آخر الأخبار

البحث عن أوروبا

 




 

شهرت العالم

 

ترددت كثيرًا في نشر الفصل الثالث من كتاب البحث عن أوروبا اليوم، فاليوم يوم حزين .. استيقظت فيه على خبر وفاة الصديق العزيز عبد الرحمن حجازي. لكنني، في إطار تداعي الذكريات، تذكرت أن عبد الرحمن أرسل لي مؤخرًا صورة وليد جميل رُزق به وقال انه اسماه محمود ... وتذكرت مناقشاته مع والدي ومساعدته لي في إصدار الأعمال الكاملة ... اهدي هذا الفصل اليوم إلى الزميل  والصديق العزيز عبد الرحمن حجازي

 

 

الخلاص ... بالخنافس

 

لم يعُد المطر يشغلني في هامبورج. أحسست به عقيمًا غير مُجدٍ. كانت الأرض من حولي تتفجر بالخضرة، غير أني كنا أبحث عن اخضرار العقول والقلوب.

 

وذات مساء، امتلأت شوارع هامبورج بآلاف الطوابير، وماجت المدينة بشباب في عمر الزهور يتزيا بأزياء غريبة، ويتدافع في عصبية بالغة إلى حديقة النباتات والزهور، لحضور حفل غنائي للخنافس.

 

وما انتهى الحفل، حتى انقلبت المدينة رأسًا على عقب، خرجت الطوابير هائجة تجري في الشوارع في انفعال وتوفز، تفجر الفوضى والشغب والصخب في كل شيء.

 

ووقفت أتأمل فصلاً جديدًا من فصول الحضارة الأوروبية. الشباب الأخضر يتطاير رمادًا في الهواء!

 

الخنافس وحدهم هم الذين يفجرون الحماس في قلوب هؤلاء الشباب. ولكنه حماس همجي أجوف، خال من خُضرة المعاني والقيم، لا شيء إلا أن تشتعل به النفس وتتوتر وسرعان ما تخمد، بغير حصاد.

 

لقد أحسست في طوابير الخنافس وفوضاها وصخبها وتوترها السطحي، معادلاً تتوازن به نفوس هذا الشباب الذي تستهلكه الحياة اليومية بآليتها الباردة، وعلاقاتها الخالية من العواطف .. إن موسيقى الخنافس صدمة عصبية تحرر النفس من الملالة والرتابة، وتخرج بها من أسوار الحياة اليومية المُجدبة، ولكن إلى أين .. إلى لا شيء .. إنهاخلاص مؤقت للنفس، ولكن بغير خلاص!

 

على أن موسيقى الخنافس ليست التحرر العصبي الوحيد من الأسوار في ألمانيا الغربية.

 

فالحدائق العامة كذلك بغير أسوار. وفي أمسيات السبت والأحد من كل أسبوع يتجمع الناس في هذه الحدائق ويتحلقون جماعات جماعات، تصغر أو تكبر، تضيق أو تتسع، ثم يدور بينهم حوار مفتوح بغير أسوار. على أنه في بعض الأحيان يصبح نوعًا من الصراخ الهمجي، يهز الملالة ويزيل إلى حين بقايا أسوار المدينة التي لا تزال عالقة بالنفس داخل الحدائق.

 

على أن هذا الحوار المفتوح في الحدائق، تقليد جديد في ألمانيا الغربية.

 

فلم تُرفَع الأسوار عن حدائق الحوار المفتوح إلا منذ بضعة أشهر. ولست أدري كيف بدأ هذا التقليد في حدائق هايدبارك في لندن. ولكني أكاد أعرف كيف بدأ في ألمانيا الغربية.

 

إنه نوع آخر من الخنافس، وإن يكن على مستوى فكري. نوع من التنفيس تتعادل به العقول إزاء ما تعانيه من كبت فكري قاتل في حياتها اليومية طوال الأسبوع، إنه جزء من عطلة نهاية الأسبوع، عطلة من أسوار الفكر وقيود الحرية!

 

وقد يبدو غريبًا إن قلت من البداية أن هذا المجتمع الأوروبي في ألمانيا الغربية، الذي يُكثِر الحديث عن الحريات ويُكثِر التشدق بالديمقراطية الليبرالية، تكاد تدور أغلب أحاديثهالصريحة همسًا، وتكاد بعض قضاياه الفكرية والسياسية أن تكون نوعًا من المُحرمات.

 

من ذا يستطيع أن يجهر برأيه في اليهود، إن كان له رأي مخالف للرأي الرسمي. هناك قانون سوف يأخذ بخناقه لو جهر بهذا الرأي، ولن يتركه قبل بضعة أشهر يقضيها في السجن.

 

من ذا يستطيع أن يجهر برأيه علنًا في سيطرة الأمريكيين وتحكمهم في كل شيء. حقًا، لقد رأيت منشورًا يوزع في جامعة هامبورج ضد العدوان الأمريكي على فيتنام، وتابعت مظاهرات للطلبة تخرج في هامبورج وبرلين تندد بهذا العدوان، ولكني رأيت كيف يتصدى لها البوليس بالعنف البالغ، وكيف تمتلئ السجون بعشرات من المشاركين فيها.

 

وما أكثر الندوات الجامعية التي تغلي بالأفكار الثورية الحقة، ولكن ما أكثر ما يلاقي أصحاب هذه الأفكار من صعوبات ومشاكل في حياتهم الجامعية وحياتهم العامة كذلك.

 

هناك الحزب الوطني الألماني مثلاً، إنه حزب جديد متهم بالنازية، وله مواقف معادية للأمريكيين واليهود على السواء، وهو كذلك مُعاد للشيوعية. وما أشد ما يُحارَب هذا الحزب لا لأنه حزب نازي .. فما أكثر النازيين المعروفين بجرائمهم خلال حكم هتلر الذين يتولون اليوم أرقى المناصب الرسمية وأخطرها في أجهزة التوجيه الاقتصادي والثقافي والسياسي والاجتماعي.

 

وإنما يُحَارَب هذا الحزب لموقفه المعادي للسيطرة الأمريكية أساسًا. إن زيارة واحدة لهذا الحزب كفيلة بأن تُعرّض صاحبها للمشاكل بقية حياته.

 

وفي البيوت يتحدث الناس همسًا عن الأمريكيين، ولكنهم سرعان ما يقولون: مالنا وهذا ... نحن نريد أن نعيش.

 

هل تستطيع الجرائد والمجلات أن تكتب خارج السياسة التي ترسمها مصالح الأمريكيين والاحتكارات المحلية .. مستحيل. إن الجرائد والمجلات جميعها تكاد تخضع لاحتكار واحد، يقف على رأسه رجل واحد هو شبرينجر، إنه الممثل الرسمي لسلطة الاحتكار والاحتلال. فإذا خرج صحفي عن الخط المرسوم تكفلت السلطات البوليسية بتأديبه. وما أكثر الأمثلة على ذلك.

 

قلت لأحد أساتذة الجامعة في هامبورج ذات يوم: هل تقرأون ما تصدره ألمانيا الشرقية من جرائد ومجلات ونشرات، فقال لي في خجل: إنها ممنوعة بحكم القانون.

 

والتقيت ذات مساء بشاب ألماني يدرس القانون، وراح يتطاول على مفهومنا الخاص بالديمقراطية، ويتفاخر بمفهومهم الليبرالي. ولم تُجد معه المناقشة النظرية. فقلت له أخيرًا: أين هذه الديمقراطية الليبرالية التي تحدثني عنهافي بلادكم. إنني رغم اختلافي معها لا أكاد أحس بها.

 

فقال لي: كيف؟ قلت له: إن جميع البلدان التي تتبنى الديمقراطية الليبرالية، تسمح للماركسيين بإقامة حزب خاص لهم، فهل تضيق ديمقراطيتكم الليبرالية منهم. أين هذه الليبرالية إذن؟ ولم يجب بشيء. وما أكثر الذين يسكتون في ألمانيا الغربية عند الحديث عن الديمقراطية، عن تغلغل النازيين في مختلف أجهزة الحكم، عن سيطرة الأمريكيين والصهاينة، عن الاتجاه العسكري في بلادهم.

 

ولهذا أبصرت بالأسوار في كل مكان، تكاد تخنق الحوار الحُر، وتدفع بالفكر إلى أدراج مقفلة، أو شعارات محفوظة.

 

وإذا كان التوتر الخنافسي شكلاً من أشكال التمرد على آلية الحياة اليومية، واصطناعا لحماس أجوف خال من المعاني والقيم، فإن انفتاح النقاش في الحدائق بغير أسوار هو شكل آخر منظم من أشكال التنفيس عن الكبت الفكري الذي يعانيه المواطنون في ألمانيا الغربية.

 

ولكن إلى أي حد زالت الأسوار عن هذه الحقائق؟!

 

واتجهت إلى حديقة كبيرة تقع أمام محطة دامبر في هامبورج. كانت تمتلئ بالناس. بعضهم جاء للتنزه، وبعضهم لتعاطي الحب، وبعضهم لاستعراض الأزياء، وبعضهم للمناقشة، والحديقة تتسع لهم جميعًا.

 

وما أن وجدت نفسي في أحد ممرات الحديقة، متجهًا إلى بعض الحلقات المتناثرة في جوانبها، حتى استقبلني في الممر شاب فارع الطول يتهدل شعره الأصفر على كتفيه، ويسير في استرخاء مبتذل، يرتدي بنطلونًا متعدد الألوان، تمسك به بداية فخذيه، ويرتدي قميصًا متعدد الألوان كذلك ينسدل حتى منتصف بطنه. أما ما بين منتصف البطن وبداية الفخذين، فجسد عار يترجرج في تخنث مقيت.

 

شكل آخر لتنفيس الخنافس في هذه الحديقة الخالية من الأسوار. وتركت الخنفس واتجهت إلى حلقات المناقشة.

واكتفيت في زيارتي الأولى بتأمل هذه الحلقات المتشاحبة بالرأي، دون أن أتمكن من معرفة موضوعات الشجار، فلقد عجزن عن التفاهم مع المتشاجرين بلغة غير ألمانية، ثم عدت بعد ذلك إليها أكثر من مرة مصطحبًا بعض الأصدقاء الذين يحسنون اللغة الألمانية.

 

 

وفي إحدى هذه المرات، وجدت شيخًا تلتف حوله مجموعة من الرجال والشباب، ويدور بينهم جميعًا حوار ساخن. كان الشيخ يعلن في حرارة وحسم: كفى يهودًا .. لقد تشبعت بلادنا بهم .. لقد سيطروا على كل شيء ... ما عدنا نستطيع أن نقول شيئًا يجرح إحساساتهم المرهفة. ما عدنا نستطيع أن نفعل شيئًا يتعارض مع مصالحهم. إننا ندللهم على حساب شعبنا.

وكان الحوار من حوله بين السخرية به أو التندر عليه أو المناقشة الجادة معه في وقت واحد. وتخلى الشيخ عن مركز الحلقة ووثب مكانه شاب متحمس. وراح يقول في حدة: لا حل لنا إلى أن يعود هتلر ... إن هتلر الجديد هو الخلاص لألمانيا الجديدة.

 

ثم راح يدعم دعواه" "صدقوني .. إنني نصف يهودي ومع هذا أقول لكم: لا حل إلا هتلر". وجذبنا الشيخ بعيدًا عن الحلقة وهمس في آذاننا قائلاً: "لا تصدقوه إنه كاذب. إنه لا يعني ما يقول. إن أمثاله كثيرون. إنه مدسوس في الحلقات لتنتهي الحلقة دائمًا بالدفاع عن اليهود كرد فعل لدعوته إلى عودة نظام هتلر .. إنها لعبة معروفة في حلقات المناقشة هذه!".

 

ووجدنا أنفسنا نتحلق حول الشيخ. فراح يتحدث نصف هامس: "هل تعرفون أن كل يهودي مهاجر إلى بلادنا يتسلم فور وصوله عشرة آلاف مارك، وتتيسر له كل سبل الحياة. إنهم يُدَلَلون في بلادنا إلى غير حد. خلال حكم هتلر اشترى رجل ألماني مسيحي بيتًا من ألماني يهودي. وتم الشراء بطريقة شرعية لا غبار عليها. ومنذ أشهر اكتشفت السلطات هذا الأمر، الذي انقضى عليه أكثر من ربع قرن، فماذا فعلت؟ نزعت ملكية البيت بغير مقابل من المواطن الألماني المسيحي وأعادته إلى اليهودي. لماذا .. لقد زعمت أن الشراء تم في ظروف استثنائية هي حكم هتلر، ولهذا فهو شراء باطل تم بالإكراه. والغريب أن هذا اليهودي لم يعد يعيش في ألمانيا، وإنما يعيش هناك في أمريكا ويملك اليوم هذا البيت الألماني! ورغم هذا فإنني لا أكاد أفهم شيئًا، فلقد وجدت على جدار البيت الذي أسكن فيه شارة الصليب المعقوف، فامتلأت بالذعر، وسارعت بإبلاغ سلطات الأمن. فما فعلت سلطات الأمن شيئًا. فخفت على نفسي أن أُتهَم برسم هذه الشارة على جدار البيت، فرفعت شكواي إلى القضاء، فماذا كانت النتيجة؟ فقد صدر حكم أنه لا سبيل إلى المساس بهذا الشعار المكتوب على الجدار! لماذا؟ ما حيثيات الحكم؟ لأن في هذا تعديًا على حرمات المساكن! أنا لا أفهم شيئًا. وإن كنت أدرك أن الذي رسم هذا الشعار هو واحد من اليهود أنفسهم ليقولوا للناس: إن النازية تطرق أبواب بلادكم، لتعيد مذابح اليهود من جديد. وبهذا الزعم يستفيد اليهود مزيدًا من السيطرة".

 

وتساءلت بيني وبين نفسي: كيف أستطيع تفسير هذه الظاهرة؟ أن تبرز النازية الجديدة في كل مكان في ألمانيا الغربية، وأن يتبوأ اليهود مكان الصدارة من كل شيء، في الوقت نفسه؟!

 

على أني تذكرت قصة هذا اللقاء الغريب بين حكومة هتلر والمنظمة الصهيونية خلال الحرب العالمية الثانية. فرغم معسكرات التعذيب والتقتيل، قام هذا اللقاء بين أبخمان ضابط فرق العاصفة المختص بشؤون اليهود وبين قادة الحركة الصهيونية.

 

وكان الهدف من اللقاء هو تحرير ما يقرب من مليون يهودي معتقل وتهجيرهم إلى فلسطين مقابل تسليم ألمانيا بعض ما تحتاج إليه من مواد استهلاكية ولوريات.

 

ليس غريبًا إذن أن يتم لقاء جديد بين الحكم الجديد في ألمانيا الغربية رغم سيطرة النازيين على كثير من أجهزته، وبين الحركة الصهيونية العالمية. إن المصلحة الواحدة تجمع بين العنصرين دائمًا مهما اشتجر بينهم خلاف.

 

وعُدت إلى قصة الشعار المكتوب على الجدار، وتساءلت: لو وجدت سلطات الأمن الألمانية على جدار بعض المساكن شعارًا آخر غير الصليب المعقوف، شعارًا يندد بالحرب في فيتنام مثلاً، هل كان الحكم يصدر كذلك باحترام حرمة المساكن .. أو كان الأمر يختلف تمامًا!

وتركنا الشيخ وعُدنا إلى حلقات الحوار. وكان أغلبها في الحقيقة لا يخرج عن هذا الموضوع المُجدِب. إما الدفاع عن اليهود وعن إسرائيل أو التبشير بهتلر الجديد.

 

وثار في ذهني تساؤل آخر: ما سر هذا الترحيب الغريب المريب باليهود وهذه المساعدات السخية لإسرائيل. هل هو مجرد أكذوبة حية – كما ذكرت من قبل حول عقدة الذنب والرغبة في التكفير. هل هو مجرد موقف نفسي خالص. أو وراءه مخطط مدروس وكيف نوفق بين هذا الموقف، وبين استعادة العناصر النازية القديمة لمراكزها في أجهزة السلطة وهي معروفة بعدائها العنصري لليهود. هل هي المصلحة المشتركة، كما أشرت، ولكن أي مصلحة؟ لقد وجدت شعب ألمانيا الغربية في الحديقة المفتوحة بغير أسوار، وخارج الحديقة بين الأسوار المختلفة، يكاد يدور حول هذه الحلقة المُجدِبة: مع اليهود أو ضد اليهود. ومن العداء لليهود تنمو العنصرية والنازية من جديد. ومن التأييد لليهود، ومن عقدة الذنب والرغبة في التكفير عنها، تنمو فلسفة الدفاع عن إسرائيل، وتفرخ سياسة الدعم المالي والعسكري والاجتماعي للحركة الصهيونية. على أني أحسست ن كلا الموقفين العداء والتأييد – على تناقضهما، يتكاملان معًا – يتمم كل منهما الآخر ليصوغا معًا وجه الواقع السياسي في ألمانيا الغربية اليوم بكل ملامحه المتناقضة، في الحدود التي تريدها الاحتكارات الألمانية والأمريكية معًا.

 

وأكاد أقول مرة أخرى أنها سياسة مرسومة مدروسة مخططة. يتغذى بها وجدان الشعب الألماني بذكاء خارق ودأب غريب.

 

لقد كان العداء لليهود والسامية عامة، عاملاً مفتعلاً من عوامل توحيد الشعب الألماني في ظل حكم هتلر ضد عدو موهوم لشغله عن عدوه الحقيقي وهو النازية. أما هذا المخطط الجديد في ظل الاحتكارات الألمانية والسيطرة الأمريكية، فإنه يعزز وحدة الشعب الألماني، ويشغله عن عدوه الحقيقي المتمثل في هذه الاحتكارات وهذه السيطرة. نفس الهدف وإن اختلفت الوسائل!

 

لقد كدت أحس في مناقشات هذه الحدائق التي لا أسوار لها، أسرارًا خفية تدفع بالمواطنين الألمان إلى أزقة مقفلة من النقاش المُجدِب. سواء كانوا مع اليهود أو ضد اليهود، فهم يتحركون في عجلة المصالح الاحتكارية المحلية والأمريكية ويدورون في فلك الاتجاهات العنصرية والعسكرية. وما أكثر ما تبذله أجهزة الإعلام في ألمانيا الغربية لتغذية هذه السياسة المخططة.

 

وسئمت لعبة الحوار المفتوح المغلق حول هذا الموضوع، ورحت أفتش بين الحلقات الأخرى عن حوار آخر.

 

وفي ركن من أركان الحديقة عثرت على حلقة صغيرة يدور فيها الحوار حول الوحدة الألمانية. وكانت حلقة مفككة تكاد تتكون من مجموعة من الحلقات الصغيرة يدور فيها الحوار الثنائي أو الثلاثي أو الرباعي لا أكثر. كانوا يتحدثون كذلك بلغة واحدة، ومفهوم يكاد يكون واحدًا. 

 

كانوا يتحدثون عن ألمانيا الشرقية بمصطلح الحكام الرسميين فيسمونها منطقة الاحتلال السوفيتي. وكان بعضهم يؤكد أنه لا سبيل إلى تحقيق الوحدة الألمانية إلا بالقضاء على هذا الاحتلال السوفيتي. هل بالحرب؟ هل بثورة الشعب الألماني في تلك المنطقة؟ ويدور الحوار المُجدب كذلك بين هذين المحورين. إلا أنني وجدت بين المتناقشين شابًا يتحدث في هدوء وجدية، وإن اتسم حديثه بالتحفظ. فما زلت به حتى عزلته عن حلقته الصغيرة حتى أخلصه من تحفظه فأعرف جوانب أخرى للقضية. كان يتحدث في حلقته عن ألمانيا الشرقية بنفس مصطلح الحكام الرسميين كذلك. ولكنه ما أن انفردنا به حتى اختفى هذا المصطلح من حديثه وراح يتحدث عن ألمانيا الشرقية وألمانيا الاتحادية قلت له:

 

ماذا تراه من حل لتحقيق الوحدة الألمانية. فقال لي وهو يتلفت من حوله: سيتحد الشعب الألماني في البلدين عندما يرتفع المستوى الاقتصادي لألمانيا الشرقية إلى نفس المستوى الذي بلغته ألمانيا الاتحادية. وليس هذا اليوم ببعيد. إنهم يتقدمون بخطى سريعة هناك.

فقلت له: ولكن النظام السياسي والاقتصادي مختلف في كلا البلدين. هنا نظام رأسمالي وهناك نظام شيوعي. فقال لي: إن وحدة المستوى الاقتصادي كفيلة بأن تحل المشاكل السياسية والفكرية. قلت له: برغم التناقض الصارخ بين النظامين! فقال في حسم: إن المستوى الاقتصادي الواحد كفيل بأن يفرض الوحدة.

وأحسست أنه لا يريد أن يصرح بأكثر من هذا.

 

على أنه برغم الغموض الذي كان يشيع في كلماته ووجهه، فقد كان حديث هذا الشاب الدمث ختامًا طيبًا لهذه الجولة في حديقة الحوار بهامبورج.

 

وبعد أيام التقيت بأحد الصحفيين المرموقين، وسألته مباشرة: ما هو الذي تقترحونه لوحدة الشعب الألماني. وكنت أعرف اتجاهه السياسي المتحفظ. فقال في بساطة: ليس لدينا حل. فقلت له: إن ألمانيا الشرقية تعرض النظام الكونفيدرالي. فأجاب: ولكن هذا يفترض أولاً أن نعترف بالحكم هناك. وهذا أمر مرفوض. فقلت له: من الذي يرفضه، الألمان أو الأمريكيون. قال لي: لست أخفي عليك أن علاقتنا بأمريكا تحدد بعض اتجاهاتنا السياسية، ولكنها علاقة مفيدة لبلادنا في مرحلتها الحالية. قلت له: ولكن ما هو دوركم الخاص. فقال: نحن نسعى للتوفيق بين أمريكا وفرنسا. قلت له: ولكن ديجول يرفض تدخل أمريكا في الشؤون الأوروبية. لماذا لا تحذون حذوه. فأجاب: هذا موقف غير واقعي. بغير أمريكا ستجتاحنا الجيوش السوفيتية. قلت له: لماذا لا تعقدون معاهدة صلح وسلام تجنبكم هذه المخاوف وتحرركم من الأمريكيين؟

 

وعدنا إلى حديث الاعتراف بالحكم في ألمانيا الشرقية. وقلت له: لماذا تمنعون مجلات ألمانيا الشرقية وجرائدها وكتبها عن التوزيع في بلادكم. فأجاب: هناك بعض الأكشاك المحدودة المخصصة لهذا، ثم إن ألمانيا الشرقية تمنع مجلاتنا وجرائدنا وكتبنا كذلك. قلت له: لماذا لا تتفقون على الأقل حول هذا الأمر ... أو لا يساعد هذا على توضيح الأمور. لماذا توقف الحوار الفكري الذي اتُفِق على بدايته بين الحزب الاشتراكي في ألمانيا الاتحادية وحزب الوحدة الاشتراكي في ألمانيا الشرقية. فأجاب: لقد جاءت المبادرة من الحزب الاشتراكي الألماني، ولكنها تعثرت بسبب الشرقيين. لقد اختلفوا حول اختيار مكان الحوار، فتوقف الحوار.

على أنني سمعت بعد أن تركته أن حزب الوحدة الاشتراكي بألمانيا الشرقية هو الذي بادر بالدعوة إلى هذا الحوار بين الحزبين. كما سمعت أن عقبة اختيار المكان الملائم للحوار قد ذُلِلت بين الطرفين. ثم اصطدم الحوار بعقبة أخرى، هي هذا القانون الذي سنته ألمانيا الاتحادية والذي يدين المواطنين في ألمانيا الشرقية وأعضاء المنظمات الحزبية هناك، بالخروج على القانون. حقًا لقد وعد الحزب الاشتراكي في ألمانيا الاتحادية بوقف تنفيذ هذا القانون على ممثلي حزب الوحدة الاشتراكي في ألمانيا الشرقية خلال فترة الحوار عند اجتيازهم لحدود ألمانيا الاتحادية، ووعد باستصدار تشريع خاص بحمايتهم.

 

على أن حزب الوحدة الاشتراكي رفض أن يبدأ الحوار في ظل هذا القانون المُصلّت على رقاب أعضائه. ورفض العفو الاستثنائي المؤقت. وهكذا توقف الحوار، ولكن إلى حين.

 

لقد تغير الوضع تمامًا خلال السنوات الماضية. لقد عاد الحوار. وتم الاعتراف المتبادَل بين الدواتين الألمانيتين. وانفتح الطريق أمام تعايش سلمي بينهما، بل أمام إمكانية أمن أوروبي بل انفراج على النطاق الدولي نشهد ظواهره هذه الأيام.

 

على أني أحب أن أختم مقالي هذا بزيارة سريعة إلى برلين، أتلمس فيها هذا الانقسام الحاد بين الشعب الألماني على الطبيعة.

 

ذهبت إلى برلين، ووقفت طويلاً أمام الحائط الذي يفصل بين برلين الغربية وبرلين الشرقية قبل أن اجتازه. ورأيت طائفة كبيرة من السواح يصعدون إلى مراقب عالية يتأملون ألمانيا الشرقية خلال نظاراتهم المكبرة، وأبصرت بالصراع الدولي متجسدًا في هذا الحاجز الصغير الذي يفصل بين الشعب الواحد. شارع صغير تتقسم أمتاره المحدودة مناطق نفوذ فرنسية، وإنجليزية وأمريكية، تجتازها قبل أن تنتقل إلى الضفة الأخرى للوطن الألماني المنقسم. وعبر هذا الشارع الصغير، وعلى امتداد الحدود الفاصلة بين الشرق والغرب من برلين، يدور الصراع الخفي تارة والعلني تارة أخرى، ويتجسد التوتر الدولي تجسدًا حيًّا، لا بين الشعب الألماني هنا والشعب الألماني هناك، بل بين نظامين كاملين من القيم السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

 

ولعل الواجهات الخارجية المضيئة في حوانيت برلين الغربية أن تكون أهدأ مظاهر هذا الصراع الدولي المحتدم. في برلين الغربية تتكدس الواجهات المضيئة تعلن بزخرفتها عن الرخاء المادي الذي يقول للناس، هذا هو نظامنا الرأسمالي، وفرة وزخرف. فإذا اكتفيت بصعود المراقب العالية مع السواح والزائرين، وألقيت ببصرك بعيدًا إلى الواجهات المتواضعة في ألمانيا الشرقية خلال النظارات المكبرة، انتهيت إلى النتيجة السريعة التي يريدها لك رجال الدعاية في برلين الغربية. أما إذا أردت أن تضع النظارات المكبرة جانبًا، وأن تهبط من المراقب العليا، وأن تبحث بعينيك المجردتين عن الحقيقة، فلعلك تجد شيئًا آخر أعمق من هذه الواجهات وأشد أصالة. ولست أزعم أنني مؤهل للحديث عن هذه التجربة اليوم.

 

لقد اجتزت الحائط يومين مرتين في يومي السبت والأحد. وكان كل شيء على الضفة الشرقية تغطيه عطلة نهاية الأسبوع. وكانت الساعات التي قضيتها هناك بغير نظارات مكبرة أو مراقب مالية. ولكنها كانت أسرع من أن تجعلني أواجه الحقيقة وأن أمتلئ بأسرارها.

 

واكتفيت بالعودة إلى الضفة الغربية مواصلاً رحلة بحثي عن أوروبا بين جوانبها، على أن الحائط الذي يفصل بين الشعب الألمانيظل عالقًا بوجداني يفجر أحاسيس المرارة والحزن، ويثير حائطًا آخر في وطني العربي، هو الحائط الذي يفصل بين الشعب الفلسطيني وفلسطين! ولكن شتان ما بين الحائطين. إن الحائط في برلين يفصل بين شعب واحد، يفصل بين نظامين اجتماعيين مختلفين. أما الحائط في الوطن العربي فيفصل بين شعب كامل وأرضه المغتصَبة. على الضفة الأخرى ينظر الفلسطيني فيرى طوائف الأغراب تحتل بيته وحديقته، وتستمتع بأعز وأغلى ما كان يملكه، وهو يعيش في الخيام والتشرد والفاقة!

وإذا كان النظام الاجتماعي المختلف يفصل بين الشعب الألماني الواحد، فإن الاغتصاب والغدر والعدوان هو الذي يفصل شعب فلسطين عن أرضه.

وتذكرت حوارًا جرى بيني وبين أحد أساتذة الجامعة في هامبورج، أرادد أن يقارن بين الوضع والانقسام في ألمانيا والوضع الراهن في فلسطين. ولكنه سرعان ما تراجع عن المقارنة عندما أخذت أحدد له ملامح الخلاف.

على أن الذي لا شك فيه أن وراء الحوائط والأسوار جميعًا يقبع عدو واحد هو الاستعمار والاحتكار المدجج بالسلاح، لا يريد للشعوب أن تعيش في سلام.

ومضيت في شوارع برلين أحس بالحوائط والأسوار تكاد تواجهني في كل شيء. وفي المساء التقيت بسكير يترنح، فاقترب مني وهتف بأعلى صوته: أليس أون فيشتش، أي لا قيمة لكل شيء، أو الكل باطل. وابتسمت له في أسى وسرت في طريقي، وقلت لنفسي إن السكارى والخنافس والضائعين والمضلَلين ليسوا هم كل الشعب الألماني. فما أكثر المناضلين من أجل الحرية والتقدم، القادرين على إزالة الحوائط والأسوار بين أبناء هذا الشعب العظيم.

وكنت في طريقي إلى دار أوبرا ألمانيا في برلين الغربية لأشاهد أوبرا فيدليو لبيتهوفن. إنها الأوبرا الوحيدة التي تركها لنا بيتهوفن، يدافع فيها بحرارة عن العدالة والحرية والإنسانية. ولهذا أحسست لأنها ستكون أعظم شفاء لنفسي في هذا العالم الزاخر بالحوائط والأسوار والخنافس!

ولقد طال حديثي عن السياسة، وآن أن نعرج إلى حديث الفن والأدب.

إرسال تعليق

0 تعليقات