آخر الأخبار

آيا صوفيا والحسابات الخاسرة






عمر حلمي الغول

انقلبت حسابات الرئيس التركي، رجب طيب اردوغان كليا منذ انطلاق شرارة ما يسمى "الربيع العربي" عام 2011، حيث ظهرت حقيقته دون رتوش أو مساحيق، مع انكشاف نزعاته وانفتاح شهيته التوسعية في دول الوطن العربي والإقليم عموما بشكل ملفت، مما دفعه للتورط في الملفات السورية والعراقية والمصرية والليبية والسودانية والحبل على الجرار. هذا الانقلاب الدراماتيكي في السياسة التركية، الذي بدأ ب"تصفير مشاكل" عام 2002 انتقل إلى النقيض 360 درجة، عندما غاص حتى أذنيه في كم لا يحصى من المعارك مع دول الإقليم الشرق أوسطي، ومع دول الجوار الأوروبي وروسيا الاتحادية، وبنفس القدر، إن لم يكن أكثر مع الداخل التركي بدءً من حزبه "العدالة والتنمية"، والذي تمثل بانقضاضه على شركاء الأمس جميعا، إلى أحزاب وقوى المعارضة عموما والأكراد خصوصا في ديار بكر وفي الدول العربية، كل ذلك عمق أزمات السلطان العثماني الجديد، واضعف شعبيته بسبب تفاقم أزمات المجتمع الاقتصادية، وارتفاع نسبة التضخم وهبوط كبير في قيمة الليرة التركية، ونحم عن ذلك هزيمته النكراء في بلدية اسطنبول في آذار/ مارس 2019، التي تحمل مؤشرات هامة على انكفاء وتراجع مكانة الرئيس وحزبه حاليا ومستقبلا.

 

 

كل هذا دفع اردوغان للإيغال في التخبط، وفتح معارك باتت من الماضي، لا يحتاجها، ولا تخدم أهدافه وطموحاته الشخصية. بيد ان حساباته الضيقة أعمته عن رؤية الواقع بشكل جيد، وركض في متاهة خلفيته الإخوانية الإسلاموية مع إقدامه على تحويل التحفة المعمارية الحضارية ايا صوفيا إلى مسجد يوم الجمعة الموافق العاشر من تموز/ يوليو الحالي (2020) ضاربا عرض الحائط بمكانتها التاريخية، لا سيما وان منظمة اليونيسكو أدرجتها على لائحة التراث العالمي، وتعد من اهم المواقع السياحية في إسطنبول. لا سيما وأنها شيدت في القرن السادس الميلادي ككاتدرائية وكرسي للكنيسة الأرثوذكسية اليونانية، ثم تحولت في 1453 بعد دخول العثمانين لإسطنبول (الأستانة) إلى مسجد، وفي 1934 صادق اتاتورك على تحويلها إلى متحف لرمزيتها وجماليتها المعمارية بهدف "إهدائها للإنسانية".

 

 

من المؤكد أن من حق الرئيس اردوغان التمتع بالسيادة في وطنه ودولته، ولا يجوز لإحد التدخل في الشؤون الداخلية التركية. غير ان الصرح العظيم أيا صوفيا، وعلى اهمية بنائه علي الأرض التركية، غير انه من قرابة القرن بات جزءً من الإرث العالمي. فضلا عن ان تركيا ليست بحاجة إلى مساجد، وإن كان هناك حاجة لمسجد جديد، كان بإمكان الرئيس التركي بناء مسجد يضاهي ايا صوفيا في جماليته يخلد إسمه. اضف إلى ان مقاربته عملية التحويل لآيا صوفيا بما حدث في التاريخ الوسيط من تطور البشرية، الذي شهد تحويل العديد من المساجد إلى كنائس، لا يستقيم وما يدعيه من "الرغبة" في تعزيز الديمقراطية، وتعميق روح المواطنة التركية بين عموم مواطني الدولة، ولا مع الرغبة في الإنضمام لدول الإتحاد الأوروبي. كما ان تطور البشرية تجاوز تلك الخطايا والجرائم، وامسى العالم أكثر مدنية وإحتراما لإنسانية الإنسان بغض النظر عن دينه ومعتقده ولونه وجنسه. 

لكن المسألة ليست الحاجة لمسجد، ولا تندرج في الذرائعية الأردوغانية للرد على ما تم فيما مضى من التاريخ ، انما لفتح معركة دونكيشوتية هزلية ألبسها الثوب الإسلامي، معتديا على الحضارة الإنسانية، وفاتحا ابواب الصراعات الدينية على مصاريعها، وضاربا عرض الحائط بمبدأ التسامح الإنساني، ومتساوقا مع دولة الإستعمار الإسرائيلية، التي تستهدف حرف بوصلة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وتحويلها إلى صراع ديني من خلال السعي الدؤوب لبناء الهيكل الثالث (الذي لا اثر، ولا صله له بالأرض الفلسطينية العربية) على انقاض المسجد الأقصى. اضف إلى ذلك، اراد من خلال مسرحية تحويل ايا صوفيا إلى مسجد تعزيز شعبيته في اوساط الجماعات الدينية المتطرفة والمتأسلمين من بقايا الإخوان المسلمين، وسد جزء من الثغرة في رصيده داخل الشارع التركي. لا سيما وأن إستطلاعات الرأي تشير إلى ان هزيمته القادمة في الإنتخابات ستكون القاضية.

 

 

أخطأ الرئيس اردوغان كثيرا بحق نفسه وحزبه، وخسر كثيرا داخل تركيا، وأكثر في الساحات الإقليمية والعالمية، وليس فقط من البعد الديني لدى الطائفة الأرثوذكسية، وانما في اوساط العالم ككل. لإن هذا المرسوم أزال آخر أقنعة اردوغان "الديمقراطية"، وبان على حقيقته كرجل يميني محافظ، تملأه نرجسيته السلطانية إستعلاءًعلى الآخرين من بني الإنسان. وقد يكون المرسوم الجديد ضربة المعول الأخطر في عرش اردوغان.

 

 

 


إرسال تعليق

0 تعليقات