عز الدين البغدادي
من أصعب ما يمكن أن تقوم به هو أن تحاول إصلاح أفكار الناس الدينية
لا سيما إذا كانت تلك الأفكار هي التي توجههم وتحركهم وتحدد خياراتهم ورؤيتهم
للحياة بكل تفاصيلها، لذا لا يمكن أن يقوم بهذا الأمر بشكل صحيح إلا إنسان يحس
فعلا وواقعا بوجع المعاناة، ولا يتعامل مع الموضوع بشكل انفعالي أو انتقائي أو
تهكمي.
كما أن عملية الإصلاح عملية تحتاج كثيرا من الصبر، والابتعاد عن الإثارة،
أنها مثل عمل الطبيب الذي يجري عملية جراحية دقيقة فمن غير الممكن أن يستعجل في
عمله، لأن ما يقوم به يفرض عليه أن يكون دقيقا.
كثير من الإخوة كانوا يسألونني ومنذ فترة طويلة عن رأيي في الأخ
ميثاق العسر وما يكتبه، ورغم اختلاف توجهات السائلين إلا أني كنت أجيبهم بان الرجل
وان كنت اختلف معه في أمور كثيرة إلا انه يملك عمقا علميا ومنهجا جيدا. اقدر له
محاولاته لكسر النمطية التي حاول علم الكلام والخطاب التقليدي تصوير الأئمة بها،
وكان رأيي أننا لا بد أن نفهم الأئمة (ع) في طبيعتهم البشرية وظروفهم الاجتماعية.
ومع أني كنت أجد نفسي مختلفا معه في رؤيته للقضية المهدوية أو
الرؤية السياسية للثورة الحسينية وأمور أخرى، إلا أن الاختلاف أمر طبيعي، وشخصيا
لا انزعج ممن يختلف معي فكريا إذا كان أسلوبه في البحث والطرح نظيفا.
لكني استغربت جدا من منشورات الأخ العسر في الآونة الأخيرة، وبدا
لي كأنها تمثل تصعيدا في اللغة دون داع لذلك، وسأقف عند نقطتين مما آثارها:
بالنسبة لقضية الإمام السجاد (ع) واختلاف موقفه عن موقف أبيه من
السلطة فإن هناك نظريتين في تفسير مواقف الأئمة عموما: الأولى التي يمكن تسميتها
بالغيبية والتي ترى أن موقف أي أمام يعتمد على تكليف خاص ووصية مدونة نزل بها
جبرئيل من السماء وسلمها للنبي (ص) وهو الذي أعطاها للائمة، وكل إمام يستلم وصيته
وتكليفه من الإمام السابق ويعمل وفقها، وبهذه الرؤية تم تفسير اختلاف تصرف الإمام
السجاد عن أبيه وذلك باختلاف التكليف والوصية لكل واحد منهما، وهذه نظرية كما بينت
سابقا غير منطقية ولا دليل عليها. أما النظرية الثانية التي يمكن تسميتها
بالواقعية فإنها ترى أن كل أمام يأخذ موقفه بحسب واقع الحياة ورؤيته إليها،
وبالتالي فإن اختلاف موقف الإمام السجاد عن أبيه هو موقف طبيعي ينسجم مع الرؤية
البشرية للإمام لا سيما مع النتائج المؤلمة التي انتهت إليها ثورة الحسين (ع)،
وبالتالي ليس هناك أي خدش لموقف الإمام سواء وفق النظرية الغيبية أو وفق النظرية
الواقعية.
وأما بالنسبة قضية الرق، فللأسف كان هناك أسلوب غريب في طرحها لا
سيما فيما يتعلق بشخصية النبي (ص) وموقفه من الرق، ان المشكلة ليست في موقف النبي
(ص) من الرق، وهو موقف تقدمي جدا بل في إصرارنا على أن إهمال الجانب التاريخي لتلك
المرحلة والتي لا يمكن أن تنفك عن ظرفها الزماني والمكاني، لقد دعا الإسلام بقوة
الى تحرير الرقيق وفي باب الكفارة كان عتق الرقبة هو الخيار الأفضل، ووضع الكثير
من التشريعات بهذا الشأن كما رفض أي تمييز على أساس اللون او العرق وجعل التقوة
مقياس التفاضل، كما أكد على التعامل الإنساني مع الرقيق، وهو ما اعترف به غوستاف
لوبون في كتابه "حضارة العرب" فقال: الذي أراه صادقاً هو أن الرقّ عند
المسلمين خير منه عند غيرهم، وأن حال الأرقاء في الشرق أفضل من حال الخدم في
أوروبا، وأن الأرقاء في الشرق يكونون جزءاً من الأسرة... وأنّ الموالي الذين
يرغبون في التحرّر ينالونه بإبداء رغبتهم.. ومع هذا لا يلجأون إلى استعمال هذا
الحق.
مشكلة الرق أو إشكالية الرق لأنه لم يعد لها وجود إلا في الجدل
العقيم، لا يرجع سببها الى ان الإسلام شرعها او اقرها، بل ترجع الى ظروف اجتماعية
محددة، وأثارتها عندنا ترجع الى خلل في منهجنا ونحن نحاول ان نحاكم التاريخ وفق
قيم هذا العصر، وهو خلل وقع فيه "التنويريون" أو بعضهم ممن يتلذذون بجلد
الذات وانتقاد الإسلام ليثبتوا أنهم مثقفون، كما وقع فيه العقل الفقهي المأزوم
الذي لا زال الغالب عليه هو التفكير وفق المنهج القديم وكأننا لا زلنا نعيش تلك
المرحلة التاريخية.
إن الإصلاح الذي يستهدف إرباك الوعي ليس إصلاحا، بل هو عملية تدمير
للشخصية، والتجاوز بأي نحو كان على الشخصية المحمدية هو موقف سيء أخلاقيا ومنهجيا،
فهناك فرق بين التنوير وبين كسر العظم.
0 تعليقات