عز الدين البغدادي
ما هو الموقف الشرعيّ ممن لم يخرج مع الحسين؟ هل يكون آثماً لتخلفه
عن نصر المعصوم أم إنّ الأمر من أصله اجتهادي يقبل الخلاف؟ الأمر يتعلق بشخصيات
معروفة لم تشارك في الجهاد مع الحسين (ع) مثل محمد بن الحنفية وكثير من بني هاشم
وقريش والأنصار وعدد من الصحابة كزيد بن أرقم وأبي سعيد الخدري، وقد طرحت أفكار
للخروج من هذا الإشكال لكنها متكلفة بشكل واضح.
هناك من نظر إلى أنّ التخلف عن الخروج مع الحسين كان ذنبا وإثما،
وأنّ أحداً ما كان ليسعه التخلف عن الخروج مع أبي عبد الله، وبرأيي أن هذا الأمر
فيه تفضيل. فالأصل في الرؤية السياسية أنها اجتهاديّة، وفي السياسة يكون هناك
اختلافٌ في النظر وفي الرأي، وهذا مبدأ وهو يسع الجميع دون تفسيق أو تبديع.
وذلك أنّ السياسة بطبيعتها تقبل مسائلها اختلاف النظر فيها، لذا
قال ابن خلدون: وأما غير الحسين من الصحابة الذين كانوا بالحجاز ومع يزيد بالشام
والعراق ومن التابعين لهم؛ فرأوا أن الخروج على يزيد وإن كان فاسقا لا يجوز لما
ينشأ عنه من الهرج والدماء فأقصروا عن ذلك ولم يتابعوا الحسين ولا أنكروا عليه،
ولا أثَّموه لأنه مجتهد؛ وهو أسوة المجتهدين. ولا يذهبْ بك الغلط أن تقول بتأثيم
هؤلاء بمخالفة الحسين وقعودهم عن نصره فإنهم أكثر الصحابة وكانوا مع يزيد ولم يروا
الخروج عليه. وكان الحسين يستشهد بهم وهو بكربلاء على فصله وحقه، ويقول: سلوا جابر
بن عبد الله وأبا سعيد الخدري وأنس بن مالك وسهل بن سعيد وزيد بن أرقم وأمثالهم، ولم
ينكر عليهم قعودهم عن نصره ولا تعرض لذلك لعلمه أنه عن اجتهاد وإن كان هو على
اجتهاد.
وما قال صحيح، فإنّ اختلاف النظر في السياسة يتّسع كما لا يتّسع في
غيرها. لكن، يشترط في ذلك أن لا يكون في الأمر سوء نيّة، وهذا أمر بين العبد وربّه
لا سبيل للحكم عليه إلا ما كان بينا.
نعم، عندما وقعت الحرب أو عندما أوشكت على ذلك، لم يسع أحد أن
يتخلّف عن نصر سبط النبيّ (ص)، تطبيقاً لقول الله عز وجل: ( فإنْ اسْتَنصَرُوكُمْ
فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ) ، ولهذا فبعد أن اعتذر بعض الناس عن نصرته
قال له الحسين (ع): .... فإن لا تنصرني فاتق الله أن تكون ممن يقاتلنا، فوالله لا
يسمع وأعيتنا أحد ثم لا ينصرنا إلا هلك.
وفي خبر عن عمرو بن قيس المشرقي قال: دخلت على الحسين أنا وابن
عمٍّ لي وهو في قصر بني مقاتل فسلّمنا عليه فقال له ابن عمي: يا أبا عبد الله، هذا
الذي أرى خضابٌ أو شعرك؟ فقال: خضاب، والشيب إلينا بني هاشم يعجل. ثم أقبل علينا
فقال: جئتما لنصرتي؟ فقلتُ: إني رجل كبير السنّ، كثير الدّين، كثير العيال. وفي
يدي بضائع للناس، ولا أدري ما يكون، وأكره أن أضيع أمانتي.
وقال له ابن عمي مثل ذلك، قال لنا: فانطلقا، فلا تسمعا لي واعيةً
ولا تريا لي سوادا؛ فإنه من سمع واعيتنا أو رأى سوادنا فلم يُجبنا ولم يُغثنا كان
حقا على الله عزّ وجل أن يكبّه على منخريه في النار.
أي، إنّ هنا أمرين: فقد حذّر المخاطب أن يكون ممن يقاتله، ثمّ لم
يكتفِ بذلك بل قال بأنّ من كان حاضراً وسمع أو رأى ما يكون فإنّه يكون آثما بل
وهالكا، وذلك بسبب ما ورد وثبت من أدلّة ألأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولاشكّ
بأنّ أهم مظاهرها هو الدفع عمن وقع عليه ظلم، فكيف إذا كان هذا الذّي وقع عليه ذلك
هو ابن فاطمة؟
الحسين فعلا استنصر الناس للقيام بمسؤوليتهم إلا أنه –بأبي وأمي-
لم يضعف ولم يتوسل بأحد وحاشاه، وأما ما روي من أنّ الحسين استصرخ في الحرب كما
روي: فلمّا رأى الحسين أنه لم يبقَ من عشيرته وأصحابه إلا القليل فقام ونادى: هل
من ذاب عن حرم رسول الله؟ هل من موحِّد؟ هل من مُغيث؟ هل من معينٍ؟ فضجَّ الناس
بالبكاء.
فهذا بعيد جدا مع إنّ أحدا من المؤرخين لم يذكر هذا الخبر، ويبدو
أنّ ابن نما الحلي هو أول من ذكره في كتابه "مثير الأحزان" ثم أخذه منه
ابن طاووس في "اللهوف على قتلى الطفوف" ثم اشتهر بين الناس.
ومن المفيد أن نؤكد هنا على أنّ ما قلناه من وجود اختلاف ممكن في
الرؤية السياسية، إلا أنه لا يقبل من مبررات عدم النصرة ما روي من فضل الاعتزال في
الفتنة، إذ لا شبهة هنا ولا فتنة من حيث الأشخاص. فإنّ الفتنة التي يجب اجتناب
الخروج فيها هي التي تكون بين فئتين لا يقطع بأنّ الحق مع أحدها، أو يقطع لكن لا
يصل الحلّ إلى حدِّ الحرب. ولا شك أن الأمرين منتفيان هنا، فالحسين بلا شك هو على
الحق.
(من محاضرة هذا اليوم 8 محرم)
0 تعليقات