آخر الأخبار

بوريللى الفرنسي

 







علي الحفناوى

 

 

في بداية الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882، كان بمصر جالية فرنسية مكونة من عدة آلاف من مختلف فئات الفرنسيين. كان بعضهم من العمال سواء فنيين أو غير فنيين، وآخرين من صغار أو كبار التجار، وآخرين من اللاجئين السياسيين، وكان أكثرهم تواجدا هم من موظفي الحكومة المصرية... ومن هؤلاء كان المدعو "أوكتاف بوريللى بك"، موظف عام من رجال القانون، ثم صاحب جريدة صاخبة تصدر باللغة الفرنسية تحت عنوان "البوسفور المصرى". وكان بوريللى مثال لما كانت عليه طبقة الوجهاء الفرنسيين في ذلك الوقت، ومواقفهم غير الواضحة والصريحة تجاه مصر وانجلترا، والدور الذى قاموا به في الإبقاء على الهيمنة الأجنبية على البلاد... أما موقف المصريين تجاه أمثال بوريللى، فكان تجاهل هؤلاء الفرنسيين والاكتفاء بالحديث والتوجه للدولة الفرنسية ذاتها... أما الانجليز المحتلين، "كرومر" ورجاله من أمثال ألفريد ميلنر، فكانوا ينظرون إلى هؤلاء الفرنسيين باحتقار شديد.

 

وكان "أوكتاف بوريللى" من مواليد مارسيليا بجنوب فرنسا عام 1849، من عائلة اعتادت السفر والترحال لمختلف البلاد، فأتى إلى مصر وهو في سن الثلاثين من عمره، بعد اتهامه في عملية فساد مالى في إدارة حكومية كان يشغل فيها منصبا رفيعا. وقد برر اختياره لمصر أن المهاجرون إليها لا يُطلب منهم تبرير أفعالهم وحياتهم الماضية، بل كانت مصر تمثل بلد "الممكن"، أي أن كل شيء فيها مباح وممكن حدوثه، ويسهل فيها تكوين الثروات بطرق سريعة، ذاكراً ديليسبس مثالا لذلك.

 

فور وصوله لمصر في بداية عهد الخديوى توفيق، ونظرا لتمتعه بشهادة جامعية وخبرة قانونية، تم تعيينه يوم 10 يوليو 1879 من قبل الخديوى مستشارا قانونيا في وزارة المالية. وكان الخديوى توفيق قد بدأ عهده بالإطاحة بكثير من رجال الدولة الذين عملوا في مؤسساتها في عهد والده الخديوى إسماعيل... وقد بدأ بوريللى عمله براتب سنوي 25 ألف فرنك، واستطاع خلال أسابيع قليلة أن يصبح عضوا في النوادى الخديوية، فتبدأ حياته الاجتماعية القاهرية في الصعود، وفى أقل من سنتين تحول إلى أهم موظف فرنسى في الحكومة المصرية... وقد استمر بوريللى في الصعود السريع في السلم الوظيفى، فزادت اختصاصاته وتنوعت، وزاد راتبه وامتيازاته إلى أعلى الدرجات. وعند نهاية عقد عمله عام 1885، حصل على تعويض مالى ضخم مما يجعل منه أحد أعضاء طبقة الأثرياء في مصر.

 

أما ما قام به بوريللى خلال تلك السنوات الفارقة في الحياة السياسية المصرية، فهى تحتاج شيء من التوضيح:

 

• في البداية عمل في مهام استشارية قانونية بحتة بوزارة المالية.

 

• تولى القيام بدور المحامى في قضايا متنوعة، من أهمها دفاعه في محكمة استئناف الإسكندرية عن حسن باشا سرى، مدير الغربية (محافظ)، في قضية خاصة بالضرائب العقارية ضد أحد رجال البنوك، يعقوب إلييا بُغدادى، الذى كان يحمل الجنسية البريطانية.

 

• تولى مهام الاستشارات القانونية لحساب رياض باشا وفخرى باشا في إطار عمل اللجنة الدولية للإصلاح القضائي.

 

• عمل على تعديل النظام القضائى المصرى مع الاحتفاظ بكل امتيازات الماضى للمحاكم القنصلية المعنية بالأجانب، وإنشاء محكمة القضاء العالي المهيمنة على مختلف المحاكم المصرية سواء المحاكم الأهلية أو المحاكم المختلطة... وقد قام بهذا العمل عام 1882 تحت هيمنة الحكم البريطاني للبلاد، وضد إرادة نوبار باشا الذى كان يسعى لتولى هذه المهمة بنفسه.

 

خلال هذه الفترة، حصل بوريللى على لقب البكوية كما حصل على العديد من الأوسمة الأجنبية (إيطاليا، البرتغال، إيران..)

 

في 7 يناير من عام 1882 (قبل الاحتلال)، أرسلت كل من الحكومة الفرنسية والحكومة البريطانية مذكرة مشتركة إلى الخديوى توفيق. كان الغرض من تلك "المذكرة المشتركة" هو محاولة وقف انتشار "الحركة العرابية" كما أسموها... وقد اعتبرت تلك المذكرة محاولة أجنبية للتدخل في الشئون الداخلية المصرية، مما جعل الشعب يلتف حول عرابى واعتبار جيشه هو الضامن الأوحد للأمن، رافضا كل التدخلات الأجنبية... وفى ظل اشتداد التوتر والتخوف من دور الأجانب، قام الأسطول البريطاني بإطلاق المدافع على مدينة الإسكندرية في يوليو 1882 مدعياً تهدئة المظاهرات.

 

لجأ الخديوى توفيق للاختباء على سفن الأميرال "سيمور" قائد الأسطول الانجليزى، وذهب بوريللى مع الجاليات الأجنبية إلى الإسكندرية، انتظارا لما يحدث.. وكان بوريللى متوقعا للغزو البريطاني للبلاد، ومع ذلك كان متخوفا من فقدان وظيفته كفرنسى في الحكومة المصرية. لذلك، كان هذا التخوف من دواعى احتقانه ضد الحركة العرابية، مما جعله يسرع بنشر في الوقائع المصرية مرسوما خديويا يوم 24 يوليو 1882 بقرار إقالة أحمد عرابى باشا من منصب وزير الحربية... كان بوريللى، مثل معظم الأجانب في مصر، له رؤية سلبية ضد عرابى ورجاله، فكان يقول أن الحركة العرابية تذكره بمأساة "الكومونة" الفرنسية، تلك الثورة التي تلت سقوط نابليون الثالث وأرست الجمهورية قبل تلك الأحداث بعشر سنوات... فكان من دواعى سرور بوريللى تمثيل الحكومة المصرية في قضية محاكمة عرابى بعد هزيمته في التل الكبير.

 

حاول بوريللى جاهدا إضافة تهم غير التذمر ضد الخديوى، مدعيا أنه ارتكب جرائم مخلة بالشرف وقتل الأبرياء وحرق الإسكندرية، في محاولة منه للحصول على حكم بإعدام عرابى. وكان الخديوى توفيق مؤيدا لهذا التوجه، لاعتقاده أنه سيؤدى إلى ترسيخ سلطاته المهتزة على البلاد لو تم اعدام عرابى... ولكن، اصطدم توجه بوريللى بخبث الموقف البريطاني، إذ أوضح اللورد ديوفران أنه يجب الاكتفاء بنفى عرابى خارج البلاد، إذا وافق أن يقر أن ثورته ضد توفيق كانت بإيعاز من السلطان العثمانى، فيحصلوا بذلك على وسيلة ضغط على الباب العالى، ولا يظهر عرابى كشهيد لحركة وطنية، ويظل الخديوى توفيق ضعيفا لا يقدر على مخالفة توجهات بريطانيا في مصر.

 

غضب بوريللى من هذا الحل البريطاني واستقال من مهام "النائب العام" وتم استبداله بتيجران باشا، الانجليزي التوجه، ابن شقيق نوبار. وعندما بدأت محاكمة الصاغ سليمان سامى بتهمة أنه هو الذى قام بحرق الإسكندرية، حاول بوريللى الدفاع عنه بقوة حتى لا ينفى التهمة عن عرابى نظرا للضغينة التي كان يحملها ضده... لكنه فشل وتم إعدام سليمان سامي.. (ولكنه سينجح عام 1887 في الدفاع عن ضابط آخر هو الصاغ حسن بهنساوى الذى اتهمه الانجليز بتسليم مدينة الخرطوم وحاكمها "جوردون" لثوار المهدي).

 

يستمر بوريللى في القيام بمختلف المهام الخاصة والعامة لسنوات طويلة في مصر... وفى وقت من الأوقات سيصبح صاحب أقوى جهاز اعلامى بملكيته للصحف. صفحات امتلأت بها عدة كتب فرنسية بموضوعية شديدة للحكم عليه، سلبا وإيجابا، وعلى أمثاله ممن تعاونوا مع المحتل الأجنبي لمصر. ويتضح من الأرشيف الديبلوماسى الفرنسي، أنه كان على صلة وثيقة بالوكالة الفرنسية (السفارة)، وأنه قام بأدواره الرسمية دائما بالتنسيق مع أعضاءها، ولمصلحته الخاصة أولا ثم لمصلحة فرنسا ومصلحة المحتل الأجنبي... صفحات بوريللى مليئة بالقصص العجيبة لتصرفات الجاليات الأجنبية ضد البلد المضيف لهم ولسنوات طويلة...

 

فلنكتفى بهذا القدر حتى لا نتهم بعقدة الخواجة أو عكسها.

إرسال تعليق

0 تعليقات