عمر حلمي الغول
اليوم حلت الذكرى ال68
للثورة الناصرية البطلة، ثورة رجال نذروا أنفسهم دفاعا عن قضايا شعبهم وأمتهم
وشعوب الأرض المظلومة، ونجحوا في إنجاز مهام أساسية على المستويات الداخلية
المصرية والعربية والقارية والأممية، أحدثوا التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية
والثقافية، رغم كل التحديات التي واجهتهم على الصعود المحلية والعربية والعالمية. بيد
أنهم لم يرفعوا راية الاستسلام والهزيمة حتى في أحلك اللحظات، وأكثرها مرارة،
ولعلها هزيمة ونكسة الخامس من حزيران / يونيو 1967، تلك الهزيمة البشعة، التي
مازالت تدمي قلوب نخب وشعوب الأمة العربية حتى الآن، وإلى ان تزول نتائجها
الكارثية. لا سيما وإنها عمقت نكبة ال1948 التي أدمت وأصابت الشعب العربي الفلسطيني في مقتل، ليس هذا فحسب،
بل أنها عمقت النكبة على الكل العربي من المحيط إلى الخليج.
صحيح تمكنت حرب تشرين
أول / أكتوبر 1973 من إعادة الاعتبار للجيوش العربية، لكنها لم تدمل الجرح
الفلسطيني والعربي، لا بل عمقته، لان الأنظمة العربية ذات الصلة آنذاك لم تحسن الاستفادة
من إنجازات حرب رمضان، وولجت طريق الخطيئة السياسية بحرفها بوصلة الكفاح التنموي والتحرري
العربي، وذهبت بإرادتها إلى تشتيت وتبديد العمل العربي الرسمي المشترك، وقوضت حركة
التحرر العربية بأساليب شتى، دون التنكر لبؤس وتهالك واقع الأحزاب والقوى الوطنية
والقومية والديمقراطية، التي اضمحلت وتلفعت بعباءة الأنظمة الرسمية وتماهت معها،
وغرقت في مياهها الآسنة، وحتى الآن لم تقم لها قائمة. ثم جاءت حرب الخليج الثانية 1990/
1991 بتداعياتها لتهيل التراب على النظام الرسمي العربي مع احتلال العراق من قبل
حلف الشيطان الأميركي البريطاني ومن والاهم من عرب وعجم عام 2003. فتلاشت الجبهات
الشرقية والغربية قبلها، وتبوأ خصيان العرب المأجورين دور القيادة فضاعت الطاسة،
ولم يعد هناك رادع لوقف عمليات تفكيك وتفتيت المنظومة الرسمية ووحدة الشعوب والنخب
العربية عبر سياسة "فرق تسد" والحروب البينية، التي تكرست مع صعود دور
جماعة الإخوان المسلمين المشهد في "ثورات الربيع العربي" 2010/2011
ومازالت نتائجها وآثارها حتى الآن.
لم اشأ نكء الجراح بهذه
المناسبة العظيمة، غير ان المكاشفة المسؤولة تحتم وضع الإصبع على الجرح العربي
النازف، الذي تعمق أكثر فأكثر مع الأيام والسنين والهزائم والتفكك، والارتهان
لمشيئة الولايات المتحدة ودولة الاستعمار الإسرائيلية، وقلب معادلات الصراع
وأولوياته وأهدافه.
مع كل النتائج
المذكورة، لا يمكن تحت أي اعتبار التنكر لثورة تموز/ يوليو 1952 العظيمة التي
قادها الخالد جمال عبد الناصر، وشرعت وفتحت الأفق واسعا أمام التحولات التكتيكية
والإستراتيجية في الواقع العربي الشعبي والرسمي، ومنحت تيار القومية العربية فرصة
تاريخية غير مسبوقة للتأصيل للمشروع القومي النهضوي، الذي من واقع التجربة الحية
فشل في التقاط الفرصة واللحظة، وإنغمس في فتات غنائم السلطة. غير ان ذلك لم يسقط
حقيقة ثابتة وراسخة، ان الثورة وزعيمها ابو خالد اضاءت صفحة ناصعة في تاريخ العرب
الحديث على أكثر من مستوى وصعيد. ولإدراك الولايات المتحدة وربيبتها الاستعمارية
إسرائيل والغرب الرأسمالي وحلفائهم من العرب خطورة التجربة الناصرية المجيدة على
مشروعهم الاستعماري وضعوا كماً هائلاً من المشاريع والخطط التآمرية على ناصر العرب
ونظامه السياسي، وعلى كل رواد القومية العربية من المحيط الى الخليج العربي، حتى
تمكنوا من وأد وتهديم التجربة الناصرية الرائدة عبر أدوات مصرية وعربية، ارتضت بيع
نفسها وتاريخها بثمن بخس، قيمته البقاء على كرسي الحكم هنا او هناك.
كانت ثورة عبد
الناصر، ثورة كل العرب منارة لأحرار العالم في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية،
وتجلت في كل مظهر وتحول قومي او قاري أو أممي. كما ان زعيمها الخالد تبوأ مكانة أولى
في باندونج 1955، وفي منظمة الوحدة الأفريقية، وفي العالم، حيث كان ندا لكل زعماء
وقادة دول العالم. لم يهادن الاستعمار ولا حلفائه وأدواته حيثما كانوا، واي كانت
جنسياتهم، ولم يستسلم امام الغطرسة والعنجهية الصهيونية المدعومة من قبل الغرب
الرأسمالي، رغم هزيمة حزيران 1967، وقبلها واجه بقوة وشجاعة منقطعة النظير حرب
العدوان الثلاثي البريطاني والفرنسي والإسرائيلي في أكتوبر 1956، ودافع عن شعوب
الأمة بالمال والسلاح والجيوش والقرار السياسي،وبناء الوحدة المصرية السورية 1958/
1961، التي أفشلها البعثيون السوريون للأسف الشديد، وصنع المعجزات في مصر في الاقتصاد
والتعليم والثقافة والتسليح وبناء الجيش المصري العظيم ومؤسسات الدولة، ولم يترك
شاردة او واردة إلآ وكان له بصمة قوية فيها.
في ذكرى ثورة يوليو
المصرية المجيدة لا مجال، ولا يجوز إلآ التأكيد على دور القائد البطل جمال عبد
الناصر، كزعيم أول لها، وربان سفينتها، وحامل مشعلها ورايتها وأهدافها الوطنية
والقومية والأممية. عبد الناصر ترعرع في معمعان الكفاح على ارض فلسطين، ومات وهو
يدافع عن فلسطين في 28 أيلول / سبتمبر 1970، وقبل ان يحقق كل أحلامه وأهدافه
الوطنية والقومية. رحل الرجل القامة العبقرية، وصاحب الكاريزما الاستثنائية قبل الأوان.
لكنه لم يمت، ومازال حيا في ميراثه وإنجازاته ومواقفه البطولية، ومازال محمولا في
قلب كل إنسان عربي مؤمن بقضية العروبة، وفي كل بقعة من ارض العرب. لإنه حمل راية
القومية منذ وعي دوره السياسي والعسكري في الجيش المصري، وجير كل ما يملك وتملك
مصر من مكانة تاريخية وسياسية ودبلوماسية وعسكرية لرفع مكانة العرب، وأعاد الاعتبار
لمكانهم تحت الشمس، وفي سجل التاريخ القومي والإنساني. ومع انطفاء شمعة روحه
الوقادة غابت شمس العرب تدريجيا، حتى تم دفنها في عام 2003 بعد احتلال العراق
الشقيق.
رغم كل ما حل بالأمة
العربية، وتعمق التفسخ والتفكك والضياع، إلآ ان راية المشروع القومي العربي النهضوي
لم تمت، ولن تموت، وستنهض ذات يوم عما قريب قوى التغيير الحقيقية لتحمل معول الهدم
لجدران الفساد والخراب والاستعمار، وتعيد بناء صرح الأمة كما أراد عبد الناصر
ورواد القومية الأبطال من مختلف الشعوب العربية.
0 تعليقات