بمناسبة الذكرى
الثانية لرحيل المفكر الماركسي الكبير سمير أمين، أعيد هنا نشر هذه القطعة من لقاء
فيديو أجراه معه المفكّر الماركسي الهندي إعجاز أحمد في أواخر نيسان 2012 في شأن "الربيع
العربي...
ترجمة: طاهر ديب
هل نحن إزاء ربيع
إمبريالي؟
ليبيا وسوريا وما
بعدهما
سمير أمين
حاوره إعجاز أحمد
سمير أمين: كما ترى،
فإنَّ المؤسسة الأميركية -ووراء المؤسسة الأميركية حلفاؤها الأوروبيين وغيرهم، مثل
تركيا بوصفها عضواً في الناتو (حلف شمال الأطلسي)- تعلمت الدرس بعد أن فوجئت في
تونس ومصر. هذا الدرس هو الحيلولة دون قيام حركات مماثلة في غير مكان من البلدان
العربية، وإجهاضها بأخذ زمام المبادرة في إطلاقها. وقد أتيح لهم أن يختبروا
تجربتهم في ليبيا، حيث اختبروها هناك بنجاح، بمعنى أنه لم يكن في ليبيا، في
البداية، تلك الحركة [الشعبية الواسعة] ... ضد القذافي. كانت هناك جماعات مسلحة
صغيرة، وعلى المرء أن يتساءل على الفور... من أين كانت تأتي تلك الأسلحة؟ كانت
تأتي -كما نعلم- من الخليج، بدعم من القوى الغربية والولايات المتحدة. وكانت
تُستخدم في مهاجمة الجيش والشرطة، وهلم جرا. وفي اليوم ذاته، لا في اليوم التالي،
دعا أولئك الذين أطلقوا على أنفسهم اسم "قوى التحرر"، أو "قوى
التحرر الديمقراطية" الناتو –الفرنسيين أولاً ثم الناتو- كي يأتي لنجدتهم،
وذلك ما فتح الباب للتدخل. وقد نجح ذلك التدخل بمعنى أنه أطاح نظام القذافي. ولكن
ما نتيجة هذا النجاح؟ هل هي ليبيا ديمقراطية؟ حسنٌ، على المرء أن يضحك من هذا
الكلام حين يعلم أنَّ رئيس النظام الجديد ليس سوى القاضي الذي حكم بالإعدام على الممرضات
البلغاريات. يا لهذه الديمقراطية العجيبة! لكن النجاح أدّى أيضاً إلى تخليع البلاد
على الطريقة الصومالية: أي بواسطة قوى محلية -تعمل كلها باسم ما يُدعى "الإسلام"،
لكنها عبارة عن أمراء حرب محليين- مع تدمير البلاد.
وهنا يمكن أن نطرح
السؤال: هل كان هذا –أي تدمير البلاد- هدف التدخل؟
سوف أعود إلى هذا
السؤال الأساسي، لأنهم حاولوا إنفاذ الإستراتيجية ذاتها بعد ذلك مباشرة في سورية؛
أي إدخال الجماعات المسلحة من البداية. من الشمال عبر تركيا، ولا سيما هاتاي. فما
يُسمّى "مخيمات اللاجئين" في هاتاي ليست مخيمات لاجئين –ليس فيها سوى
عدد قليل من اللاجئين- فهي مخيمات لتدريب المرتزقة للتدخل في سوريا. وهذا موثَّق
جيداً لدى أصدقائنا الأتراك. وتركيا باعتبارها قوة في الناتو هي جزء من المؤامرة
في هذه الحالة. ويصحّ الشيء ذاته على الأردن، الذي يتدخّل من الجنوب، بدعم من
إسرائيل التي لا تقف على الحياد بل تقدّم دعماً نشطاً كما أعتقد، عبر درعا
والجماعات المسلحة في جنوب سورية.
إزاء ذلك لدينا في
سورية بشكل موضوعي وضع مماثل لوضع مصر: لدينا نظام كانت له شرعيته منذ زمن بعيد
بعيد، وكانت هذه الشرعية مستمدة من الأسباب ذاتها، إذ كان نظاماً وطنياً شعبياً،
لكنه فقدها زمن حافظ الأسد، حيث انتقل إلى الارتباط بالليبرالية الجديدة والخصخصة
وسوى ذلك، ما أدّى إلى الكارثة الاجتماعية ذاتها. ولذلك، كانت هناك أرضية موضوعية
للانتفاض الشعبي الواسع ذي المنحى الاجتماعي. لكن القوى الإمبريالية الغربية،
بإجهاضها هذه الحركة بالتدخل العسكري للجماعات المسلحة، خلقت حالة باتت فيها
الحركة الديمقراطية الشعبية ... مترددة. فهي لا ترغب في الانضمام إلى ما يُدعى "الثورة"
ضد بشار الأسد؛ لكنها لا تريد أيضاً أن تدعم نظام بشار الأسد. وهذا ما أتاح لبشار
الأسد أن يفلح في وضع حدود للتدخل الخارجي، في حمص وعلى الحدود مع تركيا في الشمال.
غير أنَّ معارضة إرهاب الدولة بالإرهاب الفعلي الذي تمارسه جماعات مسلحة تدعمها
قوى أجنبية ليست الجواب عن السؤال. الجواب عن السؤال هو في الحقيقة تغيير النظام
لمصلحة الحركة الديمقراطية الشعبية الحقيقية، ومن خلال التفاوض معها. ذلك هو
التحدي. وذلك هو السؤال المطروح. ولا نعلم، أنا لا أعلم، وأعتقد أن أحداً لا يعلم
كيف ستسير الأمور: ما إذا كان النظام، أو من هم داخله، سوف يدركون ذلك ويتجهون نحو
إصلاح حقيقي يطلق ما يتعدّى المفاوضات ليصل إلى تقاسم منظومة السلطة مع الحركة
الديمقراطية الشعبية، أم سيتمسكون بطريقة الردّ على الانفجارات بالوحشية وحدها كما
فعلوا إلى الآن. إذا ما استمروا في هذا الاتجاه، فسوف يُهزمون في النهاية، لكنهم
سيهزمون لمصلحة القوى الامبريالية.
السؤال الآن، ما
الهدف الحقيقي للإمبريالية، في سوريا وفي المنطقة؟ ليس هذا الهدف جلب الديمقراطية
على الإطلاق. إنه تدمير المجتمعات كما دمروا المجتمع الليبي. لنأخذ مثال العراق،
ما الذي فعلوه هناك؟ لقد استبدلوا بدكتاتورية صدام حسين الفعلية ثلاث ديكتاتوريات
أشد قبحاً: اثنتان باسم الدين، شيعية وسنّية، وواحدة باسم ما يدعى "الإثنية"،
الكردية، وهي دكتاتوريات أقبح حتى من ديكتاتورية صدام حسين. لقد دمروا البلاد
بالاغتيالات المنهجية؛ وليس لدي اسم آخر لما فعلوه. فإضافة إلى مئات آلاف البشر
الذين قصفتهم القنابل الإنسانية وما إلى ذلك، جرى اغتيال منهجي لكوادر النظام: العلماء
والأطباء والمهندسون وأساتذة الجامعات، وحتى الشعراء وما شابه؛ أي كلّ النخبة
الحقيقية للأمّة. وهذا يدمّر البلد. وهذا هو هدف الإمبريالية في سوريا. ما
البرنامج الذي يدّعي ما يُسمّى "الجيش السوري الحرّ" أنّه برنامجه؟
إبادة العلويين والدروز والمسيحيين والشيعة. حين تجمع هذه "الأقليات" الأربع
ستجد أنها تشكّل 45٪ من سكّان سورية. ما الذي يعنيه ذلك؟ هل يعني الديمقراطية؟ إنه
يعني أبشع دكتاتورية ممكنة وتدمير البلاد.
الآن، من الذي لديه
مصلحة في ذلك؟ إنّ في هذا لمصلحة مشتركة لثلاثة من الحلفاء الذين تربطهم صلة وثيقة:
الولايات المتحدة وإسرائيل ودول الخليج. لماذا الولايات المتحدة؟ لأن تدمير
مجتمعات المنطقة هو أفضل وسيلة لتحضير المرحلة التالية، وهي تدمير إيران، بهدف
احتواء وربما دحر البلدان الكبرى "الناشئة"، الأخطر، الصين وروسيا (وربما
الهند إن لم تكن مطيعة، لكنها مطيعة إلى الآن). هذا هو الهدف. وهو يشتمل على تدمير
مجتمعات الشرق الأوسط، بما في ذلك إيران، كهدف رئيس. ومشروع تدمير المجتمعات هذا،
مترافقاً مع استمرار التنمية الرثّة، هو أيضاً هدف إسرائيل. لأنه إذا جرى تقسيم
سورية إلى أربعة أو خمسة دول طائفية صغيرة غير ذات أهمية، فإنّ ذلك سيتيح للاستيطان
الإسرائيلي مزيداً من التوسّع المريح والسهل. وهو أيضاً هدف الخليج. وإنها لمن
المهازل أن نجد اليوم أمير قطر وملك السعودية يقفان مع أوباما وساركوزي وكاميرون
على رأس النضال من أجل الديمقراطية. لايمكن للمرء ألّا يضحك. لكن هيمنتهم على
المنطقة باسم الإسلام - "باسم"، لأن هنالك بطبيعة الحال ضروباً أخرى
ممكنة من فهم الإسلام- تعني تدمير دول مثل مصر في الأساس، لأن وقوف مصر على قدميها
يجعل هيمنة الخليج ما كانته أيام عبد الناصر، ولذلك يجمعهم هذا الهدف.
وهم يجدون دعماً،
داخل المجتمعات، من جماعة الإخوان المسلمين. ولذلك، أودّ أن أختم بالكلام على هذا
الأمر. يجب أن ننظر إلى الإخوان المسلمين لا بوصفهم حزباً "إسلامياً". فالمعيار
في توصيف المنظمات والأحزاب والحكم عليها ليس ما إذا كانت "إسلامية" أم "علمانية"،
بل ما إذا كانت رجعية أم تقدمية. وحين ننظر إلى الإخوان المسلمين، في شأن القضايا
الفعلية كلّها، نجد أنهم ضد إضرابات العمال، وضد مقاومة الفلاحين الفقراء، ومع
الخصخصة، ومع تفكيك الخدمات العامة، ما يعني أنهم في تحالف وثيق مع القوى الأكثر
رجعية. هذا حزب رجعي يستخدم الإسلام واجهةً. هذا هو المعيار الحقيقي.
هذه هي الصورة العالمية
للأهداف الاستراتيجية للإمبرياليين وحلفائهم الداخليين، أي القوى الرجعية، داخل
مجتمعات الشرق الأوسط.
0 تعليقات