عز الدين البغدادي
ومن يعتقد بأن
التاريخ هو مجرد قصص متوهم، ولا يعرف من التاريخ شيئا. فالتاريخ علم بكل ما تعنيه
هذه الكلمة، وبما أنه علم فمعنى هذا أن له منهجا من خلاله نفهم الأمور، ونميز بين
ما يقبل وملا يقبل وفق النصوص والقرائن. وأما قاعدة "حدث العاقل بما لا يعقل
فإن صدقه فلا عقل له" فهذه ليست قاعدة علمية ولا منهجية، بل هي عبارة جرت
مجرى المثل، وليس كل ما لا يألفه عقلي فهو باطل، وليس كل من اعتقدوا بأن جيش
الحسين كان صغيرا غير عقلاء.
أحد الخطباء أثار
مسألة كثر حولها النقاش وترى بأن جيش الحسين (ع) كان يتكون من آلاف المقاتلين، ولم
يكن بالعشرات كما يقال. وأن جيش الحسين حقق نصرا كبيرا لولا وصول إمدادات من الشام
ولولا دعم الروم لجيش ابن زياد وهو ما قلب المعركة بشكل معاكس وأدى الى النتائج
المعروفة.
إلا أن هذا الكلام لا
يعدو أن يكون كلام قصص يفتقر لأية رؤية أو منهج، ولا توجد مصادر تاريخية تثبته رغم
شدة اهتمام المؤرخين بتلك الواقع لدرجة ذكر تفاصيل بسيطة جدا، بل وذكر كل شخص
واستقصاء الخطب والأشعار التي قيلت في ذلك اليوم.
وقد سمعت فيديو لأحد
الشخصيات المعروفة وهو السيد فرقد القزويني تبنى فيه هذه الرؤية ودافع عنها. إلا
أن طرحه كان يفتقر لكثير من الدقة، ويبتعد تماما عن المنهج العلمي.
ومن المغالطات التي
اعتمدت عليها هذه الدعوى، ويمكن أن نقف عندها:
أولا: قيل بأن منزلة
الحسين (ع) لا تتناسب مع هذا العدد القليل من المقاتلين الذين كانوا معه، وهذا
صحيح، إلا أنه لا علاقة لعدد الجيش بالمنزلة، فابن الأشعث كان جيشه عشرات الألوف
رغم أنه لم يكن شخصية محبوبة. فالظروف التي أحاطت بالثورة كانت صعبة ومعقدة،
والسلطة كانت تتعامل بعنف مع معارضيها وقد نجحت في زرع الرعب في نفوس الناس، ومزقت
نسيجهم الاجتماعي، ولهذا كانت هذه العبارة تتكرر عندما يسأل الحسين عن أوضاع
الكوفة وهو في الطريق إليها: قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أمية.
ثانيا: ذكر أن عبد
الرحمن بن محمد بن الأشعث كان شيعيا، وهذا وهم عجيب لا يقع فيه من كان له معرفة
بالتاريخ، فإن آل الأشعث كان فيهم انحراف قديم عن آل البيت، فجده الأشعث بن قيس
ارتد بعد وفاة النبي (ص)، وأبوه محمد كان موقفه سيئا من خلافة الإمام علي (ع)، وأخته
جعدة سمّت الإمام الحسن، وعبد الرحمن كان من ثقات بني أمية ومعتمدي الحجاج وقائد
جيشه، لكنه انشق عليه بسبب خلاف بينهما على إدارة الجيش. وهذا خطأ لا يقع فيه من
له معرفة بالتاريخ، وأما دخول كميل وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن أبي ليلى معه،
فليس لأنه شيعي بل لأن احتمال انتصار ثورته كان كبيرا، فكانت فرصة للتخلص من ظلم
وبطش الحجاج وبني أمية. مع أن كل أهل العلم والدين وقراء الأمصار وقفوا معه بغضا
بالحجاج، ورفضا لسلطته.
ثالثا: جيش ابن سعد
لم يكن 22000 مقاتلا، كما ذكر، بل كان أربعة آلاف مقاتل كما نص عليه المؤرخون
القدماء، نعم ظهرت في العصور المتأخرة أقوال أخرى أشهرها أنهم سبعون ألفا أو
ثلاثون ألفا، ومنهم بلغ بعدد الجيش إلى مليون ونصف!!!! وكل هذا غير صحيح كما بينته
وناقشته في "كشف الموهوم من تحريف ثورة السبط المظلوم".
كما ان وجود فرق كبير
بين الطرفين ليس غريبا، فقد قاتل يحيى بن زيد وهو في سبعين رجلا من أصحابه عمرو بن
زرارة والي نيسابور وهو في عشرة آلاف، فهزمهم يحيى وقتل الوالي.
رابعا: من الغريب
والعجيب أنه ذكر بأن معاوية فتح القسطنطينية ووصل الى بلغاريا، وهذا أعجب مما سبق
لأن هذا لم يحصل إلا بعد ثمانية قرون.
خامسا: ما هي المصادر
التاريخية التي ذكرت اشتراك الكتيبة الحمراء في قتال الحسين (ع) وأنهم هم من
الأعاجم؟ وكيف ينسجم هذا مع القول بأنهم كانوا مع المختار في ثورته ضد قتلة
الحسين؟
سادسا: من أعجب
العجائب ما قيل من أن الروم أرسلوا إمدادات الى جيش ابن سعد، رغم أن المعركة كلها
لم تتجاوز نصف نهار تقريبا، ولا أدري أي مصدر تاريخي ذكر ذلك؟ وكم كان الروم
يحتاجون للوصول من بلادهم إلى الكوفة؟ مع العلم بأن المناوشات لم تتوقف إلا نادرا
بين المسلمين والروم، فكيف أدخلوهم إلى بلادهم؟ والأهم بأن هذه القصة الخرافية لم
يذكرها أحد.
كما إن أي إمدادات لم
تأت من الشام، لأن كل من شارك في جيش ابن سعد هم من أل الكوفة كما ذكر المؤرخون.
سابعا: وهب النصراني
شخصية خيالية لا وجود لها، وقد بينت ذلك في كتاب "كشف الموهوم".
ثامنا: إثبات المعجزة
لابن زياد من أعجب العجب، فإذا كان الأمر جرى مع الحسين (ع) وفق القوانين الطبيعية
وبدون معجزة وهذا صحيح، فمن باب أولى أن لا تحصل معجزة لصالح الفاسق ابن زياد!!
تاسعا: هناك من احتج
بما رواه الطبري عن أبي مخنف من أنّ بعض جنود ابن زياد صرخ في أصحابه: "ويلكم
حولوا بينه وبين الماء لا تتآم إليه شيعته.." واستدل بذلك على وجود مقاتلين
آخرين حيل بينهم وبين الحسين بسبب خطة محكمة لجيش ابن سعد حاصر بها قلب جيش الحسين
وعزله عن سائر الجيش، وهذا استدلال غير صحيح وإن كان الخبر مقبولا، لأن هناك
أفرادا حاولوا فعلا التسلّل من الكوفة للالتحاق بجيش الحسين إلا أنّ جيش ابن سعد
كان يسد الطريق عليهم، وبالفعل تمكن بعضهم من التسلل كما ان قوما بحدود عشرين نفرا
انشقوا من جيش ابن سعد والتحقوا بجيش الحسين.
عاشرا: هناك من احتج
بما ذكره ابن حبان في كتابه "الثقات" حيث قال عن سليمان بن الصرد: وكان
مع الحسين بن عليّ رضي اللّه عنهما، فلمّا قتل الحسين انفرد من عسكره تسعة آلاف
نفس، فيهم سليمان بن صرد» وهذا وهمٌ منه، وأمر تفرّد به، فمعظم المؤرخين ذكروا بأن
سليمان بن الصرد لم يكن في المعركة ولم يستطع الوصول الى الحسين، كما ان المقصود
هنا هو خروجه في ثورة التوابين التي حصلت سنة 65 اي بعد واقعة الطف بأربع سنوات،
ولا أعتقد بأنه كان معه تسعة آلاف ولم يستطع أن يفعل بهم شيء في المعركة ثم انسحب
وبقي مع جيشه دون أن يسجّل التاريخ عنهم شيئا إلا عبارة يتيمة لابن حبان، مع العلم
أن جيش التوابين كما نص المؤرخون كانوا أربعة آلاف وليسوا تسعة.
وأخيرا أقول بأنّ من
غير المستغرب أن يزيد القصاص في جيش ابن سعد ليبينوا شجاعة الحسين (ع) وعظم موقفه
رغم أنه لا يحتاج لذلك، وأما أن يزيدوا في عدد جيش الحسين فهذا لم يخطر ببال هؤلاء
القوم ولم يصله خيالهم.
وبالنتيجة فإن كل ما
طرح في ذلك هو وهم في وهم في وهم.
والله المستعان وهو المعين.
0 تعليقات