عمر حلمي الغول
هناك أحداث ذات
دلالات هامة في مسيرورة وصيرورة الشعوب، وغالبا تكون نتاج تراكم كمي لسياق سياسي أو
اجتماعي واقتصادي أو ثقافي، ومع وقوعها تكون بمثابة القشة التي تقسم ظهر البعير،
وتحدث تحولا نوعيا وفقا لطبيعة وأهمية الحدث. كان أمس الأربعاء الموافق التاسع من أيلول
/ سبتمبر 2020 محطة حزينة وبائسة في تاريخ الأمة العربية، عندما تواطأت بعض
الأنظمة العربية المركزية في المنظومة الرسمية مع نظام محمد بن زايد الضبياني،
ورفضوا تمرير مشروع القرار الفلسطيني،
الذي يدين التطبيع المجاني الإماراتي الإسرائيلي في اجتماع مجلس وزراء خارجية
الدول العربية العادي، والذي عقد عبر آلية الفيديو كونفرس.
نعم كان يوما اسودا
جديدا في تاريخ الأمة العربية، حيث قوض العرب الرسميون خطوط دفاعهم القومية،
وهزموا ذاتهم بأيديهم، وبقراراتهم الرخيصة والمتساوقة مع العدو الصهيو أميركي،
وتخلوا عمليا وعلى الأرض عن مبادرة السلام العربية، وقرارات القمم العربية ومنظمة
التعاون الإسلامي، والقرارات الأممية ذات الصلة بالصراع الفلسطيني الصهيوني. وهذا
التخلي سيكون له بالضرورة تداعيات أعمق وأخطر على مستقبل القضية الفلسطينية،
ومصالح وحقوق الفلسطينيين، وعلى الأمن القومي العربي برمته. لان حلقات النظام
الرسمي العربية سينفرط عقدها، وتتدحرج تلك الحلقات كحبات المسبحة مع التخلي الرسمي
العربي عن محددات وركائز السياسة العربية، التي تضمنها ميثاق وقرارات جامعة الدول
العربية، وقممها المتعاقبة من 1945 حتى الأمس.
معاول الرسميون العرب
أمس الأربعاء التاسع من أيلول دكت جدران المبني الرسمي العربي، وانهارت بأيديهم،
وبإرادتهم المسلوبة والمستباحة، وبارتهانهم لمشيئة وإملاءات إدارتي ترامب ونتنياهو
ومن لف لفهم. ورغم صدور البيان السياسي الباهت، الذي أكدوا فيه على تمسكهم ب"مبادرة
السلام العربية"، و"محدداتها" الأربعة، بيد ان الحقيقة الناصعة،
والتي لا يغطيها غربال، ولا أوراق التوت المتآكلة تقول، انهم فقدوا المصداقية مع
ذاتهم، ومع شعوبهم، ومع القيادة والشعب العربي الفلسطيني، ومع وامام العالم
الإسلامي وكل شعوب الأرض. لإن من يتمسك بمبادرة السلام العربية، لا يتخاذل، ولا
يتردد للحظة في إدانة وملاحقة دولة الإمارات المتحدة والحاكم الفعلي، محمد بن زايد
وعصابته، وفضح خيار التطبيع المجاني مع دولة الاستعمار الإسرائيلية، ومواجهة صفقة
العار الترامبية.
غير أن المقولة
السياسية والاجتماعية تقول: إن لم تستح فأفعل ما شئت!، هكذا هو حال أهل النظام
الرسمي العربي، ولا أقول الجماهير الشعبية العربية، ولا نخبها السياسية والثقافية
والفنية والإعلامية والاقتصادية الوطنية والقومية والتقدمية، لان هناك فرق شاسع
بين المستويين، فَجلْ أهل النظام السياسي تخلوا عن الثوابت السياسية العربية،
وباعوا قضيتهم المركزية بأبخس الأثمان، وبمزاد علني لصالح مشروع الصفقة الفضيحة
والمؤامرة، والمشروع الصهيوني لأصحابه طغم رأس المال المالي العالمي.
أما الجماهير العربية ونخبها من كل المجالات
كانت، ومازالت الحاضنة الدافئة للقضية الفلسطينية، وهذا ما أكدته وكالات أنباء
عالمية ومحطات فضائية أميركية ك CNN وBBC ومحطات
وقنوات فضائية إسرائيلية منها "مكان" والقناة ال13 .. إلخ عبر استطلاعات
رأي في الساحات العربية المختلفة، كانت نتيجتها، أن ما يزيد عن 80% بالمتوسط العام
من العرب يرفضون التطبيع المجاني، وهو ما يعزز القناعة لدى الشعب والقيادة
الفلسطينية، ان رهانهم على شعوبهم العربية، كان رهانا صحيحا 100%، وسيبقى هذا
العامل محل اعتزاز وافتخار، لأنه شكل وسيشكل رافعة أساسية للنضال الوطني الفلسطيني.
الأمر الذي يفرض على القيادة الفلسطينية إبلاء هذا العامل الحيوي الاهتمام
المطلوب، والذي شكل حتى الآن حائلا مؤقتا أمام تورط مباشر لبعض الدول العربية مع
خيار محمد بن زايد، إلآ إذا حصلت تطورات غير منظورة عربيا.
مع ذلك، لست مع
التيار الذي ينادي بالانسحاب من جامعة الدول العربية الآن، وأدعو للبقاء فيها، ولا
أتبنى خيار، أن تكون فلسطين أول المنسحبين من مؤسستها، بل يجب البقاء فيها، والعمل
مع بعض العرب على ترميمها، واستنهاضها "إن أمكن". رغم معرفتي ويقيني بما
سيكون عليه مستقبل الجامعة، غير إني أرى إعطاء الذات الوطنية فرصة للعمل في دائرة
النظام الرسمي لوقف أية انهيارات قادمة، واختيار لحظة مناسبة أخرى لهكذا توجه، لا
سيما وان هناك أنظمة شئنا أم أبينا ذاهبة إلى ذات المآل، الذي تورطت وسقطت فيه
الإمارات المتحدة، وفي المستقبل المنظور سيكون هناك تخلي مباشر من العرب عن مبادرة
السلام العربية رسميا. عندئذ يمكن للقيادة الفلسطينية القول: بأي بأي للجامعة ولأنظمة
الردة والهزيمة العربية. لأنه لن يكون أي مبرر للبقاء في الجامعة الميتة أصلا.
رغم الهزيمة العربية
الرسمية في بيتهم الجامع، وإسدال الستار على النظام الرسمي العربي بالمعنى العملي بانتظار
تشييعه ودفنه إلى غير رجعة، بيد أن القضية الفلسطينية، التي طعنت بخناجر العرب أمس،
لم تهزم، ولن تهزم، وستبقى بوابة العرب، وعنوانهم الأمثل لمقاومة المشروع الصهيو
أميركي، لأنهم يدافعون عن أنفسهم، وعن أمنهم القومي، وعن مستقبل أجيالهم القادمة،
وعن مشروعهم القومي النهضوي.
0 تعليقات