آخر الأخبار

بهاء الدين عياد يكتب: ما لا يعرفه أحد عن سد النهضة!

 





بقلم/ بهاء الدين عياد*





يشغلني كصحفي وباحث مهتم بموضوع السياسات المائية Water politics عديد من الأسئلة التي تتعلق بسياسات نهر النيل منذ أن سمعت بهذا الحقل المعرفي خلال محاضرات أحد رواده وهو الأستاذ الدكتور محمد سلمان طايع الذي كان واحدا من العلماء الذين تتلمذت على يدهم في كلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة حيث تعززت الرابطة الأفريقية-النيلية بما درسته على يد الأستاذ الدكتور أيمن شبانة، وحتى صرت أعثر بفخر على عناوين بعض تقاريري وابحاثي في هذا الصدد ضمن مراجع الباحثين والمهتمين بأزمة سد النهضة الإثيوبي الكبير.



ولعل هذه المقدمة ضرورية لكي لا نواجه بطعن في شرعية توجيه بعض التساؤلات التي لا زالت تشغلني وتزداد إلحاحا مع غموض مقلق يخيم على المفاوضات المستمرة منذ 10 سنوات!! وهي “همّ بحثي” مشترك لجميع الباحثين المصريين المعنيين بالمسألة منذ أول مساهمة علمية تتعلق بصورة مباشرة بالسياسة المائية نشرتها وزارة الأشغال العمومية المصرية في سنة 1920، وحتى أصبح قضية رأي عام تلوكها كل الألسن المرتعشة قلقا على الماء في بلادي.



لقد تابعت من خلال علاقاتي المهنية بعدد لا بأس به من خبراء المياه في الدول أطراف أزمة سد النهضة وغيرهم من الخبراء العرب والأفارقة والأوروبيين، أن عدد لا بأس به من الخبراء وليس فقط المتابعين او المهتمين مثلي، لا يعرف يقينا مضمون وأبعاد أزمة سد النهضة، ولا الموضوعات الدقيقة التي يجري التفاوض بشأنها خلال المراحل السابقة، ولا حتى المعلومات الأساسية عن السد كطبيعة ومصادر تمويل إنشاءاته المختلفة، ومواقف الدول الكبرى من المشروع/ مساهمتهم به، أو حقيقة ما يشاع حول ارتباطه بمشروعات إقليمية وطموحات جيوسياسية للاعبين إقليميين أو مدى تموضع المشروع الإثيوبي وأخوته ضمن سياسات قوى عظمى تجاه قارة أفريقيا، وغيرها من الأمور الحيوية التي تمتد إلى طبيعة الطموحات الشخصية المرتبطة بالسد لدى قيادة النظام الإثيوبي وتفسير التأخر في بناء السد مقابل التسرع في حجز المياه وخاصة الملء الأولي الذي كان يمكن تأجيله لشهور من دون تأثير على جدول الملء المقترح من إثيوبيا، وغيرها من الموضوعات التي تجعل تناول تلك المسألة بصورة رصينة وعلمية، مهمة شاقة على أي باحث بل أي خبير في الملف وهم قلة يدعي بعضهم تخصصه بالملف بصورة إحتكارية، بينما يروج الآخرين منهم نظريات مؤامرة في الأحاديث الخاصة لا تستقيم مع أي منطق علمي سليم بما في ذلك القول بأن ما نشاهده مجرد “مسرحية” أو ربما “بروفة” مُصغرة لها.



وينبع ذلك من عدة أسباب، أولها أنه سد مبني بدون دراسات كافية، بخلاف التصميمات الهندسية للسد نفسه، بما في ذلك ما يرتبط بالطبيعة الجيولوجية لموقع السد والأثار المترتبة على ملء بحيرة السد وتشغيله على المدى البعيد هيدرولوجيا وبيئيا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، فضلا عن حرص الدول الثلاث طوال مراحل التفاوض على إحاطة الملف بسدود من الغموض و”رفعه” بغموضه إلى الوزراء ثم القادة كلما نشأت “عثرات” في سبيل الوصول إلى “اتفاق” لا أحد يعلم تحديدا موضوعه ولا بنوده المقترحة حتى ظهر ما ظهر من مبادئ وتسريبات أواخر فبراير الماضي مع نجاح الولايات المتحدة والبنك الدولي في الوصول إلى “وثيقة توافقية” وقعتها مصر من طرف واحد وسط انسحاب إثيوبي وامتناع سوداني عن التوقيع.



ولعل هذا الغموض كان له ما يبرره في بعض الأحيان، كالرغبة في تجاوز التوترات السياسية والإعلامية الناشئة عن التناول المغلوط أو المسييس/الموجّه للملف الغامض بطبيعته، ومن ثم دفع المفاوضات “وهي عملية سرية بطبيعتها” إلى الأمام في ظل إلتزام متبادل بالتعتيم الإعلامي، وهو أمر برعت أطراف الأزمة في الالتزام/الإلزام به، بصورة لا يمكن مقارنتها بأي إلتزام آخر يتعلق بالأزمة التي وصلت حاليا بعد السنوات العشر –وهي بالمناسبة 20 بالنسبة للمفاوضات وتصل إلى 70 في قراءات أخرى للخلاف المائي- إلى الخلاف حول أجندة المفاوضات من الأساس بل ولدرجة التعذر أحيانا بإرهاق بعض قادة وأعضاء الفريق التفاوضي أو انشغالهم بمسائل شخصية، بصورة أثرت أيضا على الخبراء والمتابعين ودرجة اعتقادهم بجدية/عبثية ما يتابعون في ظل سلوك تفاوضي اتسم في الغالب بمراوغات إثيوبية وتأرجح سوداني وتردد مصري، وإحجام من أطراف عديدة عن التدخل ولو بحسن نية.



ولكي لا ابتعد عن تساؤلاتي الملحة إلى الخوض في تقييم عملية “تفاوضية” لا تزال “قائمة” ومرشح أن تستمر بسماتها الراهنة لفترة قد تطول و تقصر أو تنتهي و تتجدد، لابد من الابتعاد عن تسييس المسألة بقدر الإمكان، فلا يوجد جدوى محققة لذلك خلال سنوات “التجربة والخطأ” في التفاوض، لكن ذلك لا يمنعنا من توجيه أسئلة ذات طبيعة سياسية لا أود سردها كلها لكي لا أزيد من غموض الملف الغامض، مع العلم أن الإجابات التي يوفرها كل طرف لا تتفق والمنطق العلمي الذي يحقق المصالح “المائية” لنفس الطرف، ولا تستقيم أيضا عند محاولة وضعها في معادلة سياسية محكمة تفسر المواقف المتضاربة للأطراف الثلاثة.



وعليه، فالدول أطراف الأزمة وعلى رأسهم إثيوبيا بطبيعة الحال، مدعوين إلى مزيد الشفافية ليس فقط في ما يتعلق بالمفاوضات، ولكن بشأن النهر والمشروع نفسه الذي تقول أديس أبابا أنه سيؤثر على حياة الملايين في إثيوبيا والمنطقة، بل سيؤثر على مستقبل النهر نفسه الذي قدرت أحدث دراسة عمره بـ30 مليون عام، إذ يبدو ورغم تفاقم “الأزمة التفاوضية” أن هنالك أمر واقع قد نشأ وظهرت معه إرهاصات “أزمة مائية”، ولكن لا زلنا لا نعلم أبعاد هذا الأمر “الواقع”، ولا أطرافه، ولا رهاناته ومآلاته المستقبلية أو على الأقل المنتظرة، فهناك من يقول أن إثيوبيا حققت الهيمنة المائية، وهناك من قال أن النيل أصبح بحيرة إثيوبية! وهناك من يروج أن “الملء” يتم بدون تأثر في ظل غزارة موسم الأمطار، فماذا عن سنوات الجفاف، وماذا عن طموحات تسعير/حجب المياه اذا بات الجفاف ممتد بفعل التغيير/التقلب المناخي الحتمي؟



وقد قامت إثيوبيا بخطوتها الإنفرادية بصورة لم تخل من التسييس المتعمد لتحقيق أهداف داخلية وانتخابية مباشرة وضيقة وعبر مراوغات رخيصة، فهل يمكن أن ترهن إثيوبيا ما تصفه بـ”القواعد الاسترشادية” لملء وتشغيل السد بمدى حاجة النظام الحاكم إلى تصريف المياه أو بمعنى أدق صرف الأنظار عن مشكلاته الداخلية المزمنة؟ وهل أيضا سيكون رد فعل دولتي المصب ومدى توافقهما الحتمي حول هذا المصير المشترك مرتبط بالمزاج المتقلب لعلاقاتهما الثنائية؟ إن هذه التساؤلات تتعلق بمستقبل مئات الملايين من البشر يعيشون في أوضاع متقلبة ضمن حدود دول حوض النهر التي تمثل نحو ثلث مساحة أفريقيا، ويعتمد على الأقل 100 مليون منهم على النيل فقط كمصدر وحيد للمياه، وهي المورد الذي لم تتورع دول منابعه في استخدامه قديما وحديثا كسلاح استراتيجي -بالمعنى الحربي المباشر وليس المجازي- حتى في ظل ذروة وباء كورونا، كما فعلت تركيا لاستهداف الأكراد السوريين خلال الشهور الماضية على سبيل المثال لا الحصر.



نهر النيل ملك لشعوب وادي النيل.







*بهاء الدين عياد



صحفي مختص بالشؤون الدبلوماسية وباحث في العلاقات الدولية وشؤون الأمن القومي.

 

إرسال تعليق

0 تعليقات