آخر الأخبار

سيد قطب بين النقد الأدبي وجاهلية القرن العشرين !

 

 





 

بقلم : سليمان فياض

 

بين كتاب مجلة "الرسالة" للزيات، شدني إليه الناقد الكبير "سيد قطب". جذبني إليه قلمه السيال، ولغته الشفيفة، الموحية بما وراء من معان وظلال، وكأنها غلالات رقيقة نسجتها أنغام. بدت لي مقالاته على صفحات "الرسالة" آية من آيات النثر الفني في أروع وأوضح ذراه. كان "العقاد" صاحب أسلوب عصري يستمد منطقه وتقاسيمه من أسلوب "ابن المقفع" وكان طه حسين صاحب أسلوب عصري آخر، يستمد ترسله من أسلوب "أبي عثمان الجاحظ" وكان كلاهما يتربع على عرش عصري من عروش فصحى اللغة، وكانت ساحة النثر في أدب المقال تبدو وكأن ليس فيها من مزيد فطه حسين نسيج فريد فيه، وكذلك كان المازني والعقاد، والرافعي.

 

 

وبدا الأمر وكأن ليس بوسع احد سواهم أن يقدم أسلوبًا عصريًا جديدًا في أدب "المقال". وجاء "سيد قطب" ليقدم أسلوبًا آخر، جديدًا يجمع في إهاب كلماته وتراكيبه، بين قدرة طه حسين على التنغيم والإيقاع، وقدرة العقاد على المنطقة وحسن التقسيم في جمله الطوال والقصار، بين قدرة طه حسين على توليد أبنية مهملة من الألفاظ، وقدرة العقاد على توليد الأفكار والمعاني والاحتمالات والترجيحات، بل ويضيف إلى قدرات العملاقين هذه السيولة الدفاقة، واللاذعة السخرية للمازني، دون أن يقع في شرك الكلمات والتراكيب العامية، ويضيف هذه السجيعات للرافعي، دون تكلف فيها أو إغراق وإسراف. وغمرني يقيني بأن الأسلوب هو الكاتب، إن الكاتب هو أسلوب، إنتقاء للإلفاظ الدالة، والموحية، واختيارًا للجمل الطوال أو القصار، في جو يصنع إطار الموضوع. ويقدم له صوره وإيقاعه ورؤاه.

 

نسخ بالكربون

 

كان أول ما قرأت لسيد قطب في سن الصبا، ونحن ندرج مع اللغة والأدب، مقالاً على صفحات "الرسالة"، يحمل عنوان: "نسخ بالكربون". كان المقال عن سيدة الغناء أم كلثوم، وعن الموسيقار محمد عبدالوهاب، وكيف أن أم كلثوم خامة صوتية، كونية، مدهشة، لم تجد بعد الملحن الذي يحررها من طابع التطريب في الأفراح، والليالي الملاح، ومجالس السمر، وكيف أن من يحاولون تقليد أم كلثوم نسخ بالكربون، لا ترقى إلى أصالة الأصل وبهائه ونصوعه، إلى آخر ما ورد بالمقال. وشد انتباهي إلى سيد قطب في مقاله ذاك، روح دفاق في قلب الكاتب، يجعله يغمس قلمه في قلبه، وضميره، ومشاعره، وعقل فطن يوجه اليد التي تكتب، معلنًا تمرده على كل محظور لا يقبله المنطق، ولا تباركه التجربة.

 

وقلت لنفسي: هذا كاتب له قضية، بل قضايا في الحياة، والمجتمع، والناس. صوت من أصوات التقدم الكونية بين البشر، ويقف طليعة في مجال النثر الفني، لهذا الجيل التالي لجيل الرواد من أصحاب القضايا الاجتماعية، والثقافية، والأساليب الأدبية.

 

كاتب جريء

وجاءت مقالاته التالية، رسائل إلى صديقه الكاتب "عباس خضر" من أمريكا وكان قد ذهب في رحلة إليها، وتكشفت لي من هذه المقالات الرسائل، قضيته الكبرى في ذلك الحين، قضية العروبة والأصالة، بل قضية حضارة الشرق بأسره التي أثمرت قيمًا إنسانية وأديانًا وضعية وسماوية، في مواجهة حضارة الغرب، التي تفككت فيها الأسر، وشحب الشعور بما هو تواصل إنساني في العلاقات، وفيما بعد، حين اتسعت دائرة قراءتي، أدركت أنه كان كاتبًا لا يتحيز ولا يتردد في مواجهة صدمة الحضارة الغربية، أدرك بسرعة وبحسم مالها من فضل، وما بها من قصور، وأدرك بفطنة ويقين ما نملكه من تراث رفيع من القيم الإنسانية، وما نفتقد من تنظيم للعمل، وأخذ بوسائل التطور العصرية لم يقع في فخاخ الصراع الحائر في النفس، الذي دفع فيه أديب طه حسين "وأيامه" ولا "عصفور" الحكيم، ولا "إسماعيل" يحيى حقي. استوعب دروس الصدمة بسرعة ووضوح، مثلما فعل من قبله رفاعة الطهطاوي والشدياق، في مواجهة صدمة الحضارة تفتت قلبي معه، وهو يصف مشهد رجل عصر عنقه في أمريكا المصعد الكهربائي، فتدلى لسانه، والناس من حوله لا يرتجفون للمشهد، وإنما يضحكون له، ويقلدون تدلي اللسان من الفم المفتوح في العنق المعصور، وشعرت. بموت الإنسانية هناك. وامتلأت بالدهشة وهو يقول ساخرًا لإحداهن، هناك، على المائدة، إن الناس في بلاده يأكلون البطيخ وعليه الفلفل والشطة، فتسارع بسكب الفلفل والشطة على البطيخ، وتأكله، وتتلذذ، وتصيح: أوه .. كم هو لذيذ.

 

واحسب أن هذه المقالات وسواها، مما نشرته له الرسالة في سنوات الأربعينيات لم تجمع بعد في كتاب، مثلما لم يجمع ما نشره على صفحات الرسالة من أشعار في ديوان. انتقى هو، منها مقالاته النقدية ونشرها في كتابه "كتب وشخصيات" وليت أحد الناشرين يجمع بقية مقالاته وينشرها في أكثر من كتاب، فهي حلقة مفقودة من تحولات الكاتب "سيد قطب"، وتشهد على مرحلة ثقافية واجتماعية من مراحل الثقافة والحياة الاجتماعية في مصر العربية، وكذلك كتاباته في صحيفة "مصر الفتاة". وفي مجلة "الكشكول".

 

النقد التكاملي

إذا كنت طالبًا بمدينة المنصورة، رحت أبحث في المكتبة العامة بالمدينة، وأجمع من مكتبات السوق كتب سيد قطب التي أحببتها. كانت كلها كتبًا نقدية مباشرة، أو ترتبط بالنقد بسبب من أسباب بلاغة التعبير، وفصاحة الأسلوب، وحسن الأداء، واستقامة المعالجة.

 

كان بينها كتابان "التصور الفني في القرآن"، و"مشاهد القيامة في القرآن" وكلاهما درس من دروس بلاغة التعبير في القرآن إذ تتموج مع تموج الموضوعات والسياقات وكان بينها كتاب نقدي بحت، توقف عنده طويلاً، وكان الكتاب عن "النقد التكاملي" ويطول الحديث لو أقدمنا عليه الآن عن موضوعات أبوابه وفصوله وعن منهجه ورؤيته ومنحاه. ووجدتني أربط بينه وبين كتاب آخر، في مجال آخر، قرأته ليوسف مراد، ذلك هو كتاب "علم النفس التكاملي" كانت ثمة مدارس في علم النفس، وكانت ثمة مدارس في النقد الأدبي، وكان لكل منهما مناهجه. ودهشت لمحاولة "سيد" الجسور في خلق منهج أدبي واحد، من مناهج الدراسات النقدية، وتجمع بينها في إهاب، مثل دهشتي من محاولة يوسف مراد الجسور في صهر مناهج المدارس النفسية في منهج واحد، وبدا لي الأمر وكان روح عصر تتحرك في النفس العربية، والعقل العربي، وتوجههما نحو هذا الصهر للمتفرقات في مدارس العصر في بوتقة واحدة، فالموضوع واحد، وسبل النظر إليه تعدد.

 

وكأن النفس العربية، والعقل العربي، يميلان أبدًا إلى هذا النهج الحضاري منذ ميلاد الحضارة العربية الإسلامية في العصر العباسي، فهو النهج نفسه الذي سار عليه إخوان الصفا، فلاسفة المسلمين وعلماؤهم، منذ القرن الثاني للهجرة الثامن من الميلاد، ولقد ظلوا على هذا النهج يسيرون في دأب مقدور حتى في عصور الانحطاط السياسية إلى بدايات القرن الميلادي التاسع عشر.

 

وكان بينها كتاب "كتب وشخصيات" وكنت قد قرأت قبل وقت قريب رواية "خان الخليلي" لنجيب محفوظ، واكتشفت كاتبًا واقعيًا، يقف على قدم المساواة في المحاولة مع بلزاك، وديكنز، وزولا، ووجدت في هذا الكتاب دراسة نقدية لهذه الرواية، ودراسة أخرى عن رواية "مليم الأكبر" لعادل كامل، الذي عرفت فيما بعد أنه رائد الواقعية الحقيقي في مصر، والأستاذ الأول لنجيب محفوظ على تقاربهما في سنوات العمر، مثلما عرفت بعد أن سيد قطب كان هو أول ناقد يقدم هذين الكاتبين للناس، في وقت كان النقاد فيه لا يكترثون بغير نقد الشعر ونقد أدب التراث ولا يحفلون في قليل أو كثير، بنقد المسرح والقصة، إلا في نادر الأحيان. ولم يدر بخاطري لحظة أن كاتبي سيد قطب، سوف يتوقف ذات يوم عن عطائه النقدي، ومساهمته في الحياة الأدبية، وسوف يخسره المبدعون للأدب في شكليه الجديدين خاصة: المسرح، والقص، إلى درجة أنه كتب سطورًا قليلة، وجهها للشاعرة نازك الملائكة يعتذر فيها عن المشاركة بمقال نقدي في مجلة الآداب البيروتية، لأنه وجه اهتمامه وعمره لقضية أخرى أكبر وأجل هي الدعوة إلى مجتمع الإسلام.

 

الخراف الضالة

دهشت ذات يوم حين رأيت لسيد قطب، كتابًا يحمل عنوان: العدالة الاجتماعية في الإسلام. قلت لنفسي: "من النقد يتحول الكاتب سيد قطب إلى الكتابات الإسلامية مثلما تحول من قبله طه حسين في: "على هامش السيرة" و"الشيخان" و"الوعد الحق" و"فجر الإسلام" و"مرآة الإسلام"، ومثلما تحول من قبله العقاد في "العبقريات" وسواها من كتبه الإسلامية قرأت كتاب سيد عن "العدالة الاجتماعية" في الإسلام. أعجبني نهجه فيه ومنطقه، وحيثياته من نصوص القرآن والحديث وواقع التاريخ لكنني ظللت أسأل نفسي بحيرة: لِم كان هذا التحول فجأة ؟ هل كان كتاباه "التصور الفني" و"مشاهد القيامة" وهما من النقد البلاغي الحديث، إرهاصًا بسيره في طريق الدراسات الإسلامية ؟ هل يئس الكاتب من دور فعالية الكلمة المبدعة والناقدة في تغيير المجتمع، وشعر بخلو الساحة العربية من فلسفة عصرية تفجر وتحدو إمكانيات المجتمع العربي وناسه، فطرق بكتابه هذا الدرب، ليقدم بالإسلام نهجًا وفلسفة لوطن وعصر ؟ أم أن "سيد" يجري عليه ما يجري على غيره من الكتاب العرب من تحولات، في زمن عز فيه، تحت سماء الشرق، العثور على فلسفة، ونظام يحقق التوازن العصري، لناس هذه البلاد ؟ أم أن الخراف الضالة لا تلبث أن تعود إلى حظائرها بعد طول اغتراب ؟ ولم أجد جوابًا لسؤالي إلا بعد لقائي بضع مرات لسيد قطب، في داره الفسيحة، بضاحية حلوان وكانت الثورة قد بسطت على أرض مصر، وأخذت تناويء الأحزاب، وكنت قد كتبت مقالاً بمجلة الرسالة بعثت به بالبريد من المنصورة، ونشرته الرسالة في باب عرض الكتب وكان المقال عن كتابه الإسلامي التالي: "السلام العالمي والإسلام" وكان سيد قطب قد أخذ يكتب تفسيرًا للقرآن، تحت عنوان "في ظلال القرآن" وينحو في تفسيره نحوًا نفسيًا، وبلاغيًا، يفسر فيه القرآن بالقرآن وبالحديث الصحيح. وبمناسبة النزول للآيات، في لغة شاعرية نثرية عزيزة المنال، وقدر له أن ينجز بقية أجزاء هذا التفسير وهو في قلب السجن، قبل شنقه بحبل مجدول.

 

اللقاء الأول

في اليوم الأول بالقاهرة ومن فندق شعبي بشارع "كلوت بك" بحثت في دليل التليفون عن رقم تليفون كاتبي الأثير، وجاء في صوته، فأخبرته باسمي، وبرغبتي في زيارته، فوصف لي العنوان إلى بيته في حلوان، وأرشدني إليه بدقة وكأنه حريص على اللقاء.

 

وجدته جالسًا في حديقة بيته، تحت شجرة عتيقة تتدلى منها بين الأغصان مصابيح الكهرباء. أخذني خادم إليه كان يلبس جلبابًا أبيض. كان أسمر اللون بيضاوي الوجه، يحمل عينين واسعتين، غافتين أبدًا، وبدا لي وهو ينهض مصافحًا نحيل القوام. وكان يجلس معه الشاعر "محمود أبوالوفا". وشمرت إذ جلست معه (وعينا أبي الوفا ترقبني) بغربته وغربتي شكرني على مقالي عن كتابه، وشردت عيناه، ينصت إلى السكون وزقزقة ما خافتة لطيور بين الأغصان في أشجار الحديقة، سألني من أين أنا، وشردت عيناه، وران الصمت. سألني فيم قدومي إلى القاهرة، وشردت عيناه، وران الصمت. شعر أبوالوفا بحرجي، فأخذ يحدثني، وسيد قطب يسمع وكأنه لا يسمع، وتذكرت ما كتب يومًا طه حسين عن الحكيم إذ قال عنه: هو "غائب حاضر" و"حاضر غائب". ترددت، ثم سألته عن رأيه في هذه الثورة، ابتسم وقال لي :

 

-         هنا، تحت هذه الشجرة، كان الضباط الأحرار يعقدون بعض اجتماعاتهم معي، في فترة التمهيد للثورة.

 

كانت الحديقة واسعة، يحيط سورها بها، وبهذا البيت الريفي المطلي الجداران، المنزوي في جانب يسير منها وكانت عيناه قد عادتا للشرود، وكأنه لا وقت في الزمن، ولا حساب لمرور اللحظات، وكأن الزمن الذي في داخله وحده، رأني أجوس بعيني في الحديقة، فقال لي ضاحكًا :

 

-    لست غنيًا. كان معي ألفا جنيه، وهذا البيت كان لمأذون حلوان مساحة نصف فدان، اشتريته منه بكل ما كان معي، وفي حديقته أقضي ليلي، ومكتبي بجانب هذه النافذة هناك الخضرة تساعد الكاتب. ألست معي ؟

 

وشردت عيناه، كأنما أرهقته الكلمات، أو كأنه أعتاد أن يكتبها، حتى نسى النطق بها، ونهض عائدًا إلى البيت، حتى ظننت أني لم أعد مرغوبًا في بقائي، فهممت بالإنصراف، فضحك "أبوالوفا" وقال :

- انتظر، سيعود. الوقت، في الليل، هنا، بلا حساب.

وعاد سيد قطب، يحمل مظروفًا، أخرج منه صورًا، وأخذ يريها لي واحدة واحدة، وكان هو في كل صورة، وتحت هذه الشجرة. وكانت كلها صورًا ليلية أخذت في ضوء الفلاش. وفي كل صورة كان هؤلاء الضباط الأحرار، هو بينهم أبدًا واسطة العقد، وإذ رددت إليه آخر صورة، قلت :

- لا أرى بينهم محمد نجيب.

فابتسم، وقال :

- هذا جاءوا به واجهة للثورة. الرتبة العسكرية لها حساب.

وأراني الصورة التي رددتها مرة أخرى، وأشار إلى جمال عبدالناصر. وقال :

- هذا هو قائد الثورة الحقيقي. يتوارى الآن، وراء نجيب، وغدًا سيكون له شأن آخر.

وأعاد الصورة إلى المظروف ووضعه على أريكة خضراء مثل أرائك الحدائق العامة، قلت :

- أراضٍ أنت عن هذه الثورة ؟

قال سيد قطب :

- لا أجد في تطور أمورها ما يريح، فهؤلاء الأمريكان يحاولون أحتواءها بدلاً من الإنجليز أتفهم ما أعنيه ؟

هززت رأسي، وأطرقت. وسمعت صوته يقول :

- هل تحس كشاب أنهم سيفلتون من الإحتواء ..

ولم أجد على لساني ما أجيب به. قلت بتردد :

- هل تحولت عن النقد ؟

دهش. وقال :

- من قال ذلك ؟

ثم ابتسم وقال :

- الكاتب حين تكون له قضية، يكتب في النقد، وفي غير النقد، وغايته أن يبعث العافية في أوصال الناس. الكاتب ليس ناقدًا فحسب.

وطالت الجلسة، وطال الصمت، وفرغت أقداح الشاي للمرة الثانية، وانصرفت مودعًا، عائد إلى محطة المترو، عبر شوارع لا يقطع سكونها، سوى نباح الكلاب، في ليلة مظلمة، شاجة الأنوار، وغبرة المصابيح.

 

الأطياف الأربعة

أمام بائع صحف، على رصيف، بوسط القاهرة، رأيت كتابًا يحمل عنوان: "الأطياف الأربعة" ودهشت إذ وجدت عليه اسم سيد قطب، وأسماء ثلاثة قدرت من اللقب أنهم إخوته. اشتريت الكتاب، وجلست على أول مقهى مع الضحى، كان الكتاب لونًا من المذكرات وسيرة الحياة في مجتمع متخلف، في قرية نائية من قرى مصر. قدم لي الكتاب حياة الطفولة والصبا لسيد وإخوته، في عالم القرية، مثلما فعل طه حسين في الجزء الأول من أيامه. وبدت لي سيرة الأخوة الأربعة، الصبية، أكثر صدقًا، وبساطة، وواقعية من أيام طه حسين، ومن عالم معذبيه وعجبت لأن الأسلوب واللغة، هما أسلوب سيد ولغته. فهل صب قلمه ما كتبه الأخوة في نسق واحد، أم أنه هو الذي فكر وكتب ما فكر فيه ؟ وهل تراه، وحياته مشتركة مع حياة إخوته، كان يترجم لفترة من العمر، لنفسه والأخوة يحبهم، في آن واحد، وهو لهم بمثابة الأب والأم والأخ الأكبر معًا ؟ .. فيما بعد لم أعرف من بين الإخوة الأربعة، كاتبًا، عدا سيد، سوى أخيه: محمد قطب، وكان في كتاباته، بعد أن تحول سيد تحوله الأخير، مثل الصدى للصوت، والشارح للمتن، والحاشية للشرح، والهامش للنص، والذيل للفصل. كان يردد أفكار أخيه وربما تكون الفكرة فقرة، مجرد فقرة في كتاب، فتصبح تحت يده كتابًا، لأخ ذاب في أخيه، وقاريء الضهر في مثله الأعلى. ومن المدهش والعجيب أنه كان يحتذي في أسلوبه وألفاظه، وإيقاع جمله، حتى في هذه الحروف الممدودة في الكلمات الأخيرة من الجمل، أو الفقرات، قبل الحرف الأخير.

 

وأحزنني أن أعلم، من أحاديث الأدباء في مقاهي الأدب، أن سيد قطب، يعيش برئة واحدة، بها يمد جسده بالهواء وأنه ربما بسبب هذه الرئة الوحيدة، يلزم بيته، ويحيا من قلمه، ويغادر وظيفته باللجنة الثقافية بوزارة التربية والتعليم، ويترك الأدب إلى الكتابات الإسلامية. ودور الناقد، لدور الداعية، وأنه يوشك على الولوج في عالم التصوف. واستبعدت بيني وبين نفسي. أن يتصوف سيد. فمن يحمل مثل روحه حتى في بدن نحيل، ومن يصبح القلم في يده الصغير مثل سوط في يد عملاق، لا يلج أبدًا طريقًا إلا من الباب الضيق. ومثله لا يهرب من مشاق الدنيا، وأبوابها الضيقة، إلى عالم التصوف، وأبوابه الواسعة، كفضاء الدنيا.

 

اللقاء الأخير

نشر في صحيفة أن سيد قطب، يلازم فراشه لمرضه بوعكة - صحية قد ألمت به. ومع أنني منذ أن سار سيد في طريق غير الذي أخطه لنفسي، وفي درب غير الذي كنا، نحن الأدباء، نسير فيه. فقد قررت الذهاب لزيارته، فأنا أدين له لم أزل في روحي بالكثير.

 

كان أمر "الإخوان المسلمين" قد آل إلى المرشد العام الجديد "حسن الهضيبي" وكان "سيد قطب" قد صار، بعد ضرب الثورة للأحزاب بالإخوان، أشهر وألمع كاتب في صحيفة الإخوان الجديدة: "الدعوة" صار كاتبًا ثوريًا على النهج الإسلامي، تحت راية "الإخوان المسلمين"، ولم يخف شكوكه عن قلمه، ولا عن الناس، وهي شكوك ظهر فيما بعد أنه كان مخطئًا فيها جميعًا. كان يهاجم هذه الاتصالات بين الثورة وبين الأمريكان، ويوشك أن يدعو الناس إلى الانتفاضة ضد ضباطها الأحرار، مثلما كان يدعو الفدائيين قبل الثورة، للإستدارة إلى ضرب الجهات التي تعوقهم عن العمل الفدائي ضد الإنجليز في داخل مصر. فهذه الجهات هي - آنذاك، في رأيه - العدو الرئيسي، والإنجليز، سيأتي دورهم بعد ذلك حين تتوحد الصفوف، وتتطهر أرض الوطن. ومثلما كان يفعل في صحيفة "مصر الفتاة" تحت عنوان "وراء الرغيف" ومثلما كان يفعل في مجلة "الكشكول" محرضًا في الإثنين للناس على المطالبة بالعدالة، لينال الفقراء والمستضعفون حظهم من الدنيا، ويكون لإنسانيتهم حق الأخذ والعطاء.

 

كان راقدًا على سريره، لاهث الأنفاس، يعاني من برد شديد، مدلي يده الصغيرة مصافحًا، وهو ينهض بنصف قومة، وجلست بجانبه على مقعد وقلت له ضاحكًا: ظننت أن مرضك مرض سياسي.

 

فقال لي: إن شئت الحق. الاثنان معًا.

 

تذكرت يومًا سمعت فيه عن محاضرة في قاعة "علي مبارك" بكلية الآداب، جامعة القاهرة، فذهبت لاسمعه يتحدث خطيبًا لأول مرة ورأيت ذلك النحيل البدن، الشارد العينين، الذي يؤثر القول بالقلم، عن القلم باللسان، خطيبًا مفوهًا، وداعية إسلاميًا حاضر الذهن بالآيات، والأحاديث، ووقائع التاريخ، يحدث الحاضرين في القاعة عن طريق الإيمان، وعن عدم فصل الإسلام بين الدين والدنيا، والمادة والروح، والمسجد والدولة، مثلما تفعل حضارات الغرب والشرق. ويروي من سيرة حياته (سمعت ذلك بأذني) أنه ظل ملحدًا أحد عشر عامًا، حتى أخذ يكتب كتابه "العدالة الاجتماعية في الإسلام" فإذا به يعثر على الطريق إلى الله، ويخرج من حيرة الإلحاد إلى طمأنينة الإيمان، وتسوقه الخطبة إلى مهاجمة الجامعة، في قلب الجامعة، ويصف أساتذتها بقوله: "جهل يحمل الدكتوراه". عند تلك القولة "الهفوة" شعرت أنه قد صار بيني وبينه بون شاسع.

جاءت شقيقته الصغرى بالشاي، وضعته بيننا، وقلت لسيد: ما رأيك في الاشتراكية ؟

 

فقال لي: لا هدف لها سوى العدالة. والإسلام عندي اشتراكي النزعة.

 

قلت له: وددت لو أعرف منك. لِم أنضممت إلى الإخوان، وصرت لهم خطيبًا، وداعية ؟

 

فقال لي: في الناس وحوش. ولا يتوقف وحشيتهم بالوجدان، سوى الدين، ولا يجريء الضعفاء عليهم سوى الدين.

 

فهمت في تلك اللحظة نزعة المصلح الاجتماعي المثالي عند سيد قطب، وسر اختياره لهذا الطريق. رويت له كيف كنت عضوًا مغمورًا بالإخوان قبل سنين وكيف بكيت يوم مات مرشدهم حسن البنا، وكيف تركت الإخوان، حين جلست على رصيف محطة للسكة الحديد، أقرأ في كتاب "علم النفس التكاملي" ليوسف مراد في ظل شجرة رطيب في عز الظهيرة، وجاء قائد من قادة الإخوان، وجذب الكتاب من يدي، وإذ قرأ عنوانه، طوح به، ودوت يده بصفعة على خدي وأذني، وقال لي: أتقرأ هذه الكتب، وتترك كتاب الله ؟

 

ابتسم سيد بحنو، وقال: ولذلك تركت الإخوان ؟

 

قلت: أجل. هذا التطرف، والكراهية لعلوم الدنيا، لا أطيقها من أحد.

فقال لي: إنهم شباب ينقصهم الكثير من المعرفة بأمور الدين، وروح الدين، وغاية الدين.

 

ولم يفلح يومها سيد في إعادتي إلى "الحظيرة" ولم أتوقع منه هو، أن يكون في يوم ما، داعية لهذا التطرف العنيف، في كتابه الرهيب: "معالم على الطريق"، وكأنه كان يشعر أنه سيودع الدنيا، شهيدًا، بعد حين، ويستعجل الشهادة.

 

كثيرًا ما كان يخالجني الشك في صلته بالعقاد. فأسلوب سيد فيه لمسات الإحتذاء للعقاد، روى لي سيد ذكرى مريرة، بدا لي وهو يرويها كأنها لم تعد تحزنه، أو تعنيه في شيء. قال لي وهو يبتسم :

 

-    كنت له تلميذًا محبًا، وكنت أقدم له كتبي، فيثني علي، ويقربني منه، حتى طلبت منه ذات يوم أن يكتب مقدمة لكتاب لي، يقدمني به للناس. فأبى ذلك على نفسه وعلي. وشعرت بالغيظ، حين أثر أن يقدم لكتاب "بروتوكلات حكماء صهيون" لخليفة التونسي، ولا يقدم لكتابي. فجفوته وجفاني، وهجرت مجلسه.

-          

وسألت سيد قطب: أي كتاب كان ؟

فقال لي: ليس ذلك مهمًا الآن.

وإثر سيد الصمت في هذا الموضوع، ولم ألح عليه. لكنني فكرت أنه ولابد كان واحدًا من كتابين: "التصوير الفني"، أو "مشاهد القيامة" وهما موضوعان يجدر أن يكتب فيهما العقاد. أيكون السبب هو غيرة الأستاذ من تلميذه الموهوب ؟ أم يكون سبب الرفض والجفوة، حدة القلم، وتمرد الروح، في كتابات سيد قطب ؟

 

 

علم الأعلام

شقت صفوف الإخوان بعد ضرب الأحزاب، وإلغاء الدستور، وحل البرلمان، بإثارة اتجاهين، داخل صفوف الإخوان، أحدها ضد الآخر، اتجاه الدعاة من خريجي الأزهر، واتجاه الدعاة من خريجي الجامعات الحديثة، وكان سيد قطب علم الأعلام في هذا الاتجاه الأخير.

 

وصدر كتاب "معالم على الطريق" لسيد قطب، وقد حلت جماعة الإخوان، وجرت المحاولة لاغتيال عبدالناصر، حقيقة كانت هذه المحاولة أو تمثيلاً، وألقت الثورة القبض على مفكري جماعة الإخوان، وفي طليعتهم سيد قطب، وعبدالقادر عودة.

 

مازالت أذكر يومًا، جلست فيه مع الناس، ونحن ننصت إلى محاكمة الثورة (في محكمة الشعب) لقيادات الإخوان. وإذ جاء الدور على سيد قطب، فوجئت به، عبر الآثير يتكلم، هو النحيل البدن، ذو الرئة الواحدة، بقوة، لا حساب معها لخوف من ضرب أو تعذيب، قبل المحاكمة، أو بعد المحاكمة. يتحدث بصفاء مدهش، إلى قاضيه، وقد كان واحدًا من صفوة من الثوار يجتمعون عنده في بيته. وفي الليالي الحارة، والليالي الباردة، يتحاورون، في أمور التمهيد للثورة، والإعداد لها، ولقد أراني سيد يوم زرته أول مرة، صورة لهما كان يجلسان معًا، ويأكلان معًا القاضي والمتهم وحدث دون أن يدور لهما بخاطره، أن أحدهما سيكون ضحية بكلمة ينطق به صاحبه.

 

ومازالت أذكر يوم قابلت شقيقه "محمد" وكنت قد أصدرت أول مجموعة قصصية لي، وأهديتها لسيد في سجنه، فأخذها منه سيد. وقد أعاد إلي سيد قطب الغلاف الداخلي الذي خططت بيدي الإهداء إليه، وحمل محمد الورقة لي، قائلاً لي: سيد يقول لك: إنه لا ينبغي أن ينالك أذى بسببي. فمزق هذه الورقة بيدك أنت.

 

أشفق سيد أن يمزق هو الورقة بيده ولا أعلم، فأقع ذات لحظة أسير الهواجس والمخاوف والظنون، وأظل أترقب. وقد كان ذلك يمكن أن يحدث لي، إثر إعلان الحكم عليه بالموت شنقًا.

 

مجلة (الهلال) - سبتمبر 1986

 

إرسال تعليق

0 تعليقات