الحداثة والسياسة
كريستوفر باتلر
ترجمة: شيماء طه
الريدي
مراجعة: هاني فتحي
سليمان
سوف تصبح أشكال
الحياة مثيرة بشكل ديناميكي. فالنوع البشري العادي سوف يرتفع إلى قمم مثيلة لأرسطو
أو جوته أو ماركس. وفوق هذه السلسلة الجبلية سوف تظهر قمم جديدة.
(ليون تروتسكي، «الأدب
والثورة» (١٩٢٣))
إن العصر الحالي
الجديد بصدد تكوين نوع بشري جديد؛ فالرجال والنساء في طريقهم لمزيد من الصحة
والقوة: هناك شعور جديد بالحياة، بهجة جديدة في الحياة. إن الإنسانية لم تكن أبدًا
أقرب في شكلها الخارجي وإطارها العقلي للعالم القديم أكثر من اليوم.
(أدولف هتلر، خطبة
ألقاها في افتتاح معرض «الفن الألماني العظيم»، ميونيخ، ١٩٣٧)
الفردي
والجمعي
حاول أندريه بريتون
فرض نظام شيوعي على أعضاء الحركة السريالية، برغم ما كان يعنيه هذا من قبول
للسياسة الحزبية. ففي مطلع عام ١٩٢٦، انضم إلى الحزب الشيوعي مع لويس أراجون وبول
إيلور، وبحلول نوفمبر ١٩٢٦، تم فصل فيليب سوبو وأنطوان أرتو لعصيانهما. وفي عام ١٩٢٩،
أرسل بريتون وأراجون خطابًا مشتركًا إلى ٧٦ من السرياليين ومن يُحتمَل تعاطفهم مع
القضية يسألان إن كانوا سيشاركون في النشاط المشترك. وعلى أساس الردود، تم فصل
أرتو مرة أخرى، مثلما فُصل جورج باتاي (الذي علق قائلًا: «كثر المتسكعون المثاليون»)،
وروبرت ديسنوس («كل النشاط الأدبي والفني مضيعة للوقت».) وكان روجر فيتراك وجاك
بيرون ضمن اﻟ ٥٦ مدعوًّا الناجين من الفَصْل. وتشكلت الحالة السياسية الجديدة في «البيان
الثاني للسريالية» الذي صدر في ذلك العام، وأدت إلى انقسامات عقائدية وإدانات، من
خلال البيان، وتغيرات ذات تعقيد هائل في التنسيق والحشد.
لذا فقد وقعت النمذجة
الذاتية ذات الطابع البطولي التي ورد وصفها في الفصل الثالث تحت ضغط حادٍّ، ليس
فقط داخل الحركة السريالية، وإنما بوجه عام. وهذه هي النقطة التي نبدأ عندها في
رؤية الادعاءات الحادة التنافس فيما يتعلق بالأنماط البطولية في الحقبة الحداثية؛
فعلم النفس السياسي الجمعي كان يطالب بتأييد «الواقعية» و«الموضوعية» ضد الفردية
التمييزية ذات النزعة الجمالية لدى السرياليين ومعظم كُتاب وفناني حقبة الحداثة
الفائقة الآخرين. وكان لهذا الصراع عواقب مريعة؛ فقد أظهرت محاكمات موسكو، على
سبيل المثال، كيف كان يمكن، في ضوء تاريخ ثوري محدد مسبقًا، النظر إلى سلوك البشر
فرادى «بشكل موضوعي»، شأنه شأن سلوك جماعة برجوازية ضد الثورة، بعيدًا عن أي نوايا
واعية ربما كانوا يضمرونها كأفراد.
تركز رواية آرثر
كوستلر «ظلام في الظهيرة» (١٩٤٠) على التساؤلات والأفكار الخاصة لأحد الشيوعيين،
ويدعى روباخوف، بينما ينتظر الموت في أحد السجون السوفييتية. إنه يعلم أن «الجمع
هو التجسيد للفكرة الثورية في التاريخ. والتاريخ لا يعرف هواجس ولا تردد». وفي وقت
لاحق نجده يكتب في دفتر يومياته:
منذ فترة قصيرة، قُتل
خبيرنا الزراعي البارز، بي، مع ثلاثين من معاونيه؛ لإصراره على الرأي القائل بأن
سماد النترات الاصطناعي يتفوق على السماد البوتاسي … إن خبراء أخلاقيات الكريكيت
يراودهم القلق … بشأن ما إذا كان الخبير بي حسن النية شخصيًّا حين قام بتزكية النيتروجين
… هذا بالطبع محض هراء؛ ولما كانت مسألة حسن النية الشخصية غير ذات أهمية؛ فلا بد
للمخطئ أن يدفع الثمن، والمصيب سوف يُبرَّأ. ذاك هو قانون الثقة التاريخي؛ وقد كان
قانوننا.
من خلال هذا، يبدو
طرد السرياليين الفرنسيين أمرًا تافهًا نسبيًّا، ولكن كانت هناك قضية عامة هنا
تتعلق بعلاقة الفنانين الحداثيين بالثقافة في العموم. وهي قضية مهمة.
لقد ذهبت على مدار
الكتاب إلى أن الفن التجريبي يميل إلى تشجيع الهدف الواقعي الأسمى للمكسب المعرفي،
وكان بالنسبة لناقد ماركسي مثل جورج لوكاتش، ومناهض للفلسفة البرجسونية مثل
ويندهام لويس في روايته «الزمن والرجل الغربي» (١٩٢٧). كان هذا بمنزلة النظر في
المكان الخطأ؛ فقد ذهب لوكاتش في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين، واضعًا كافكا في
الاعتبار، إلى أن الحداثيين يحولون الواقع الاجتماعي إلى كابوس مُحمَّل بالغضب
ومنافٍ للعقل؛ ومن ثم يحرموننا من أي إحساس بالمنظور. ويزعم أنه لا بد للأدب أن
يستغل الإرث البرجوازي بشكل نقدي؛ ومن ثم لا بد أن يكون لديه مفهوم إنساني-اجتماعي
واضح لما هو «طبيعي». وهذا هو ما تستنكره الحداثة، من وجهة نظره؛ إذ يرى أنها
عاجزة عن خلق «أنماط» مستمرة وقابلة للتصديق، وتمجد النزعة اللاإنسانية والانحراف
عن المنطق السوي، ويدافع عن واقعية القرن التاسع عشر التي قوَّضها الحداثيون؛ ومن
ثم عن تفضيلاته لكتاب على شاكلة مكسيم جوركي، وتوماس وهنريتش مان، ورومين رولاند؛
لأن الاختبار لأي أسلوب فني هو اختبار سياسي؛ وهو ما ينظر إليه لوكاتش الماركسي
كنزعات «تقدمية»: «ما الاتجاهات التقدمية في أدب اليوم؟ إن قَدَر الواقعية غير
محسوم.»
على سبيل الإيضاح، ما
عليك إلا أن تقارن «الكياسة البرجوازية» لتوماس مان بسريالية جويس. في عقول أبطال
كلا الكاتبين نجد استحضارًا حيًّا واضحًا للتفكك والتوقفات، والتمزقات الأنثوية، و«التصدعات»؛
التي يعتقد بلوتش، بشكل صحيح للغاية، أنها سمة نمطية للحالة الذهنية لكثير من
الناس ممن يعيشون في عصر الإمبريالية.
هنا يتوقع لوكاتش
التحليل التقويضي للوعي الذي قدمه جيل لاحق من «الماركسيين الغربيين»، ولكن
الإخفاق هنا في إدراك حقيقة أن الحلقة السريالية الحقيقية الوحيدة، على سبيل
المثال، في يوليسيس (سيرس) كوميدية، وتشمل نقدًا حادًّا لأبطال القصة الأساسيين،
بأسلوب فرويدي صوري، ليس الشيء الوحيد الذي اتضحت أهميته، وإنما الرفض الضمني
المستتر للخطاب النقدي المستقل، كخطاب هذا الكتاب، تحيزًا لحكم جماعي (غالبًا ما
يصاغ في الواقع من قبل الجمع)؛ إذ إن «الحشود الغفيرة … لا يمكنها تعلم شيء من
الأدب الطليعي؛ لما يشوب رؤيته من غلُوٍّ في الذاتية، والارتباك، والتشوُّه». والشرط
الواجب توافره لحدوث هذا التعلم هو التقنية التقليدية المعتمدة؛ وهي الواقعية، إلى
جانب توافر الصلة «المناسبة» بالمجتمع:
أن يمتلك كاتب علاقة حية
مع الإرث الثقافي يعني أن يكون ابنًا للشعب، يحمله تيار تطور الشعب. وبهذا المعنى
يكون مكسيم جوركي ابنًا للشعب الروسي، ورومين رولاند ابنًا للشعب الفرنسي، وتوماس
مان ابنًا للشعب الألماني.
عند هذه النقطة تلتقي
الشمولية الماركسية والنازية في ازدرائهما لما هو «غير طبيعي».
وقد عرَّف إريك
كوفمان صعود الحداثة بوصفها «حركة علمانية عظيمة للفردية الثقافية اجتاحت الفن
والثقافة بعد عام ١٨٨٠، واخترقت ببطء المقياس الاجتماعي لتحرير التوجهات في عقد
الستينيات من القرن العشرين.» وكما رأينا، هذا هو الموقف، بصفة عامة، على الرغم من
أنه كان هناك أيضًا، داخل الحركة الطليعية التجريبية الحداثية، فنانون لديهم نزعة
في الاتجاه الجماعي المضاد (كما في الحركة الاتفاقية المبكرة، وفي بعض الجوانب
الفاشية الأولية من الحركة المستقبلية)، ولكن كلما توغلنا داخل التوترات السياسية
لحقبة الثلاثينيات من القرن العشرين، نجد أزمة متنامية بالنسبة لجميع الفنانين بين
الاستبطان، وتأكيد الذات والتعبير الفردي، ومزاعم الجماعية. ومن المثير، على نحو
خاص، أن نرى الطرق التي حاول بها بعضهم التوفيق بين تقليدٍ تجريبيٍّ وفرديٍّ،
والدعم الذي يقدمونه للحراك السياسي الجماعي. فكان داي لويس، على سبيل المثال،
يعتقد أن الشعراء كانوا «على وعي شديد بالعزلة الحالية للفرد، وضرورة وجود كائن
اجتماعي؛ لعله يستعيد فكرة التبادل والمشاركة». وكان جورج أورويل يرى بالنظر إلى
الوراء أن بعض الحلول المطروحة لهذه المشكلة لم تكن جيدة:
لقد خرجنا فجأة من
ظلام الآلهة إلى جو أشبه بجو كشفي من الركب العارية والغناء الجماعي؛ فالأديب
العادي بصدد الكفِّ عن أن يكون غريبًا مثقفًا يميل نحو الكنيسة؛ ليصبح طالب علم ذا
عقل متلهف يميل نحو الشيوعية.
عبادة القوة
كان البحث عن الولاء
الجماعي، في نظر العديد من الحداثيين خلال تلك الحقبة، بحثًا زائفًا؛ فهو لم ينبع
من رغبة للتجانس والتوحد وجدانيًّا مع أي مجتمع بعينه، ولكن للتوحد مع قائد بطولي
استطاع حل مشكلات هذا المجتمع. وكان سيسيل داي لويس يرى هذا أيضًا:
ها هو تأثير دي إتش
لورانس يساعد مرة أخرى في تشويش القضية هنا؛ فنجدها تكمن، على سبيل المثال، في
انشغال أودن بالبحث عن الرجل القوي بحق (في «الخطباء»)، وفي تبشير لورانس بالخضوع
الروحي للفرد العظيم: «كل البشر يقولون إنهم يريدون قائدًا. فلتدعهم داخل أرواحهم
يخضعون لروح أعظم من أرواحهم.» وعلى الرغم من أن هذا لا يتناقض بالضرورة مع
النظرية الشيوعية، فمن المحتمل عمليًّا أن يضفي طابعًا فاشيًّا أكثر منه شيوعيًّا
على الشعر.
إن عبادة الفرد «القوي
بحق»، باعتباره القائم على تطبيق المسئولية الجماعية، توازي نزعة الفاشية لعبادة
القوة، والتي يتبناها دي إتش لورانس من عدة أوجه في روايته «الأفعى ذات الريش» (١٩٢٧)،
وتناولها صديقه ألدوس هكسلي بالهجاء في روايته «نقطة مقابل نقطة» (١٩٢٩).
لم تكن فكرة البحث عن
قائد قوي تروق كثيرًا لبرتولد بريخت، الذي قام في أمريكا بتلخيص «أوبرا البنسات
الثلاثة»، من خلال كتابة مسرحية في عام ١٩٤١ عن هتلر في شخصية رجل عصابات من
شيكاجو. وهو ليس الكاتب السياسي الوحيد الذي واجه التوتر بين الفرد والمجتمع، ومر
بفترة أيَّد فيها هو نفسه فكرة الخضوع لسلطة سياسية، لتجسيد لاحق للسياسة اتسم
بالطابع التجريبي والحداثي بوجه عام (وقد شاهدنا بدايات هذا خلال مناقشة «أوبرا
البنسات الثلاثة» عام ١٩٢٩، في الفصل الأول). وقد قام في مسرحياته التي ألَّفها
خلال سنوات أزمة جمهورية فايمار، من عام ١٩٢٩ حتى عام ١٩٣٢، بتطوير شكل من المسرح (هو
«المسرح التعليمي»)، وفيها كان يتم حث الناس من الطبقة العاملة على استكشاف
القضايا السياسية الحيوية عن طريق التناوب في أداء أدوارهم الاجتماعية المختلفة
ومواقعهم التكتيكية. وقد صُممت هذه المسرحيات فقط لكي تؤدَّى للجماهير
البروليتارية وبهم، وإبعادهم عن تأثير الفكر المثالي والمتزمت «البرجوازي».
تم تعديل نص أوبرا «القائل
نعم» كأوبرا مدرسية على يد إليزابيث هوبتمان وبريخت بالاشتراك مع فايل، وهي مأخوذة
عن مسرحية يابانية (بعنوان «تانيكو» حسب ترجمة آرثر والي). تدور القصة حول أربعة
شباب في رحلة جبلية خطيرة حيث يصاب أصغرهم بالمرض. هل يجب أن يعودوا أدراجهم؟
يوافق الصبي الصغير على ضرورة استمرار المهمة، ويغلق الثلاثة الآخرون أعينهم (حتى «لا
يشعر أحدهم بالذنب أكثر من الآخر») ويلقون به من أعلى الجبل ليلقى حتفه. ويعلق روس:
«ربما تكون السياسة مناقضة لسياسة هتلر، ولكن هناك نفس التوصيف الخرافي للمجتمع،
نفس الإغفال لقدسية الحياة.» لا سيما من حيث إن المغزى الأخلاقي للعمل هو «من
المهم فوق كل شيء أن تتعلم الإذعان». وقد عُرضت مئات المرات في المدارس في برلين
وأماكن أخرى.
تعتبر مسرحية «القرار»،
الصادرة عام ١٩٣٠ أيضًا، التي كتبها بريخت لموسيقى من تأليف إيسلر، نموذجًا آخر للمسرحية
الرمزية ذات المغزى الأخلاقي، وتتحدث بشكل مباشر عن الصراع بين الولاء للمبدأ
السياسي والحق الأدبي (في التعبير الحر). وتُعدُّ أيضًا نصًّا بالغ الأهمية
للتمييز بين ثقافة تُدافع عن الفرد والهوية الجماعية التي تخوَّل من خلال عضوية
حزب سياسي. تُعرض القضايا في هذا العمل بوضوح صارخ يتجاوز الانجذاب النفسي
والسريالي للظلاميين للتحول الداخلي (الذي لم يكن لدى بريخت وقتٌ له)، على الرغم
من أن مسرحيته تدور حول شاعر تعبيري يدعى بال. تدور مسرحية «القرار» حول مجموعة من
العملاء الشيوعيين المتخفين في الصين لديهم رفيق شاب يعرِّض مهمتهم للخطر بسبب
إشفاقه على المضطهدين والمستضعفين، فيقال له إنه لا بد أن يموت، فيذعن لهذا، بل
ويخطط له: «لا بد أن تلقوا بي في أحد المحاجر الجيرية … لأجل مصالح الشيوعية
المتوافقة مع تقدم الحشود البروليتارية في جميع الأراضي.» وقد كتب هانز إيسلر ترنيمات
باخية لتعزيز الاستنتاج النهائي المريع للمسرحية أن «الأفراد لا يعتبرون سوى جزء
فقط من الكل.»
___
المصادر:
الحداثة مقدمة قصيرة
جدا.
0 تعليقات