عز الدين البغدادي
عندما ينتصر طرف على
طرفٍ آخر، ويفرض عليه إرادته فإنّه يلجأ إلى التنكيل بالمهزوم، ومن ذلك أن يعمل
على منع أيّ وجود في المستقبل لهذا الطرف، وقد يعبّر عن هذا بأنّه إقصاءٌ أو عزل
أو اجتثاث أو غير ذلك.
هناك سؤال كائن يخطر
ببالي دائما وأنا أقرأ التاريخ: لمَاذا لمْ يقتل النبيّ (ص) أبا سفيان ومن هم على
شاكلته مما كانوا يعادون الدعوة ويحاربون أهلها؟ أما كان من الممكن أن نتخلّص من
كثير من الأمور التي أعقبت وفاة النبيّ (ص) من كيدهم ومكرهم؟
لكن عرفت بعد ذلك أنّ
النبيّ (ص) أراد أن نعرف شيئا أهم هو أنّ الإقصاء ليس منهجا صحيحا، وأنّ الحياة
تتسع للناس على اختلاف مسالكهم، وأنّ من الخطأ أن تتصوّر أنّك يمكن أن تطهّر
الحياة من هؤلاء أو ممن هم على شاكلتهم، لأنّهم من إفراز الحياة الاجتماعية التي
لا تكون بدونهم، بل إنّك لو أبعدتهم أو أقصيتهم فبدل أن تتخلّص منهم، فسوف تضاعف
قوّتهم وعددهم، وتجعل لهم شأناً أكبر مما لو تركتهم حتى يذوبوا في المجتمع.
وهنا أريد أن أنظر
للمسألة من ناحيتين: الشرعية والسياسية.
من الناحية الشرعية،
فإنّ هذا التصرّف ليس صحيحاً، وهو مخالفٌ قطعاً لأدلة الشرع وسيرة النبيّ (ص)، وهو
الّذي لقي من قريشٍ ما لقي، فلم يزده ذلك إلا عفوا وحلما فقال مقالته حينما دخل
مكة لأهلها: اذهبوا فأنتم الطلقاء. بل لقد سمع رجلا من أصحابه كانت بيده راية من
رايات الفتح ينادي يوم الفتح: اليوم يوم الملحمة، فأخذ الراية منها، وأعطاه لغيره
وقال: اليوم يوم المَرحَمة!!!! أي إن يوم النصر ليس يوم الانتقام، بل يوم المرحمة،
أي يوم التسامح! بل لقد قال النبيّ (ص) في ذلك اليوم: اليوم أعزّ الله قريشاً.
أي في اليوم الّذي
دُخِل على قريش في أرضها، جعله يوم عزّ لها بالعدل الّذي عمّ مكة وغيرها.
كان عكرمة بن أبي جهل
–كأبيه- من أشد الناس على الإسلام، ورفض مع جماعة أن يستسلموا يوم الفتح، وهجموا
على كتيبةٍ من جيش المسلمين عند جبلٍ الخندمة، فهزموا وقتل منهم من قتل. أي بقي
مصرّا على الكفر لآخر وقت، وعندما هزم فرّ إلى البحر، فلحقته امرأته بعد أن أخذت
له أمانا من النبيّ (ص)، وأقنعته بالرجوع معها. والعجيب العجيب أن لما وصل مكّة
قال النبيّ (ص) لأصحابه: يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنا مهاجرا، فلا تسبّوا أباه؛
فإنّ سبَّ الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت.
أي لم يكتفِ بإعطائه
الأمان حتى طلب من أصحابه أن لا يذكروا أباه بسوء عنده احتراما له، بل الأعجب أن
يقول: جاءكم مؤمنا، ولم يقل: جاءكم مسلما. ليبيّن أنّه محكوم عليه بالإيمان لا
بالإسلام فحسب.
أما سهيل بن عمرو،
فكان يقول عن نفسه: ليس أحدٌ أسوأ أثرًا مني على محمد وأصحابه، وقد توسط له ولده
للعفو عنه لكونه مسلما، وقبل النبي (ص) وساطته وأوصى به وقال: هو آمن بأمان الله
فليظهر. ثم قال لمن حوله: من رأى سهيل بن عمرو فلا يشدّ إليه النظر. فلعمري إنّ
سهيلا له عقل وشرَف، وما مثل سهيلٍ جهل الإسلام.
أليس هذا أمرا عجيبا؟!
يبلغ الأمر أن يأمرهم أن لا يشدّ إليه أحد النظر، أي لا ينظر إليه نظرةً فيها حدّة.
ثمّ لا يكتفي النبيّ (ص) بذلك، حتى يقول عنه أنّه صاحب عقل وشرف، ومثله لا يخفى
عليه أمر الإسلام.
كيف تتصوّر أن يكون
ردّ فعل سهيل عندما يبلغه ذلك؟
أما من ناحية
السياسة، فإنّ إقصاء أي فريق من الناس يؤلّبهم ضدّك، والحكمة تقتضي أن لا تصنع
عدواً لنفسك. وهؤلاء الّذين فرّقتهم الهزيمة جعلت لهم الإقصاء قضيّةً يلتفّون
حولها ويجتمعون إليها. وللأسف فإنّما ما كان مفهوما وواضحا عند كثير من الناس منذ
قرون لم يكن كذلك عند كثير من ساسة اليوم، وأنا أبيّن لك بمثلين ليبيّن لك أنّ
الحكمة التي كان يمتلكها أولئك ليس لها وجود في هذا الوقت:
عندما قتل مصعب بن
الزبير، دعا عبد الملك كاتبه، وقال له: لم يبقَ من أصحاب مصعب أحدٌ إلا كتب إليَّ
قبل المعركة يطلب الأمان. فقال كاتب مصعب: أيضا يا أمير المؤمنين لم يبق من أصحابك
أحدٌ إلا وقد كتب إلى مصعب بمثل ذلك، وهذه كتبهم عندي. فلما رآها عبد الملك قال: ما
حاجتي أن أنظر فيها؟ فأفسد صنائعي، وأفسد قلوبهم علي. يا غلام، أحرقها بالنار،
فأحرقت.
وعندما حدثت ثورة ابن
المعتز ضد الخليفة المقتدر بالله حصل شيء كهذا، قال مسكويه: عرَف المقتدر باللَّه
أنّه متى عاقب جميعَ من دخل في أمر ابن المعتزّ؛ فسدت النيّات وكثر الخوارج ومن
يخشى على نفسه، فيطلبون الحيل للخلاص بإفساد المملكة. وأشار بإحراق جميع الجرائد
التي وجد فيها أسماء المتابعين لابن المعتزّ فاستجاب إلى ذلك، وأمر ابن الفرات
بتغريق الجرائد في دجلة ففعل ذلك، وسكن الناس وكثر الشاكرون.
لاحظ، سكن الناس وكثر
الشاكرون، أي إنّه حقّق بذلك أمرين هامّين: الهدوء والأمن، حيث سكنوا، وأيضا حصّل
ولاءهم وشكرهم. لكن، من يفهم؟ ومن يقرأ؟
انظر لهذين المثلين،
لقد فكّر كل واحد منهما أنّ هؤلاء الّذين كانوا مع خصومهم إذا وضعهم موضع التشكيك،
فإنّ معنى هذا هو أنّه سيجعل من كلِّ واحد منهم عدّوا، وإذا لم يلتفت لذلك وتغابى،
فسيجلب قلوبهم إليه ويأمن شرّهم، فبدل أن يجعلهم أعداءً مبغضين يجعلهم أصدقاء
محبّين.
لذا، فإنّ كثيرا ممن
يتحدّث باسم السياسة الشرعية يجهل لا نظر الشرع لهذه المسائل فحسب، بل وكيف تعامل
معها القدماء من قبل ليكون لهم فيه درسٌ وموعظة.
والغريب أنّ هؤلاء لم
ينتفعوا بما يرون من خبرة الحكماء الّذين كانوا يرون بأنّ الأجدى أن تبنى الحياة
بالمودّة والثقة، بدل أن يبدّد جهده بهذا اللغو. إنّ ما تقتضيه السياسة هو غضّ
النظر عن بعض الأمور في سبيل تحقيق الأهم، لذا وفيما يتعلّق بالموضع فيمكن القول
بأنّ من لا يكون قادرا على أن يكون متسامحا، لا يمكن له أن يبني بلداً.
لذا، لا بدّ من
التسامح، مع تفهّم أنّ التسامح لن يلغي الماضي، لكنّه سيبني المستقبل. أما إذا
اخترت أن تبقى تنظر إلى الماضي فلن تفعل شيئا ولن تبني مستقبلاً.
0 تعليقات