آخر الأخبار

" ماتيــــــــــــــــــــو"

 

 

 

 

 

على الحفناوي

 

 

هذا الشخص المدعو ماتيو، شخصية فرنسية فريدة كان له دور هام وخطير فى تاريخ مصر الحديث.

 

بعد الحملة الفرنسية على مصر فى بداية القرن التاسع عشر، وخاصة بعد فشلها وانسحاب جيشها من الأراضي المصرية، استقدم نابليون بونابرت السيد "ماتيو"، وكلفه بمهمة رسمية فى مصر ومهمة أخرى سرية.

 

 أما المهمة الرسمية، فكانت تعيينه يوم 7 مارس عام 1803 مفتشا عاما على الشئون الفرنسية فى مصر وخاصة مندوبا للشئون التجارية فى دمياط، وبهذه الصفة أصبح أول ممثل رسمي للحكومة الفرنسية فى مصر قبل عصر القناصل والسفراء.

 

ولكن نابليون القائد الاستراتيجي الملهم كان فى ذهنه تكليف "ماتيو" بمهمة أكبر وأكثر خطورة، ولكنها اتخذت صفة السرية حتى لايدرك الانجليز خططته الخاصة بمصر.

 

لم يرضخ نابليون لهزيمة أسطوله فى أبوقير على يد الأميرال الانجليزي نيلسون، ولم يقبل تسليم زمام الأمور فى مصر لتعود بيد القوات العثمانية أرضا أو القوات الانجليزية بحرا. ولم تكن مصر إلا دولة تعيش فى العصور الوسطى بتنازعها أشلاء المماليك المتحاربة فيما بينها من جانب وبعض القوات العثمانية التابعة لدولة الخلافة الضعيفة والمنهكة من جانب آخر... ومع انبهار نابليون بالحضارة المصرية القديمة التى اكتشفها عند قدومه مع حملته لمصر، زادت قناعته بأن مصر أحق من تركيا فى تولى ريادة الخلافة الإسلامية، بما يستلزم نقل عاصمة الخلافة من اسطنبول إلى القاهرة.

 

ولتنفيذ تلك الخطة، قام نابليون بتكليف السيد "ماتيو" بالتواجد رسميا فى مصر، والعمل سرا على استكشاف شخصية قائد عسكرى يصلح أن يكون زعيما ورئيسا للمصريين، وفى ذات الوقت تكون علاقته بفرنسا متميزة بحيث تضمن تبعية مصر للسياسات الفرنسية وليس الانجليزية. وبالطبع، كان من الضرورى عند اختيار مثل هذا القائد إقناعه بالخطة الفرنسية بالكامل، مع تقديم كل سبل المعاونة العسكرية والمدنية، ومختلف سبل الدعم السياسى، حتى ينجح فى مهمة قيادة مصر وتحويلها إلى عاصمة للخلافة الإسلامية. ومن الواضح بالطبع أن غرض نابليون الأساسي لم يكن دعم مصر لتكون دولة عظمى على حساب تركيا، إنما لتكون دولة خاضعة لفرنسا على حساب بريطانيا ونفوذها فى الشرق.

 

نجح السيد "ماتيو" بجدارة فى مهمته السرية. فقد اقترب من التنظيمات الشعبية والوطنية التى كان يسيطر عليها شيوخ الأزهر، المتحدث باللغة العربية الفصحى، حتى أنه أوجد صلة صداقة حميمة مع بعضهم مثل "عمر مكرم". ومن جانب آخر، وقع اختياره على قائد من قوات الأرناؤوط التابعة للجيش العثماني، واستشف فيه المواصفات اللازمة ليكون زعيما لمصر فى المستقبل القريب..

 

 فاختار محمد على، وقام بتقديمه لشيوخ الأزهر موضحا أنه سيكون الوحيد القادر على التخلص من المماليك داخليا وصد الهجمات الخارجية، سواء من الأتراك أو الانجليز. وقد تقبله قادة الحركة الوطنية المصرية بصفته مسلما وله صفات القيادة العسكرية وحاصلا على ثقة الحكومة الفرنسية. وللتذكرة، نجح محمد على فى التخلص من المماليك كما نجح فى صد حملة فريزر البريطانية.

 

وعلى التوازي مع هذا التحرك الداخلي، أخطر "ماتيو" نابليون باختياره، فوجهه إلى ضرورة قيام فرنسا بدعمه رسميا لدى السلطان العثماني. لذلك، قام "ماتيو" بمخاطبة وزارة خارجية فرنسا لتقوم بإعداد السلطات التركية عن طريق سلطاتها الدبلوماسية فى اسطنبول. وبالفعل، قام القنصل العام الفرنسى فى تركيا السيد "سيباستيانى" بإقناع السلطان العثمانى بضرورة تعيين محمد على كوالي لمصر، لأنه الوحيد القادر على وقف الفوضى العارمة فى البلاد وإعادة التحكم فى شئونها الداخلية وصد هجمات الانجليز التى تهدف إلى احتلال مصر.

 

وجدت منذ تلك اللحظة علاقة حميمة بين السيد "ماتيو" ومحمد على، الذى اعتبر أن ماتيو ولىً نعمته. وبعد أن تأكد ماتيو من تحقيق مآربه، ترك مهمته الرسمية فى مصر فى بداية عام 1805، وقام السلطان العثمانى بالتوقيع على مرسوم تعيين محمد على بعد ذلك بشهور قليلة. ومن جانبه، تدرج السيد "ماتيو" فى مختلف المهام الدبلوماسية فى مختلف البلاد، حتى انتهى به الحال فى وظيفة قنصل عام فى تونس حيث توفى عام 1832.

 

ولكن، ونظرا لدعم فرنسا المستمر لمحمد على منذ مهمة ماتيو هذه فى مصر، سواء بإرسال البعثات العلمية والمستشارين من أمثال "سليمان باشا" و"موجيل" و"كلوت بك" و"لينان بك" الذين قاموا، كل فى مجاله، بالعمل على بناء مصر الحديثة، فقد احتفظ محمد على بعلاقة وطيدة وحميمة مع "ولىً نعمته" الفرنسى السيد ماتيو، حتى أن بعد وفاته، طلب محمد على تعيين ابن ماتيو فى عمل قنصلى فى مصر، وفاءا لهذا الصديق الذى جعل منه ولى على مصر.

 

 

وهكذا جاء إلى مصر لأول مرة ابن السيد "ماتيو ديليسبس". وهذا الابن هو السيد "فرديناند ديليسبس". جاء للعمل كنائب لقنصل فرنسا بالإسكندرية، ففتح له محمد على أبواب قصوره، بل كلفه بمهام شخصية، كان أشهرها تدريب ابنه "محمد سعيد" على ركوب الخيل بهدف تخفيض وزنه الزائد. ومن هنا، تواجدت العلاقة الحميمة بين الابنين، ونشأ منها بعد ذلك بسنوات فرمان شق قناة السويس الموقع من سعيد باشا لديليسبس.

 

وكما قلت شخصيا لحفيد ديليسبس: إن دور جدك الأكبر ماتيو كان أهم تاريخيا فى مصر من دور ابنه فرديناند. فمشروع قناة السويس بدأه نابليون، ومشروع مصر الحديثة كذلك.

إرسال تعليق

0 تعليقات