د.حازم الرفاعي
يقف المريض المصري
هزيلاً شاحباً أمام طبيبه، فهو بالكاد يفك الخط العربي؛ فإذا بطبيبه هذا يرسم له
روشتة من عقاقير بخطوط لاتينية تكتسب قداسة فورية. ففي تلك القصاصة توجد سلسلة من
أدوية يعتقدها المريض ترياقاً يخفف آلامه، أو يهب من يحبه الشفاء. فلا عجب إذن أن
يسعى المريض للحصول على العقاقير التي وصفها الطبيب دون أدنى تغيير أو بحث لبديل. فروشتة
الطبيب تقترب في قداستها وغموضها من الحجاب المكتوب بالخط السرياني. فما هي حقيقة
تلك الروشتات؟ وكيف يحدد الطبيب أنواع العقاقير التي يصفها للمرضى؟ ولماذا تتفاوت
تلك العقاقير في أسعارها وأسمائها؟
وربما يجب أن نعرف أن
لأغلب العقاقير بدائل تماثلها تماماً تتوفر في السوق وفي العالم. فحقيقة الأمر أن
أغلب العقاقير الطبية هي مجرد سلعة. فلكل دواء من العقاقير الطبية ثلاثة أسماء: (اسم
كودي) يعرف به في أروقة ومعامل الجامعات والشركات أثناء تطويره، ثم (اسم علمي) يتطور
مرتبطا بتركيبته الكيمائية ثم (اسم تجاري). والأغلب أن لمعظم العقاقير العديد من (الأسماء
التجارية). فشركات الدواء حول العالم تنتج عقاقير متطابقة لأي دواء في أي مكان فور
سقوط الحماية الفكرية عنه، وفور توفر مادته الخام، ثم تسعى بهمة لتحويل ذاك الدواء
المتكرر إلى (منتج يبدو فريداً يرتبط به المستهلك) والذي نعني به المريض! تماماً
كما تقوم شركات الملابس أو الأحذية بالسعي لخلق ارتباط بمنتجها بينما هو في
الحقيقة مجرد حذاء أو (فانلة)!
ومن الأمثلة البسيطة
دواء علاج الصداع والأوجاع (البارسيتامول) وسميه التجاري (البانادول). فهما في
حقيقة الأمر ذات الدواء والمكون وذات المفعول إلا أن البانادول هو مجرد اسم تجاري
جرى تسويقه عالمياً فأصبح للاسم التجاري قيمة تتجاوز القيمة العلاجية ذاتها، فصار
المرضى أو المستهلكين يؤمنون أن ذاك غير هذا. فكيف يدرك الإنسان الفرق بين تلك
الأسماء المطلسمة بالغموض التي يروجها أطباء لهم في نظر مرضاهم قداسة تقترب من
شمهورش ملك الجان ذاك الذي يحيط به بخور وأحاجي الطب والشفاء. بل وكيف يتشكك
مريضنا هذا أن طبيبه الذي يراه رمزاً للعلم والحكمة والنبل قد تقاطع مع مندوبي
شركات العقاقير يحثونه على استخدام عقاقير بعينها.
وتسمح الدولة لشركات
الدواء بإنتاج عقاقير متماثلة للحصول على مزايا تسعيرية لصالح الناس، إلا أن الأمر
بما يفتحه من ثروات هائلة تحول بالطبع إلى مضمار للتنافس وللشبهات. تتنافس شركات
الدواء المصرية والعالمية إذن على الحصول على حق إنتاج تلك العقاقير المتماثلة، والتي
لا يجب أن يتجاوز عددها عشرة على الأكثر في مصر. تتنافس الشركات للحصول على حق
إنتاج تلك العقاقير، وللقارئ أن يتخيل مقدار الثروة التي تهبط على شركة ما، إذا
حصلت على حق إنتاج (دواء يتماثل) مع أول دواء في العالم لعلاج مشاكل العلاقة
الجنسية مثلاً. إن شركات الدواء تصطف للحصول على هذا الحق بكل الوسائل! أليس من
الأفضل أن يلغى التقييد على تلك المتماثلات ويترك الأمر للمنافسة على السعر فقط
وضمان جودة الإنتاج؟
وتنتشر في المجتمع
أيضاً قناعة يتم تداولها بين الأطباء والجمهور ويروجها بعض الصيادلة وهي أن شركات
الدواء المصرية تمارس الغش بشأن كمية المادة الفعالة المستخدمة في العقاقير التي
تنتجها. وتلك الإشاعة مفيدة بالطبع للشركات العابرة للقارات تحديداً وهي إشاعة
تحولت في أذهان البعض إلى حقيقة، نظراً لعدم معرفه الناس بحقيقة عملية إنتاج
العقاقير الطبية. فكل التشغيلات الصيدلانية في القطر المصري معروفة ومسجلة ومصرح
بها من وزارة الصحة ذاتها، وتخضع للتفتيش الصيدلي الدوري والمفاجئ. هذا التفتيش
يتحرى كم الإنتاج وعدد الأقراص المنتجة ومكان الإنتاج ومواصفاته، كما تتم اختبارات
تتحرى دقة التصنيع من كافة جوانبه، ومنها بالطبع كمية المادة الخام. بل وإن الأمر
أكثر تشددا في صناعه المضادات الحيوية، ففي تلك الحالة يتم (تشميع أي تشغيله) لتلك
المنتجات في مصانعها حتى يتم التأكد من مطابقتها للمواصفات في المعامل المركزية
لوزارة الصحة. وبالإضافة لكل ما سبق فإن دافع الغش التجاري في كمية المادة الخام غير
متوفر؛ فتكلفة المادة الخام الموجودة في أي دواء من الضآلة بحيث ينعدم الدافع لهذا
الغش.
العملية العلاجية
أوسع بكثير من استخدام العقاقير الطبية، لكن غياب الدولة عن الصحة بمفهومها الواسع
وغيابها عن ضبط العلاج وتقديم مصادر المعرفة للمرضي وللأطباء يتركهم نهباً لشركات
العقاقير. فتلك تتمدد في كل الدول الفقيرة ومنها المجتمع المصري من خلال ما يعرف
باسم (المكاتب العلمية). وتلك المكاتب العلمية هي في حقيقتها مكاتب للتسويق. ولن
أنسى كيف أن طبيبة بارزة بأحد الأقسام التي عملت فيها في بريطانيا كانت تمنعنا
كأطباء صغار من مقابلة مندوبي شركات الأدوية. حيث كانت تصف هؤلاء المندوبين بأنهم
تجار مدفوع لهم أموال للكذب لترويج عقاقير بعضها بلا فائدة وبعضها ضار.
إن ما نواجهه من
مشاكل في صناعة الدواء ليس أمراً خاصاً بمصر. ففي بريطانيا مثلاً لا يكتب الأطباء
الأسماء التجارية للعقاقير الطبية. وهذا في ذاته يقلب معادلات تجارة الدواء تماما.
فهو - بداية - يحاصر الخداع التسويقي للطبيب والمريض عن منتجات هي في حقيقتها
متطابقة. وتقوم الصحة البريطانية كمثال بشراء واستيراد ما تحتاجه من عقاقير من أي
شركة. وتتنافس الشركات في بريطانيا وحول العالم على السعر في عطاءاتها شديدة
التحديد والدقة في شروطها وأسعارها. ويصرف الأطباء البريطانيون العقاقير بأسمائها
العلمية؛ لذلك فالاسم التجاري لا قيمه له. وقد وفرت ميزانية الدولة في بريطانيا
مليارات الجنيهات نتيجة لهذا الأمر.
إن جزءاً كبيرا من
البحث العلمي في العالم المتقدم يتجه نحو استخلاص ما هو مفيد وما هو مضلل بشأن
العقاقير الطبية. ولقد أنشأت الدولة في بريطانيا في العقد الماضي (المعهد القومي
للتميز الإكلينيكي) وهو مؤسسه مستقلة تخلق المعرفة فلا راد لتقاريرها؛ ولا تهدف
إلا التحديد العلمي الدقيق لما هو مفيد، وما هو بلا أية فائدة علاجية حقيقية. فهكذا
تتكون لدى الطبيب قناعات علمية توصل إليها رجال ونساء هم علماء لا تحكمهم إلا
مصلحة المريض والإنسان. ربما يجب أن تختبر الدولة أفكاراً كتلك. وربما أتى أوان
منع الأطباء من استخدام الأسماء التجارية للعقاقير الطبية. وربما أيضاً أتى زمان
دخول الدولة في عملية توزيع عقاقير طبية بعينها من خلال (الجمعيات التعاونية) ذاتها
للسيطرة على سعرها وللتفرقة بين الغث والثمين.
من مقال نشر لي في
جريده الاهرام عام ٢٠١٧
0 تعليقات