بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
إنه تحدي جديد يضاف إلى التحديات الكثيرة
التي يواجهها الشعب الفلسطيني، ومعه سلطته الوطنية، وقوى المقاومة المسلحة
وفعالياته الشعبية والمدنية، وهو تحدي كبيرٌ وخطيرٌ، لكنه لا يختلف كثيراً عن
التحديات السابقة أو الأخرى التي يواجهها الفلسطينيون، إذ طالما أن النكبة الكبرى
واقعة، والمصيبة العظمى حاصلة، فإن أي شيءٍ بعد ذلك متوقعٌ وغير مستغربٍ، فلا
جريمة أكبر من الاحتلال، ولا عدوان أسوأ من ضياع الحق وتشريد الشعب ومصادرة الأرض
وتدنيس المقدسات، ولا اعتداء أبشع من الاستيطان واقتلاع السكان وتدمير المساكن
ونسف البيوت، ولا ظلم أبلغ من قتل المواطنين واعتقال الرجال والنساء والأطفال، ولا
خسة أكثر من تزوير الحقائق وتشويه الوقائع، وطمس الدلائل وسرقة التاريخ وتغيير الهوية
وشطب الشخصية.
الاحتلال
الإسرائيلي أقدم خلال العقود الثمانية المنصرمة على ارتكاب كل تلك الجرائم التي
سبقت، واقترف جميع الموبقات التي أسلفت، وتصرف في الأرض الفلسطينية كلها كأنه
مالكها الأول وصاحبها الأصيل، وكأنها فعلاً أرضٌ بلا شعب، لشعبٍ بلا أرض، فمارس
سيادته بالقوة عليها، ونهب خيراتها، وصادر ممتلكات أهلها، ومزق وحدتها الجغرافية
بالمستوطنات، وبعثرها بالطرق الالتفافية والمعسكرات العسكرية، وأعرض صفحاً عن كل
القرارات الدولية، وضرب بعرض الحائط قرارات الشرعية وإجماع الأمم المتحدة ضده،
معتمداً على تأييد الولايات المتحدة الأمريكية لسياسته، ودفاعها عنه، وحمايته من
العقوبات الدولية وقرارات مجلس الأمن الملزمة بالقوة له.
الحقيقة أنه لا
جديد بالنسبة لغالبية الفلسطينيين المؤمنين بوحدة الأرض وكامل التراب الوطني، فيما
يتعلق بقرارات الضم الأخيرة، ومخططات الاحتلال والإدارة الأمريكية الجديدة،
فالواقع بالنسبة لهم هو نفسه لم يتغير، والحقيقة ذاتها لم تتبدل، فأرضهم محتلة،
وشعبهم بين لاجئٍ في الوطن أو الشتات، أو مشردٍ في بقاع العالم ضائعٍ بين حدوده أو
حائرٍ بين جنسياته، فالكيان الصهيوني يحتل فلسطين كلها، ويتصرف فيها وصلاً وقطعاً
وشقاً وربطاً وبقراً وحفراً وتنقيباً واستخراجاً كيفما يشاء.
لكن الفلسطينيين لا
يعترفون أبداً بشرعية ما يقوم به، ولا يعتقدون أن هذا الواقع سيدوم له وسيبقى،
ولهذا فإنهم يقاومون الأصل، ويحاربون أساس البلاء وسبب المصيبة كلها، فلا يؤمنون
بمحاربة جزءٍ من المشروع وترك أصله، ولا يفكرون بقطع ذيله وترك رأسه، بل يرون أن
مقاومة الاحتلال كله أصلٌ ثابتٌ، ومنهجٌ واضحٌ، فبزوال الاحتلال تتحرر فلسطين،
ويزول الكيان، وتتفكك المستوطنات، ويعود الشعب، وينتهي اللجوء، وتبنى الدولة،
ويرفع العلم، ويكون للفلسطينيين وطنٌ وهويةٌ وجيشٌ وعلمٌ.
أما بالنسبة للفريق
الفلسطيني المؤمن بالسلام، الواهم بالاتفاق، والساعي إلى التفاهم مع الكيان
والاعتراف بشرعيته والإقرار بوجوده، والمتمسك معه بوحدانية مسار المفاوضات، وعدمية
المقاومة وعدم جدوى السلاح، فإن هذه المخططات تعنيه وهذه الخرائط تصدمه، إذ أنها
تظهر حقيقة الاحتلال وتكشف عن نواياه، وتبين أنه يكذب ويخدع، ويغش ويغدر، وأنه لن
يعطي الفلسطينيين شيئاً، ولن يمنح المفاوضين باسمهم كياناً أو سلطةً حقيقيةً على
الأرض، وغاية ما سيعطيهم حكماً ذاتياً، أو إدارةً محليةً، تشبه سلطة البلديات،
تدير شؤون السكان، وتقدم الخدمات لهم، في الوقت الذي تراقبهم وتتجسس عليهم،
وتضبطهم وتقمعهم، وتعاقبهم وتحاكمهم.
للأسف إن هذا
الفريق الذي يملك السلطة ويدير المفاوضات، وإن كان يرفض خطة ترامب للسلام ويعارض
مشروعه، ويرفض خرائط المستوطنين ويحاربها، إلا أنه كان يعلم بمخططات الاحتلال لضم
الكتل الاستيطانية الكبرى، وإلحاق أكثر من 10% من مساحة الضفة الغربية إلى كيانه،
وقد اطلع على هذه الخرائط، وأبدى مرونةً في دراستها والتعامل معها، وأعطى إشاراتٍ
واضحة لقبوله بمبدأ الضم على قاعدة تبادل الأراضي وإزاحة الحدود، شرط أن تكون
متساوية بالقيمة والقدر، ولعل هذا الذي جرأ الإسرائيليين أكثر، ودفعهم للإيغال في
أرضنا والطمع فيها أكثر.
ربما يريد
الإسرائيليون أن يشغلوا الفلسطينيين بهذا القدر الكبير من التفاصيل، وبالخرائط
المعقدة والمرقطة، وهم يعلمون أن جُلَّ الشعب الفلسطيني يرفض مشاريعهم ويعارض
مخططاتهم، ولكنهم يريدون أن يصرفوا الشعب الفلسطيني عن الهدف الأساس والغاية
الأصيلة، ألا وهي مقاومة الاحتلال وطرده، وتفكيك كيانه وإنهاء وجوده، إذ هذا هو
السبيل الواقعي والمنطقي والوحيد لاستعادة أرضنا وتحرير وطنننا، وإقامة دولتنا
العتيدة الحرة المستقلة فوق كامل ترابنا الوطني الفلسطيني، وهذا ما يخشاه العدو
ويتحسب له، إذ يدرك أن عدم التفات الفلسطينيين إلى مشاريعه، وتركيزهم على مشروعهم
وهدفهم، سيقود حتماً إلى هزيمة كيانهم وإنهاء وجودهم.
رغم هذه القناعات
المطلقة لدى مختلف قطاعات الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية، بأن حقهم أبقى وطرد
الاحتلال أولى، إلا أنه يجب علينا نحن الفلسطينيين جميعاً، أن نقاوم هذه المشاريع
الصغيرة، وأن نتصدى لها بالقوة، وأن نقف في مواجهتها بصلابةٍ وعناد، إذ أن إسقاط
هذه المشاريع الصغيرة، وإفشال الأهداف الإسرائيلية الكبيرة، وإحباط جهودهم، وتيئيس
مستوطنيهم، سيقود حتماً إلى الانتصار الكبير والمواجهة الأساس، التي ستنتهي بإذن
الله بهزيمة الاحتلال وانتصار المقاومة، وبعودة الشعب ورحيل المستوطنين.
وحتى نستطيع تحقيق الأهداف المنشودة،
وإسقاط كل المشاريع المشبوهة، والانتقال إلى مرحلة المواجهة الشاملة والتحرير
الكلي، وصولاً إلى الآمال الكبيرة الموعودة للشعب والأمة، لا بد من برنامجٍ جامعٍ
يوحد القوى الفلسطينية، ويجمع شتات أقطابه وفعالياته، تكون فيه الرؤوية واضحة
وشاملة، والآليات متعددة ومتكاملة، والقيادة صادقة ومخلصة، تدفعها مصالح الشعب
وتحركها آماله، وتقلق لهمومه وتعمل من أجله، حينها تكون المقاومة شاملة وعامة،
والانتفاضة أداة، والحراك وسيلة، وكل أشكال النضال والمقاومة مشروعة، ليس فقط
لإسقاط مخططات الضم، ونحن بإذن الله سنسقطها، ولكن لشطب الاحتلال وإنهائه،
واستعادة فلسطين وتطهيرها، ولعلهم اليوم مثلنا يرون نهايتهم قريبة، كما نرى نحن
عودتنا أكيدة.
0 تعليقات