طارق
يوسف
في القرن الرابع الميلادي، كوّن الإمبراطور الروماني «دقلديانوس» الكتيبة المصرية
أو ما تعرف بـ«الكتيبة الطيبية»، نسبة إلى مدينة طيبة، وكان قوامها 6600 مقاتل من
أبناء طيبة (الأقصر حاليا)، وهي كتيبة قتالية من المصريين، كانت جزءا من الجيش
الروماني الكبير، هذه الكتيبة كانت من أفضل الكتائب في الجيش الروماني، واشتهر
جنودها بالشجاعة والبسالة، وكان قائدها يدعى «موريس» (القديس موريس فيما بعد).
بأوامر
من الإمبراطور «دقلديانوس» سافرت «الكتيبة الطيبية» إلى أوروبا لمساعدة الجيش
الروماني في إخضاع تمرد بأرض قبائل الغال (فرنسا حاليا). وسافر مع «الكتيبة» إلى
ميدان الحرب فرقة من «العذارى المصريات» (هكذا تذكر في السواد الأعظم من المصادر
«العذارى»)، بغرض رعاية شئون المقاتلين من مأكل وملبس وتطبيب ومعالجة الجرحى. وكانت
ضمن العذارى المصريات فتاة صعيدية اسمها «فيرينا» (القديسة فيرينا فيما بعد)، يحكى
عنها الكثير من الحكايات، والتي تصل في بعض المصادر إلى المغالاة في قدراتها، مثل
القدرة على شفاء مرضي الجزام وما إلى ذلك من المعجزات (وهذا شأن الروايات الشعبية
التي تُلبس أبطالها التاريخيين ثوبا من المبالغة والتبجيل الزائد عن الحد)
وقد
تعددت الروايات، من مصدر إلى آخر، حول «الكتيبة الطيبية» وفرقة المصريات العذارى،
وما جرى معهم في ميدان القتال، ورغم اختلاف بعض المصادر في بعض التفاصيل،لكن
الحقائق التي أجمعت عليها كل المصادر، لا يمكن إنكارها أو التغاضي عنها.
في
مدينة «تمبورتاخ» بسويسرا، وعند منتصف الجسر المقام على نهر الراين بين سويسرا
وألمانيا يوجد تمثال للقديسة فيرينا وهى تحمل بإحدى يديها أبريقا به ماء وفي
الأخرى «مشط فلاية»، تستخدمه المصريات منذ العصر الفرعوني. وذلك تخليداً للدور
الذي قامت به هذه المصرية في العناية بالمرضى في تلك المناطق، وفي تعليم أهلها
النظافة الشخصية، منذ أكثر من خمسة عشر قرنا.
واليوم
يبلغ عدد الكنائس التي تحمل اسم القديسة فيرينا في سويسرا وحدها 70 كنيسة، وفى
ألمانيا 30 كنيسة، وتحتفل سويسرا بمناسبة رحيلها في أول سبتمبر من كل عام. أما
الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فتحتفل بتذكار رحيلها في منتصف سبتمبر (4 توت حسب
التقويم القبطي)، وبحسب الكتاب التاريخي الكنسي «السنكسار» «….. تُعيّد الكنيسة
بتذكارها في 4 من شهر توت» الموافق 15 سبتمبر من كل عام.
وفي
عام 1986 م، أحضر وفد سويسري إلى مصر جزءا من رفات «القديس موريس» و«القديسة
فيرينا»، وتم وضعهما في كنيسة باسم القديس موريس، والقديسة فيرينا وتتبع أسقفية
الخدمات بالمقر البابوي للكنيسة القبطية الأرثوذكسية بالعباسية. حيث قام قداسة
البابا شنودة الثالث بتدشينها في 22 فبراير عام 1994 م، ويتم الاحتفال بهذه الذكرى
في كل عام.
خلدت
سويسرا هؤلاء الشهداء من أبطال «الكتيبة الطيبية» بإقامة كنيسة في زيورخ باسم «سان
موريس»، قائد الكتيبة، وتخليداً لذكراهم غير سكان الوادي اسم مدينة «أجونام»
وأطلقوا عليها اسم قائد الكتيبة المصري فصار اسمها حتى اليوم «سان موريس» في
مقاطعة فاليه بسويسرا، وأقيمت بها في منتصف القرن الرابع كنيسة، واختارت مقاطعة
زيورخ شعارها وختمها ثلاث صور من أبطال «الكتيبة الطيبية»، وهم يحملون رؤوسهم تحت
أذرعهم. كما أن الخاتم الرسمي لبعض المقاطعات السويسرية نقش عليه رسم ثلاثة من
هؤلاء.
ولكن،
ماهى تفاصيل قصة هذا التاريخ المنسي، أو المسكوت عنه، في تاريخ المصريين؟، وما هي
قصة «الكتيبة الطيبية»، و«القديسة فيرينا»، و«القديس موريس»، التي تستدعي كل هذا
التبجيل من قبل الأوروبيين، ولا يعرف معظم المصريين شيئا عنهما تقريبا؟
أول
وثيقة عن قصة «الكتيبة الطيبية» كانت الوثيقة التي كتبها «يوخاريوس الليوني»، أسقف
ليون سنة
وتقول
بعض الروايات:إن «الكتيبة الطيبية» انتقلت من طيبة إلى مدينة أجونام (مدينة
بسويسرا،وحالياً اسمها مدينة «سان موريس»، في جنوب غرب سويسرا). وقد أمر
الإمبراطور «مكسيميانوس» القائد «موريس» وأعضاء الكتيبة بتقديم الذبائح للآلهة قبل
الهجوم، فرفضوا إطاعة الأمر، فأمر الإمبراطور بقتل عُشر الفرقة لإرغام بقيتها على
طاعته، وعند ذلك تزايد حماس بقية الفرقة للتمسك بالإيمان المسيحي، فغضب الإمبراطور
وأمر بقتل عُشر المتبقيين.وكان «القديس موريس» يشجع الجنود على التمسك بإيمانهم مع
إعلان ولائهم للإمبراطور. ثم ازداد الإمبراطور هياجا وأمر بإبادة الكتيبة الموجودة
بأجونام، وتعقُّب بقية كتائب الفرقة الطيبية في مواقعهم بسويسرا وإيطاليا وألمانيا.
وتقول
روايات أخرى: إن الكتيبة قسمت إلى قسمين، قسم حارب في فرنسا تحت قيادة مكسيميانوس،
الذي أصبح وقتها شريكا لدقلديانوس، والقسم الآخر بقي في سويسرا، فصدرت الأوامر
للقسم الموجود بسويسرا بالتبخير للإله «جوبيتر» و«مارس» واعتبار دقليديانوس إلها،
وذلك قبل بدء الحرب، وكان من المعتاد أن تقدم العبادة للآلهة الرومانية الوثنية
قبل بدء المعارك. لكن جنود الكتيبة رفضوا معلنين أنهم ،وإن كانوا يؤدون واجباتهم
للدولة، فهم مسيحيون لا يعبدون إلا الإله الحقيقي رب السماء والأرض، فصدر الأمر
لهم بأن يقفوا صفوفاً، وفي كل صف عشرة جنود، وبعد كل تسعة جنود يجلد العاشر ثم
تقطع رأسه. لكن الباقين ازدادوا إصراراً على موقفهم، فأمر الإمبراطور بتكرار
الأمر، ومع اصرار الجنود على رفض الامتثال للأوامر، أمر الإمبراطور بإعدامهم
جميعا، فكانت مجزرة بشعة في حق الجنود المصريين في منطقة أجونام .فأصبح يوم
استشهادهم من الأعياد الرسمية في سويسرا، وهم معروفون حاليا باسم شهداء «أجونام»
عند الأوربيين، نظرا لمقتلهم في هذه القرية التي حُوّل اسمها لاحقا إلى «سان
موريس»، على اسم قائد «الكتيبة الطيبية».
بعد
المجزرة الوحشية التي وقعت للجنود المصريين، لم تغادر «القديسة فيرينا» عائدة إلى
مصر، بل مكثت في سويسرا، وبقي معها عدد من العذارى المصريات لم يغادرن إلى مصر.
ويعنى اسم «فيرينا» باللغة القبطية: «الثمرة»أو «البذرة الطيبة»، وقد نشأت القديسة
فيرينا في مدينة «جراجوس» بالقرب من مدينة طيبة (الأقصر).
أقامت
«فيرينا» وصاحباتها في كهف يُقال إنه مازال موجودا حتى الآن، وكانت تخرج من هذا
الكهف إلى القرى المحيطة لتقدم الخدمات التطوعية للفلاحين والفقراء، كما أنها كانت
على معرفة واسعة بأصول الطب القديم الموروث من أيام الفراعنة، وهو ما أعانها على
مساعدة المرضى، وتعليم سكان القرى المحيطة أسس العلاج من الأمراض باستعمال بعض
الأعشاب الطبية.
وعندما
لاحظت جهل السكان بالمبادئ الأساسية للنظافة والقواعد الصحية، علّمتهم النظافة
الجسدية والطهارة وتسريح الشعر والاستحمام والاهتمام بالنفس، وقد عُرفت بينهم بـ
«صاحبة الفلاية الفرعونية»، حيث استخدمت موروثها الفرعوني في مجال النظافة ونشرت
بينهم ثقافة استخدام المشط المزدوج «الفلاية» لتصفيف شعورهم، وقتل حشرات الرأس.
يقول
القمص يوحنا فايز، أستاذ العهد الجديد، بالكلية الإكليريكية بالكنيسة القبطية
الأرثوذكسية: «إن أيقونات القديسة فيرينا في مصر والعالم نراها ممسكة بمشط مصري
والذي نسميه «بالفلاية»، إن هذا المشط يعود إلى عصر الفراعنة واستمر ليومنا هذا،
ويصنع من الخشب والآن من البلاستيك، مضيفا أن الأقباط كانوا يصنعونه من العاج، وله
ناحية ذات أسنان واسعة لفرد الشعر وناحية أخرى ضيقة للتنظيف وتسليك الشعر أيضًا».
ولم
يكن مصدر رزقها يعتمد على التمريض، فقد كانت تقوم بتلك الأعمال الخدمية طواعية دون
مقابل، لكنها اعتمدت على خبرتها في حياكة الملابس وعلمها بفن التطريز، فساعدتها
امرأة عجوز سويسرية، على بيع عمل يديها وشراء الطعام لها ولصاحباتها معها، وبدأ
الأهالي يتعرفون عليها، وتعلمت لغتهم حتى أجادتها. وكانت تزور مدافن شهداء
«الكتيبة الطيبية». وقد اعتبرها الكثير من المؤرخين «أم الراهبات في أوروبا»، حيث
حظيت «القديسة فيرينا» باهتمام الأوروبيين الذين اتخذوها مثلًا يحتذى به في
النظافة، حتى إن المؤرخين قالوا عنها إنها السيدة التي علمت أوروبا النظافة.
وفي
15 سبتمبر عام
0 تعليقات