عز الدين البغدادي
كثيرا ما صرنا نسمع
تشكيكا بما يروى عن أحداث الثورة الحسينية، بسبب تأخر تدوينها وأيضا بزعم أن كثيرا
من رواياتها ضعيفة السند. وعند تنظر في خلفيات كثير من هؤلاء الذين يثيرون هذا الإشكال
ستجدها ترجع لأسباب علمية، بل لأسباب أخرى، فهناك من يشكك في كل شيء وعلى طريقة "خلقت
لكي أعترض" التي يتبناها بعض الحداثويين، وهناك من يشكك بهدف تغليب رؤيته
للتاريخ، وهؤلاء على صنفين:
الأول: يشكّك في كثير
مما يروى مع ادعاء أنّ ما يروى من حوادث أمور مبالغ فيها ولا يمكن إثباتها، وأنها
مجرّد أكاذيب، وهو معسكر يحاول بشكل أو بآخر أن يبرأ يزيد من جريمته، فمثلا زعم
ابن تيميّة أنّ سبي نساء أهل البيت كذب وانه لم يقع قط، كما إنّ هناك من قال بأنّ
يزيد لم يأمر بقتل الحسين، وأنّما ما روي في ذلك لم يثبت.
وأما الفريق الآخر،
فهو يحاول أن يبرّر ما دون في العصور المتأخرة من أكاذيب تتعلق بهذا لحدث، بحيث
إذا أنكرت شيئا مما روي في بعض الكتب التي شاعت وانتشرت رغم ضعفها مثل "المنتخب"
و"الروضة" "وأسرار الشهادة" و"الدمعة الساكبة" وغيرها؛
فإنه سوف يقول لك: وما هو المصدر المعتبر؟ إذا كان مقتل أبي مخنف هو أفضل ما لديك،
وهو ضعيف ورواياته مرسلة فما فضله على الكتب المتأخرة المملوءة بالكذب وما إلى ذلك
مما لا يقصد منه إلا تبرير الكذب. والغريب أن أحد هؤلاء ممن يدعي العلم كان يشكّك
بمقتل أبي مخنف إلا أنه يدافع باستماتة عن كتاب "المنتخب" للطريحي رغم
ضعفه الشديد.
بأي حال فإن ارتكاز نقدهما
على ضعف سند الرواية التاريخية هو أمر غير صحيح وغير مقبول أبدا، لأنّ الحديث
والتاريخ علمان متمايزان، لذا فإن من الطبيعي أن تختلف مناهجهما. وذلك أن مناط
قبول الحديث –من حيث الأصل- هو اعتبار سنده، وأما التاريخ فإنه يعتمد في قبول
الرواية على الشهرة وإمكان قبول الخبر بحسب ما يحتف به من قرائن، ولو لم يأخذ
المؤرخون إلا الصحيح لما كان هناك علم تاريخ أصلا، وبالتالي فلو أخذنا بالسند
لضاعت معظم معطيات التاريخ.
ومن اللطيف أن
الطرفين اتفقا على الطعن بمقتل أبي مخنف رغم اختلاف التهمة واختلاف الهدف من ذلك،
فهناك من يطرح روايته لأنه شيعي، بينما الطرف الآخر يطرح روايته لأنه مخالف‼
وعموما اذا وقفنا عند
كتاب أبي مخنف، وهو أهم مصدر تاريخي دوّن تلك الحادثة، فمن المؤكد أنّ أبا مخنف
مؤرخ مهم لا يمكن طرح رواياته لترّهات تصدر ممن لا يميز بين الحديث والتاريخ في
المنهج، وهو ما أقر به حتى ابن كثير على تعصبه، حيث قال: وقد كان شيعيّا، وهو ضعيف
الحديث عند الأئمة، ولكنّه أخباري حافظ، عنده من هذه الأشياء ما ليس عند غيره.
كما نقل ابن النديم
عن أهل العلم بأن أعلم الناس بأخبار العراق أبو مخنف.
كما قال عنه النجاشي:
شيخ أصحاب الأخبار بالكوفة ووجههم، وكان يسكن إلى ما يرويه.
ويقصد بأصحاب الأخبار
المؤرخين، وهذا وصف هام جدا يبين علو منزلته، وليس فيما قاله النجاشي دليل على
تشيعه –كما توهم البعض- لأنّ النجاشي ذكر كثيرا من العامة في كتابه كما لا يخفى.
بل ان دعوى تشيعه هو
تدليس مقصود من الأطراف الأخرى (السلفيّة) ليسقط روايته من الاعتبار، ولم يذكر أي
أحد دليلا على تشيّعه، بل لقد نفى ابن أبي الحديد ذلك، فقال: وأبو مخنف من
المحدثين وممن يرى صحة الإمامة بالاختيار وليس من الشيعة ولا معدودا من رجالها.
كما أكد ذلك الشيخ
المفيد في كتابه عن حرب الجمل وقد أورد أخبار حرب الجمل عن أبي مخنف والواقدي
وغيرهما وقال بعدها بأنه أورد في هذا الكتاب ما روي عن رجال العامة دون ماروته
الشيعة.
ومما يعطي اعتبارا
أكبر لروايته أنّ الرجل ولد سنة 57 ه، أي قبل الواقعة بأربع سنوات. كما إنه عاش في
الكوفة أي قريبا من موضع الحدث بحيث كان قادرا على تحصيل معلومات أكبر وأكثر دقّة
لا سيما عن حادث جلل كيوم الطف. كما إنه روى عن أشخاص شهدوا الواقعة ( ومنهم ثابت
بن هبيرة، ويحيى بن هاني بت عروة، وزهير بن عبد الرحمن بن زهير الخثعمي)، او عن
أشخاص سمعوا ممن شهدها ( مثل عقبة بن سمعان، وقرة بن قيس التميمي، وهاني بن ثبت
الحضرمي السكوني، وحميد بن مسلم الأزدي، والضحاك بن قيس المشرقي وعفيف بن زهير بن
أبي الأخنس، وعلى بن الحسين زين العابدين، ومسروق بن وائل، والطرماح بن عدي، وحسان
بن قائد بن بكير العبسي، وعبدالله بن شريك العامري، وأبو عمارة العبسي، والقاسم بن
بخيت، وأبو الكنود عبد الرحمن بن عبيد، وعباس بن جعدة الجدلي). كما إنّ من الصعب
أن تجد خبرا منكرا عند أبي مخنف، كتلك التي ظهرت فيما بعد عند ابن طاووس ومن بعده.
لذا، فأنا أعتقد أنّ
السابق في التدوين يمكن أن يكون حجّة على من بعده، ولا يمكن أن أساوي بين ما رواه
أبو مخنف وما رواه الدربندي في كتاب "اسرار الشهادة" بدعوى أنك إذا قبلت
ما روى أبو مخنف فلا بدّ أن أقبل ما رواه الدربندي لأنّ كلاّ منهما روى الخبر
مرسلاً، بل من باب أولى أن أقبل ما رواه الدربندي لأنّه من أهل العلم.
هذا غير صحيح، بل
الصحيح أنّ أبا مخنف حجّة على من بعده إلا إذا وجدت أخبار من مصادر أخرى يمكن أن
تكون أكثر قبولا، لذا فإنّ من المهم اعتماد المصادر القديمة التي لا يعرف صاحبها
بكذب ولا يعتمد روايات الغلو والغلاة.
هذا وقد كتب المعاصر
المحقق المحمودي كتاب "عبرة المصطفين في مقتل الحسين" في مجلدين، وقد
اعتمد في ذلك على أربعة مصادر وهي "مقتل الحسين" لأبي مخنف و"أنساب
الأشراف" للبلاذري و"الطبقات الكبرى" لابن سعد و"الأخبار
الطوال" للدينوري.
وقد أحسن جدّا فيما فعل.
0 تعليقات