ضعيفة عسكريا لأن قيادات جيشها متناحرة وغير منسقة فيما بينها. وقد سبق لها أن خسرت معاركها في المكسيك. ولكن نابليون الثالث عاش متصورا قيامه بنفس أمجاد عمه، وظل يوجه كل جهوده نحو توسيع مستعمرات فرنسا في العالم، حتى أنه كان يحلم بحفر قناة بين الأمريكتين في نيكارجوا سنوات قبل قناة السويس وقناة بنما للسيطرة على الطرق البحرية...

 

عندما ضاق نابليون الثالث باستفزازات بيسمارك، أعلن الحرب على مملكة بروسيا في 19 يوليو من عام 1870، متصورا تفوق الجيش الفرنسي عددا وإعدادا وتسليحا. وبدأت فرنسا الحرب بقوات تعدادها 300 ألف مقاتل، في حين بدأت بروسيا بقوات تعدادها 500 ألف.. ومع زيادة أعداد المجندين، وصلت القوات الفرنسية إلى 900 ألف، في حين انضمت إلى القوات البروسية قوات الكونفدرالية الألمانية فوصل تعدادها إلى مليون و200 ألف محارب. وأدار نابليون الثالث المعارك بنفسه، وذهب يحارب على الجبهات دون تحقيق أي انتصارات، إلى أن جدثت موقعة "سيدان" في الثانى من سبتمبر عام 1870، الذى انهزم وأُسر بها ومعه 39 من كبار القادة من الجنرالات و70 ألف جندي، فاضطر للاستسلام والتوقف عن القتال، وخُلع من منصبه الامبراطورى وتم نفيه إلى إنجلترا. وانتهت الإمبراطورية الفرنسية بغير رجعة منذ 4 سبتمبر وتأسست الجمهورية الثالثة، التي ظلت قائمة حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.

 

لم تتوقف المعارك بعد هزيمة نابليون، فقد بدأت المقاومة وحرب الاستنزاف ضد القوات الألمانية، ووصلت إلى ذروتها مع حصار باريس من يوم 17 سبتمبر 1870 إلى 26 يناير 1871. وقد دخل شعب باريس في مجاعة شديدة رافضا الاستسلام، حتى أن محلات البقالة والمأكولات كانت تبيع لحم القطط والفئران وبعض الحشرات مع قطع الخبز الأسود المخلوط بالطين والأعشاب... وقد اضطرت الحكومة الفرنسية إلى التوقيع على وقف اطلاق النار في 26 يناير، وقبلت بالهزيمة بعد أن راح ضحية هذه الحرب أكثر من 140 ألف من الجنود أمام 50 ألف من الجانب الألماني.

 

انتهت الحرب وقامت فرنسا بدفع تعويضات ضخمة لألمانيا، التي نجحت فى ضم مقاطعة الألزاس واللورين، وظل الحال مستمرا على هذا النحو إلى أن قامت الحرب العالمية الأولى فاستعادتها فرنسا من ألمانيا بعد 44 سنة من الاحتلال.

 

هكذا تقوم الحروب لحل مشاكل لم تحلها حروب سابقة، ولتحقيق أطماع السيطرة والهيمنة التي لم تتحقق في الماضى، وللثأر من هزائم رسبت المرارة في النفوس... وإن نظرنا لحال أوروبا اليوم، أكاد أجزم أن رواسب الماضى لا تزال عالقة في نفوس الكثيرين مما يعوق أحلام الوحدة الأوروبية الكاملة، وقد يكون للحكماء من الأجيال الجديدة الكلمة العليا فتظل الخلافات القديمة في طىّ النسيان، ويظل السلام سائدا.


إرسال تعليق

0 تعليقات