بقلم : محمد إسماعيل حافظ
يحلو للبعض من مراهقي الليبرالية الجدد ومن أطفال الثورجية السذج..
التهجم دائما على الزعيم الخالد ويلوكون في أفواههم دائما مقولة إن عبد الناصر هو
من أتى بحكم العسكر لمصر.. وأن مصر منذ ستين عاما وهي ترزح تحت حكم العسكر والسبب
في ذلك كله هو عبد الناصر والذي ابتدع سنة جديدة في الحكم المصري.. وهنا ينبغي لنا
أن نقول بأن تلك المقولة هي مقولة مغلوطة وبعيدة كل البعد عن الحقائق الثابتة في
التاريخ المصري ، فالقارئ العادي للتاريخ المصري الممتد سيكتشف على الفور أن أغلب
حكام مصر على مر التاريخ كانوا من العسكر بدءا من الملك مينا وأحمس ورمسيس ..مرورا
بصلاح الدين وقطز وحتى محمد علي باشا أبو الليبراليين الجدد ومثلهم الأعلى كما
يقولون، (فمحمد علي كان بالأساس عسكريا ألبانيا قدم لمصر ضمن الحامية العثمانية) …
لكن هؤلاء يردون على الفور إن المشكلة لم تكن فقط في رأس النظام
إنما المشكلة الأساسية هي أن عبد الناصر قد قام “بعسكرة ” الدولة المصرية بأن وضع
ضباطا على رأس كل مؤسسات الدولة في عهده وهذا هو جوهر حكم العسكر كما يقولون..
والحقيقة أن هذه المقولة صحيحة لحد كبير ولا ننكرها بالطبع لكن نزعها واجتزائها من
سياقها التاريخي والمجتمعي هو ما يمنع هؤلاء من فهم مثل هذا التصرف من عبد الناصر،
فنظرة واحدة على الواقع التعليمي والمجتمعي لحال الدولة المصرية في عام 1952 قد
تفسر لنا لماذا لجأ عبد الناصر للاستعانة بكل هؤلاء العسكر ليعاونوه في إدارة
الدولة المصرية في ذلك الوقت..
ففي هذه الأيام كانت نسبة الأمية في المجتمع ككل تقترب من 90% من
تعداد الشعب المصري.. أما العشرة بالمائة المتبقين فكان 70% منهم من حملة الشهادات
المتوسطة والتحت متوسطة.. فلايتبقى لنا سوى 30% من تلك النسبة (من العشرة بالمائة)
هم فقط ممن يحملون مؤهلا جامعيا يؤهلهم لتولي قيادة مؤسسات الدولة.. أي أننا بصدد
حوالي 3% فقط من إجمالي السكان يحملون شهادات جامعية… وهؤلاء الـــ 3% كانوا في
الأغلبية الساحقة منهم من باشوات العهد البائد ومن أبناءهم ومن أبناء كبار أعيان
الريف والأقاليم.
لقد كانت مصر تعيش فى تلك الأيام فى مجتمع حزبى طبقى مغلق على نفسه
، وكان كل حزب يفوز فى الانتخابات يقوم بطرد مؤيدى الأحزاب الأخرى من إدارة مؤسسات
الدولة وشركاتها ومصانعها بما أوجد حالة من التخبط والفوضى في كافة المؤسسات..
وبالطبع كان كل هؤلاء – باستثناءات نادرة جدا- من المؤيدين للملكية ومن المرتبطين
عضويا بالنظام الملكي بشبكة مصالح معقدة ومتشابكة وبالتالي فقد كان ولاءهم الطبيعي
للملك وللنظام السابق وكانت مشاعرهم تجاه الثورة الوليدة وقتها مشاعر سلبية بحكم
طبائع الأشياء.
إذن لم يكن أمام عبد الناصر حينها إلا خيارين لاثالث لهما..فإما أن
يستعين بهؤلاء”الفلول” كي يعاونوه في إدارة الدولة .. وبالطبع فهؤلاء كانوا
سيعملون على تقويض الثورة من داخلها وإجهاضها بكل قوتهم وبحكم مالديهم من سلطات
وآليات وأعتقد أن ما رأيناه بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير من أفاعيل “الفلول
الجدد” بالثورة الحالية كفيل بأن نقتنع بخطأ وخطورة هذا الخيار..، أما الطريق
الثاني أمام عبد الناصر فكان هو الإستعانة برفاقه من الضباط الأحرار الذين قاموا
بالثورة معه والموالون للثورة كي يضعهم على رأس مؤسسات الدولة من وزارات وهيئات
ومواقع مفصلية ليعاونوه في إدارة الدولة ، ريثما يكبر جيل آخر من أبناء الطبقة
الوسطى والفقراء ليقوم وقتها عبد الناصر بعملية إحلال وتبديل لهؤلاء الشباب
المتعلم والقادم من رحم الثورة محل الضباط القدامى والذين بحكم السن حتما سيتركون
مواقعهم للمتعلمين الجدد …
وفي هذا الصدد يجب أن نعترف ونقر بكل موضوعية بأن ” البعض” من
هؤلاء الضباط لم يكن على المستوى المطلوب سواء من حيث الكفاءة أو النزاهة أو حتى
الإيمان بمبادئ الزعيم عبد الناصر.. لكن المتابعة المنصفة لمجمل الأداء في الدولة
المصرية وقتها كان إيجابيا لحد مبهر ،وقد برزت على الساحة السياسية في ذلك الوقت
أسماءا لامعة من هؤلاء العسكر ممن أثروا وأفادوا الوطن في المجالات والمواقع التي
شغلوها ، فمن يستطيع إنكار دور عبد القادر حاتم وثروت عكاشة فى إنماء ورفع شأن الثقافة
المصرية ، ومن يستطيع إنكار دور السفير محمد رياض فى وزارة الخارجية ، ومن يستطيع
إنكار دور مجدى حسنين فى إدارة وتنفيذ مشروع إصلاح مديرية التحرير التى خضرت صحراء
مصر في الستينات ومن ينسى أسماء مثل عبد الخالق حسونه وأحمد حسن زكى وعلى الجريتلى
وحلمى سلام وغيرهم.وقد أصبحوا من أعلام الشخصيات المصرية فى مجالهم بعد الثورة،
وقد حققت مصر تحت قيادة هؤلاء طفرة اقتصادية وتعليمية هائلة أقرت بها كبرى دوائر
المال والاقتصاد العالمية ويكفي أننا كنا وقتها على قدم المساواة بدول مثل الهند
وكوريا الجنوبية…واستطاعت مصر وقتها رغم الحروب ورغم الحصار الاقتصادي الغربي أن
تحقق قفزة نوعية في كافة المجالات ..وكل هذا كان تحت “حكم العسكر” وبإدارتهم
للدولة.. إذن فقد كان اعتماد عبد الناصر على ضباط الجيش بعد الثورة لأنهم كانوا
الكوادر الإدارية الوحيدة المتاحة أمامه من أجل فرض النظام داخل مؤسسات الدولة
وتطبيق أهداف الثورة ، لذلك كنا كثيرا ما نرى شبه مراقب عسكري على قمة هذه
المؤسسات وكان يعاونه طاقم مدنى يتولى شؤون هذة المؤسسات والشركات والمصانع من
الناحية التقنية …. لذلك فقد نجحت تلك الدولة الراسخة ولم تتهاوى اقتصاديا … حتى
فى أحلك ظروفها وهى تعانى من الحصار الاقتصادي وأثار حرب 56 و67 بعدها.. ولعل فى
واقعة تأميم قناة السويس خير مثال للفكر الناصرى فى تلك المرحلة … فقد قام
بالتأميم الفعلى قيادات من الجيش ( محمود يونس ورفاقه ) ولكن من قام بالعمل داخل الشركة
كانوا من المدنيين … وقد كانت مشاركة المرشدين اليونانيين فى إدارة قناة السويس
تقنيا خير مثال على ذلك ….
أضف إلى ذلك أن عبد الناصر قد وجد نفسه بعد فترة وجيزة جدا من
قيامه بالثورة رئيسا لدولة و زعيما لأمة من المحيط للخليج وصار رمزا و قائدا لثورة
امتدت أصدائها الى كل أرجاء الكرة الأرضية في آسيا و أوروبا الشرقية و أمريكا
اللاتينية و قلب إفريقيا . و اقتضت الظروف أن يكون في مواجهة كل الزعماء و القوى
الامبريالية و الصهيونية العالمية و التي كانت لاتزال تحتفل بانتصارها التاريخي في
الحرب العالمية و خضعت لهم شعوب العالم كله ،و في أقل من 14 سنة وجد نفسه في معارك
سياسية و اقتصادية و عسكرية و بل و مصيرية طاحنة ( العدوان الثلاثي -حرب 67 – حرب
الاستنزاف- معركة السد العالي – معركة استرداد قناة السويس – مساندة الثورة
اليمنية استقلال الجزائر.. و غيرها و غيرها ). فماذا كانوا ينتظرون من رئيس يعتمد
على شعب من المزارعين و أنصاف الجهلة ؟ في مواجهة كل هذه التحديات ؟
ثم إننا لو استعرضنا الواقع السياسي العالمي في كل دول العالم حتى
سنة 1970 ، لوجدنا أن أكثر من 90% من حكومات تلك الدول كانت من رجال المؤسسة
العسكرية فيها حتى في العالم الغربي وكان ذلك من تبعات واستحقاقات مرحلة ما بعد
الحرب العالمية الثانية حيث اتجه وعي الشعوب في العالم بأسره لكبار جنرالات الحرب
المنتصرين والذين جاهدوا في سبيل الدفاع عن بلادهم،( ديجول في فرنسا- روزفلت ثم
أيزنهاور في الولايات المتحدة-فرانكوا في أسبانيا) . حتى الدول التي كان معروفا
تمتعها بالقيادات المدنية في ذلك الوقت، كان لجنرالات الحرب كلمة عليا في تشكيل
هياكلها و مؤسساتها ولذلك فقد كان السياق التاريخي العالمي في مجمله في تلك الأيام
متجها في أغلبه لحكم العسكر بصورة أو بأخرى.، فلماذا ينسبون لعبد الناصر وحده هذا
التوجه و هو الذي حكم البلاد في ظروف كان العالم كله يتحدث بلغة الحروب و الجيوش
فيها هي التي تملك زمام أمورها ، ولا يتحدثون عن الذين ترسخت فترات حكمهم الطويلة
في ظل سلام وتحالف ووئام مع باقي دول العالم و لمدة 41 عامآ كاملة كانت كفيلة بأن
يتم تبديل قيادات الجيش وإخراجهم من مؤسسات الدولة المدنية و قد كانت لهم القدرة
الكاملة خلال هذه الفترة الزمنية الطويلة لفعل هذا ؟
إذن فقد كانت استعانة عبد الناصر بهؤلاء الضباط و”عسكرة” الدولة
كما يقولون هي ضرورة حتمية ومباشرة أضطر إليها الزعيم تحت وطأة ظروف الواقع
المجتمعي حينها.. ولم تكن نابعة من حبه للعسكر وللعسكرة كما يحلو للبعض أن يقول
بغير علم بحقائق التاريخ وباختلاف ظروف المجتمع المصري والواقع العالمي وقتها عن
الوقت الحالي..
وبالإضافة لكل ما أوردناه فينبغي الأخذ في الاعتبار أن تركيب
النخبة البيروقراطية قي قمة الهرم الحكومي في مصر قد شهدت تغيرا نوعيا لصالح
المدنيين وخاصة من المهندسين والعلميين والتجاريين على حساب العسكر في مصر الثورة
وتحديدا منذ منتصف الستينات وذلك طبقا لدراسة أكاديمية قام بها الباحث الدكتور
نزيه نصيف الأيوبي وقد رصدت تلك الدراسة حدوث تحول نوعي هام في تركيب النخبة مع
منتصف الستينات وبعدها لصالح المهندسين والتجاريين والعلميين في قمة الهرم البيروقراطي
بنسبة تقترب من الخمسين في المائة وتأتي النخبة العسكرية بنسبة 8 % ( !! ) في
ترتيب النخبة الإدارية ، وقد تقلصت هذه النسبة ( 8%) بعد نكسة يونيو 1967 بشكل
كبير ( النخبة العسكرية تشكل الجيش والشرطة )…ولكن نظرا للجهل الشديد والتعميمات
السياسية لم يقرأ أحد هذه الدراسة العلمية ،أو بالأحرى تمت التعمية عليها وطمسها.
كذلك نلحظ بوضوح أن من روج لهذه المقولة ورسخها في عقول الناس
وروجها بين شباب المراهقين الليبراليين هذه الأيام. هم أنفسهم من ناصبوا عبد
الناصر العداء وكادوا أن يغتالوه في حياته و مازال عداؤهم للرجل مستمرا بعد رحيله
بأكثر من أربعين عاما كاملة. و هؤلاء هم أنفسهم الذين تسلقوا ثورة الشباب ووجدوا
فيها فرصتهم الذهبية كي يأخذوا بثأرهم من الزعيم الراحل و من كل من أحبوه و تأثروا
بشخصيته العبقرية و من فكره الذي لا يزال حلمآ لكل الأحرار والوطنيين في العالم كله.
وهم أنفسهم من ابتدعوا هذه الأيام مقولة جديدة و يعملون بكل قوة على نشرها بين
الناس مفادها أن الشريعة و حكم الإسلاميين هو السبيل الوحيد لتقدم و رقي الوطن ،
فقد بدأوا في الترويج لفكرة أن حكم المدنيين و فكر الليبرالية و العلمانية هو الذي
حكمنا و فشل منذ ثورة 1952 و حتى يومنا هذا . و بذلك فهم لم يكتفوا بالهجوم الذي
تعودناه على المؤسسة العسكرية فقط . فهذه مرحلة قد أصبحت من الماضي ، و أما
المستقبل فيتطلب الترويج لفكرة تجمع حكم العسكر بحكم المدنيين في بوتقة واحدة لكي
يتبقى لنا فكرة حكم الإسلاميين و سحب المجتمع نحوهم ….. و هنا مكمن الخطورة.
0 تعليقات