علي الحفناوي
وتوضيحا لحقيقة ما
ظهر فى فيلم ناصر 56، حيث طغت الحبكة الدرامية، استقطعت من مذكرات الوالد الأجزاء
التالية:
تلبية لاستدعائي من
المزرعة من قبل حكمدار الإسكندرية للقاءه، توجهت إلى دار هيئة التحرير
بالإسكندرية، حيث استقبلني بغاية الحفاوة كل من: الحكمدار المرحوم صديق عبد
اللطيف، والليثي شقيق المرحوم جمال عبد الناصر، الذي لم أكن أعرفه من قبل. وقد جيء
بأطباق من الكباب، وتناول ثلاثتنا وجبة غداء متأخرة، وأُبلغت القاهرة تليفونيا أني
في الطريق إلى الطائرة. وقـد رافقني إليها المرحوم صديق عبد اللطيف، ومع كل هذا
التكريم تغلب سوء الظن، ولم تفارقني هواجس الاعتقال فور هبوط الطائرة بأرض المطار.
ولكني وجدت سيارة (شيفرولية) كانت تنتظرني، ولقيت صديقا آخر يستقبلني وهو من رجال
الثورة، وكان من أقرب المقربين للمرحوم عبد الناصر، وهذا الصديق هو السيد/ إبراهيم
الطحاوي، الـذي أفهمني أنه كلف بمرافقتي إلى دار الرئيس الراحل بمنشية البكري،
وأنا أعرف الدار وترددت عليها ولقيني الرئيس فيها من قبل مرات.
وكان ذلك اليوم شديد
القـيظ، وكان الرئيس يجلس مع آخر بالحديقة، ولم أكن أعرف هذا الأخر يومئذ، ثم علمت
بعد انصرافه أنه (علي صبري) مدير مكتب الرئيس يومئذ للشئون السياسية، وأذكر أنه
بمجرد أن دخلت من الـباب الحديدي للدار، نهض الرئيس - رحمه الله - بمجرد أن لمح
وجهي، ولفيني في منتصف الحديقة وصافحني بحرارة، وقال في أدب جم: آسف أشد الأسف،
للطريقة التي استعملناها في إحضارك، فقد استعنا بالبوليس وأجهزة الأمن في القاهرة
والإسكندرية، فبحثوا عنك هنا في القاهرة، فوجدوا بيتك موصدا وكذلك مكتبك، واتصلوا
بنقابة المحامين وبجميع معارفك بالقاهرة للاهتداء إليك بدون جدوى، واتصلوا بنقابة
وكلاء المحامين للتعرف على وكيل مكتبك لعله يرشد عنك، بلا فائدة، ثم نجح بوليس
الإسكندرية، ولما عرف مكانك تم عمل الترتيب اللازم لنقلك بالطائرة.
واستطرد الرئيس جال
عبد الناصر، وقال: أتعرف لماذا دعوتك لمقابلتي؟
قلت: لا..
قال الرئيس إنه قرر
تأميم شركة قناة السويس... وتكريما للجهود الضخمة التي بذلتها في هذه القضية عهد
إلي بأن أكتب مشروع قرار جمهوري بتأميم الشركة، وأن الأمر جد عاجل، وأنه سيعلن هذا
القرار للعالم كله في خطاب، قرر أن يلقيه بميدان المنشية بالإسكندرية في الساعة
الثامنة من مساء يوم ٢٦ يوليو سنة ١٩٥٦.
وجرى بيننا حديث طويل
امتد إلى وقت متأخر من الليل، حيث طلب مني ـ رحمه الله ـ أن أبسط القضية، بدءا
بالتاريخ، منذ قناة فرعون، وألا أوجز قط، وقال: أنا لا عمل لي الآن سواك، ألديك
مانع من أن تستمر جلستنا إلى الصباح؟
وفى موقع آخر من
المذكرات، يقول الدكتور مصطفى الحفناوى: أوضح لى الرئيس أن أبناءه بالإسكندرية
وأنه بمفرده بالمنزل، ولا يوجد شخص سوى حرس البوابة الخارجية. ثم دخلت مع عبد
الناصر إلى حجرة مكتبه فوجدت المكان وقد افترشه كتبى وأعداد جريدتى ومستندات بكل
اللغات عن قناة السويس متناثرة فى أرجاء الحجرة. أتانى الرئيس بجلباب أبيض قائلا:
"ممكن تاخد راحتك بدل لبس البدلة فى الحر ده".. فلبس كلانا الجلباب
وجلسنا على الأرض لقراءة ومناقشة محتوى كل مستند يحتاج توضيح وتفسير.. وعند منتصف
الليل، قام الرئيس إلى حجرة الطعام وأتى بطبق به بعض قطع الكبد الباردة وبعض
الخبز، وقدمه لى موضحا أنه لا يبغى طلب مأكولات من خارج البيت حتى لا يعلم أحد
بوجودى.. واستمر حديثنا إلى فجر اليوم التالى حتى بدأت بصياغة مسودة قرار التأميم.
وانتهت المقابلة بأمر
من الرئيس بأن ألقاه في الليلة التالية، ومعي مشروع القرار الجمهوري، في ساعة
عينها، وتمت المقابلة في الليلة التالية بحجرة الرئيس بمبنى قيادة الثورة، وجرى
فـيها من الأحاديث ما جرى، وكان الأمر المشدد الذي صدر لي، هو ألا يعرف كائن من
كان، أني موجود بالقاهرة؛ وذلك مراعاة لأقصى درجات السرية، كي لا يتنبه العدو
فيأخذ حذره.
أما عن ملابسات إقامة
د. مصطفى الحفناوى في جاردن سيتى بالذات، فهى كما يلى:
فى عام 1951، وبعد أن
عاد مصطفى الحفناوى من رحلة فرنسا التى ناقش خلالها رسالة الدكتوراة فى جامعة
السوربون دفاعا عن حق مصر فى استعادة قناة السويس، وقد كان فى ذات الوقت يعمل فى
المحاماة في مصر، نقل مقر مكتبه إلى حى جاردن سيتى، على بعد خطوات من مقر شركة
قناة السويس بالقاهرة. وانتقلت كذلك أسرته للسكن بحى جاردن سيتى، على مقربة من
مكتبه... وكان هذا الانتقال مقصودا للتركيز على ملاحقة الشركة قانونيا فى كل
مخالفاتها الإدارية والمالية، حيث كان مقرها الرئيسي بنفس الحى.
وفى بداية عام 1952،
قام بشراء فيلا من فيلات هذا الحى، وأسس بداخلها دار نشر ومطبعة، أسماهما دار "زياد"
لمكافحة الاستعمار، حيث كان زياد اسم ابنه الذى توفى في حادث، ووضع لافتة مضيئة
عليها "المطالبة بتأميم قناة السويس"، وأصدر جريدة أسبوعية باسم "قناة
السويس"، تخصصت فى نشر المقالات المناهضة للاستعمار البريطانى والهجوم على
شركة قناة السويس ومخالفاتها. وفى ذات الوقت استخدم مكتب المحاماة الخاص به فى
الدفاع عن نقابات العاملين المصريين بشركة القنال، والترافع عنها مجانا فى مختلف
قضاياها ضد الشركة.
بالإضافة إلى كل ما أثاره
فى رسالة الدكتوراه، فقد تحول الدكتور مصطفى الحفناوى بذلك، إلى العدو اللدود
لادارة شركة القناة الأجنبية، خاصة الرؤساء والمديرين الذين تعاملوا معه فى فرنسا،
وقتما استطاع اقتناء وثائق هامة من داخل مقرهم بباريس، تلك الوثائق التى تدين
الشركة وتظهر تزوير مستندات تأسيسها... وقد اضطرت الشركة إلى تخصيص سكرتارية
متفرغة لترجمة كل ما يكتبه الحفناوى، سواء في مقالاته أو كتبه أو عرائض الدعوى
القانونية، معتقدين أنه يعمل بتوجيه من الحكومة المصرية.
وظل الدكتور مصطفى
الحفناوى منقطعا عن العالم، مختفيا بين جدران سكنه بالقاهرة إلى الساعة والدقيقة
التي تحدث فيها الرئيس وأعلن القرار، فانتقل إلى مقر شركة القناة بجوار منزله فى
جاردن سيتى..
وتوضيحا لطلب عبد
الناصر من الدكتور الحفناوى بالذهاب إلى منزله بجاردن سيتى، على ألا يتصل بأى شخص،
بما في ذلك أسرته، (حيث كنا نقضى أجازة الصيف بالإسكندرية)، فلم يكن الرئيس مدركا
لوجود مكتب للشركة في القاهرة، حيث اكتفت التقارير بالإشارة إلى مكاتب الشركة في
منطقة القناة... لذلك، عندما قام الدكتور الحفناوى بتنبيه عبد الناصر بوجود المقر
الادارى في جاردن سيتى حيث يقيم، فقد كلفه بالاستماع إلى خطابه الشهير
بالاسكندرية، على أن يتحرك من منزله بعد سماع ذكر اسم ديليسبس، للذهاب إلى هذا
المقر الادارى بالقاهرة، حيث ستنتظره قوة من الشرطة للاستيلاء على المقر، على أن
يقوم هو بالتحفظ القانونى على كل مستندات ومحتويات مقر الشركة.
وبالفعل، ظل قابعا
بالمنزل حتى سماع كلمة السر فى الإذاعة المصرية (ديليسبس)... فنزل من المنزل واتجه
إل مقر الشركة... فلم يجد أى قوة تنتظره سواء من الشرطة أو الجيش... فانتظر قليلا
ثم قرر الدخول إلى المقر بمفرده.
يتوسط المقر حديقة
جميلة، حيث وجد الحفناوى السيد "الكونت فيليب دى جرايـــي" جالسا مع
السيدة حرمه يحتسون الشاى، غير عالمين بما أعلنه رئيس الجمهورية منذ قليل عن تأميم
الشركة العالمية لقناة السويس. وكان هذا الكونت هو نائب رئيس الشركة المقيم بمصر
بدرجة "سفير الشركة". أما المدير العام، فكان مقيما بالاسماعيلية... وكان
الكونت يعلم من هو "الحفناوى" (عدوهم اللدود)، فنهض من مقعده قائلا: أنت؟؟
ماذا تفعل هنا؟؟!! فرد عليه: جئت استلم منك قناة السويس. فانزعج الكونت وقال له
ضاحكا: "لقد جننت!! لقد تصورت بعقلك المريض تحقيق أحلامك..!!"، وهمّ
بنداء الحرس لاخراج الدكتور الحفناوى المشاغب من المقر...
وفى تلك اللحظة، دخلت
قوات الشرطة بقيادة الضابط "التونسى" ومعه الصاغ "عطا محمود"،
الذى تم اختياره لاجادته اللغة الفرنسية (من خريجى مدارس الفرير) وعرف عنه الذوق
الرفيع وقمة الدبلوماسية. فقام عطا محمود باخبار الكونت بقرار التأميم بمنتهى
الذوق والديبلوماسية. هرع الكونت دى جرايي إلى الهاتف للاتصال بسفير فرنسا، الذى
أشار عليه بالتعاون مع المصريين حتى اشعار آخر. فتوجه إلى مصطفى الحفناوى وقال له:
"الليلة تحقق أحلامك، أما غدا، فسننتظر التعليمات التى قد تحولها إلى كابوس"...
ثم كان ما كان...
أما عن أسباب فرق
توقيت وصول الدكتور الحفناوى والشرطة إلى مقر الشركة، فقد كان هو مقيما على بعد
خطوات من الشركة، في حين أن الشرطة أفادت بالتوهان فى شوارع جاردن سيتى الدائرية.
0 تعليقات