نصر القفاص
صدق ويجب أن تصدق الحقيقة.. ولأن الحقيقة تقف دائما على قدمين, يجب
أن تقدم برهانك على ذلك.. الحقيقة أن "مستنقع وطن" هو وصف تم إطلاقه على
مسخ سياسى, فوجئنا بمن يفرضه علينا قبل انتخابات "مجلس النواب" عام
2015.. بدايته كانت باهتة.. لكنها لافتة للنظر.. وقد ترى أن "الباهت"
يصعب أن يلفت النظر.. هنا يمكننى التوضيح أنه يمكن "للباهت" أن يلفت
الأنظار, إذا أحاطته علامات استفهام غريبة ومريبة!! وبما أن هذا "المسخ
السياسى" تم تصنيعه وإطلاقه فى مطابخ سرية, فقد لفت الأنظار.. تمر الأيام والشهور
ليتحول هذا "القط السيامى" إلى "ديناصور" يعوم فى بحر
الأسئلة.. المشهد آثار الدهشة.. ثم تحول إلى استغراب.. تطور إلى تعجب تصحبه حالة
قلق وخوف شديدين.. هنا ظهر الوعى الجمعى ليحذر من خطورة هذا الكيان, بعد أن أصبحت
له ملحقات سرية انكشف أمرها فجأة!!
لا أمانع من المشاركة فى "الثرثرة السياسية" خلال أوقات
الفراغ.. لكننى أنصرف عنها حين يتحول إلى هواية تمارس مضغ الفراغ.. ولحظة الذهاب
إلى الاستفتاء على التعديلات الدستورية عام 2019, كان لابد أن أتوقف مدققا لأفهم
حكاية هذا "المسخ السياسى" الذى أطلق عليه الشعب رصاصة بأوصاف من قبيل
"مستغفل وطن" و"مستكرد وطن" وصولا إلى "مستنقع وطن"
وهو آخر الأوصاف التى واكبت انتخابات "مجلس الشيوخ" عام 2020.. ترددت فى
أن أكتب عما يحدث, لأوضح أنه إعادة إنتاج لتجربة مريرة.. فاشلة.. سبق أن عاشتها مصر
قبل نحو قرن من الزمان.. حدث ذلك حين انتابت سلطة الاستعمار الانجليزى, حالة خوف
من الشعب المصرى ونخبته السياسية التى تصدرها "سعد زغلول" وسط كوكبة من
كبار الساسة.. كل منهم كان زعيما.. لكن "سعد زغلول" فرضه الشعب زعيما
للزعماء!! لحظتها التقت إرادة سلطة الاحتلال مع سذاجة ملك اسمه "أحمد
فؤاد" خاصة أن رهانهما على حزب "الأحرار الدستوريين" الذى صاغ
دستور 1923, قد جرفته عاصفة الإرادة الوطنية بمنح "الوفد" ورجاله, دون
أن يكون حزبا أغلبية واضحة.. بل قل كاسحة.. وترتب على ذلك أن ترأس "سعد
زغلول" أول حكومة وطنية بعد إلغاء الانتداب بموجب تصريح 28 فبراير عام 1922, وكانت
حيلة من الاستعمار للقفز على ثورة 1919.. هنا دارت ماكينات المؤامرات لإسقاط
"حكومة الشعب" بزعامة "سعد زغلول" حتى حدث ذلك فعلا.. كان
الثمن جريمة اغتيال سياسى للسير "لى ستاك" سردار الجيش الانجليزى – قائد
الجيش فى مصر والسودان – قبل نهاية عام 1924.. وباعتباره سياسيا من طراز رفيع, فهم
"سعد زغلول" أبعاد المؤامرة وأهدافها.. قرر الانسحاب تكتيكيا بتقديم
استقالة حكومته, لمنع سلطة الاحتلال من إعادة فرض الانتداب على مصر.. حينها اعتقد
"المندوب السامى البريطانى" أن هذا يمثل نصف انتصار لسلطة الاستعمار,
خاصة وأن كل محاولات إلصاق تهمة اغتيال "لى ستاك" بالوفد وبعض رجاله قد
فشلت.. وكان من بينهم "أحمد ماهر" و"محمود فهمى النقراشى"
وهما من شباب "الوفد" آنذاك.. والمدهش أن كليهما تم اغتياله عندما وصل
إلى منصب رئيس الوزراء.. كليهما اغتالته "جماعة الإخوان".. كل منهما تم
اغتياله بمسرح عمليات مدروس.. فاغتيال "أحمد ماهر" تم فى "البهو
الفرعونى" للبرلمان.. واغتيال "محمود فهمى النقراشى" تم فى مدخل
وزارة الداخلية.. بعدها فشلت محاولة اغتيال "جمال عبد الناصر" فى
"الإسكندرية" التى تم اختيارها بعناية ولأسباب عميقة.. ونجحت محاولة
اغتيال "أنور السادات" أمام "المنصة" وفيها قبر الجندى
المجهول فى يوم ذكرى انتصار 6 اكتوبر!! ظنى أن المشاهد تستدعى التفكير وتحرض على
القراءة بتركيز أملا فى فهم عميق.. فقط أشير إلى أن "أنور السادات" كان
متهما باغتيال "أمين عثمان" وزير المالية القائل: "الزواج بين مصر
وبريطانيا.. زواج كاثوليكى!! ورغم أن "أنور السادات" إعتقد أنه أذكى من
الاستعمار وصنيعته – جماعة الإخوان – فقد تم اغتياله, ليدفع ثمن التذاكى وتقديم
القرابين للذين كان يخشاهم مستهينا بالشعب!!
تاريخ مصر أشبه بالبحر الذى تتلاطم أمواجه.. فيه جزر تستحق أن
نتوقف فوقها, لاستيعاب وفهم الحاضر, إن أردت أن تتطلع إلى المستقبل.. لذلك سأعود
إلى جزيرة عام 1924, حين تولى "أحمد زيوار باشا" الوزارة خلفا للزعيم
"سعد زغلول".. وكان هو الذى رشح واحدا من كبار – صغار – رجال الدولة
واسمه "حسن نشأت" ليكون رئيسا للديوان الملكى.. تم حل البرلمان الذى
يسيطر عليه "الوفد" بأغلبية كاسحة, بدعوى الذهاب لانتخابات جديدة..
إعتقدوا فى أن هذه لحظة حاسمة للقضاء على "الوفد" وإنهاء
"زعامة" سعد زغلول.. تم تجهيز "الطبخة" كاملة فى
"لندن".. قدموها للملك "أحمد فؤاد" على أنها لإنقاذه من
محاولة "سعد زغلول" إعلان "الجمهورية" وإنهاء الملكية!! قبل
تقديم "الطبخة" للملك راحت الصحف البريطانية تكتب عن شكوكها فى إخلاص
"سعد زغلول" للملك والنظام الملكى.. نشرت صحيفة "ديلى تلجراف"
تقريرا من مراسلها فى القاهرة يقول: "صحف الوفد تخفى الحقيقة.. لكن
الانتخابات المقبلة ستكون على أرضية الخلاف بين الملك فؤاد من جهة, وزغلول باشا من
جهة أخرى" وتلقفت جريدة "ليفربول بوست" الكرة لتكتب تحليلا سياسيا
جاء فيه: "إذا فاز السعديون – الوفد – فى الانتخابات القادمة, فلن تقوم
المتاعب فى وجه بريطانيا العظمى وحدها.. فقد بلغنا من مصدر يوثق فيه, أنها ستكون
فى وجه المعتدلين.. وإذا ربح زغلول باشا الانتخابات.. فلن يكون مركز الملك فؤاد
نفسه مأمونا.. لأن الزغلوليين يعتقدون أن الملك فؤاد قد تخلى عنهم"!! واستمر
العزف للحن نفسه لتكتب جريدة "نيو كاسيل كرونكل" مقالا جاء فيه:
"مركز الملك فؤاد ليس مأمونا إذا فاز زغلول باشا.. لأن الزغلوليين يرون أن
الملك غدر بهم"!! ثم استمر التصاعد لتنشر جريدة "التايمز" تقريرا
لمراسلها من القاهرة يوم 4 يناير 1925 جاء فيه: "مع أن الوفد ما برح يجاهر
بإخلاصه وولائه للعرش, فإن جميع الدلائل تؤكد على أنه يسير سيرا مطردا إلى
الجمهورية الصريحة"!!
هكذا تكون المؤامرات.. بدايتها "باهتة" لكنها
"لافتة" للنظر, وكل من يقرأ التاريخ يعرف ملامح التفكير البريطانى..
ويقدر على كشف عملاء الاستعمار, ورفع بصماتهم من مسرح الجريمة!!
كل هذا كان تقديم لمنهج حزب "الاتحاد" الذى هو
"مستنقع وطن" فى طبعته الأولى لأنه حتى هذا الوقت لم يكن فى الساحة
السياسية سوى "الوفد" كوكيل عن الأمة وتلتف حوله الجماهير وحزب
"الأحرار الدستوريين" الذى تم تأسيسه بعد إلغاء الانتداب, بزعامة
"عدلى يكن" الذى سرعان ما استقال وترك دفة الحزب لرفيقه "عبد العزيز
فهمى" وكليهما كان من المقربين من "سعد زغلول".. لكن عاصمة
"فرق تسد" الشهيرة باسم "لندن" فجرت علاقتهم.. وحولتهم إلى
خصوم.. كما كان الحزب "الوطنى المصرى" الذى أسسه الزعيم "مصطفى
كامل" صامدا فى الساحة بعد رحيل "محمد فريد" إضافة إلى حركات سرية
كان أبرزها "الشيوعيين" الذين شاع وصفهم – آنذاك – بالبلاشفة.. وهؤلاء
اصطدم بهم بعنف "سعد زغلول" عندما تولى رئاسة الوزارة, وقام بحل حزبهم
وسجن قيادتهم!!
تخويف الملك "فؤاد" من "سعد زغلول" أخذ بعدا
يثير الرعب.. فصحف بريطانيا تزعم أنه يتجه إلى إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية..
الجريمة مرعبة.. ليس لها سوى معنى أن هناك انقلاب على النظام الملكى.. أثر ذلك على
نفر من الساسة, وآثار جدلا فى الشارع.. ففى مصر صحف تنقل بوعى ووفق خطة مدروسة, ما
يتم نشره فى الصحف البريطانية.. هرب السذج من نواب البرلمان, وتقدموا باستقالاتهم
من "الوفد" لينجوا بأنفسهم.. كانت فى مصر صحف قوية, وكتاب رأى شديدو
التأثير بما يملكون من فكر وثقافة ومهنية.. قررت جريدة "البلاغ"
المواجهة, فنشرت فى عددها الصادر يوم 4 يناير تحليلا سياسيا فى قالب المقال جاء
فيه: "إن الشيوخ المستقيلين من الوفد لم يروا من الحزب الوفدى أقل ما يشوب
إخلاصه للعرش.. لكن الذى أثار هذه الزوبعة, هو أن الانجليز ضاقوا ذرعا فأعلنوا
الحرب على سعد ووفد سعد وحزب سعد.. وبما أن الحكم اليوم فى يد خصوم سعد, فهم
والانجليز يحاربونه بكل الوسائل والدسائس" وأضافت الجريدة لتوضح: "لقد
أعدوا الوزارة التى تخلف وزراته, وتفاهموا مع الانجليز فى شأنها" حتى وصل
التحليل – المقال – إلى كشف المستور: "ما ظنك بعرش يحميه الانجليز الذين لا
يستقرون فى مصر.. إلا بغصب حقوق العرش والأمة بالتعاون مع الذين يخونون العرش عند
الانجليز لتمكين الغاصب من رقبة الوطن"! وحذرت الجريدة من أن هذه الحملة يمكن
أن تكون لها عواقب وخيمة, فذكرت: "إذا استمرت هذه الحملة الشائنة, فإن فوز
الوفد فى الانتخابات القادمة قد يفسر على أنه هزيمة للعرش والأسرة المالكة"
ودخلت "الأهرام" على الخط بنشر مقال يوم 5 يناير أكدت فيه على أن
"سعد زغلول" يكن كل تقدير وإخلاص واحترام للملك.. وأن الملك من جانبه
أكد اعتزازه بزعيم الأمة حين أرسل له برقية خلال رحلته للعلاج فى أوروبا جاء فيها:
"إن صحتك هى أثمن شىء فى الدولة"!! وبسرعة جاء الرد بإعلان استقالة
"محمد سعيد باشا" من "الوفد" وقد كان رئيسا للوزراء قبل أن
يتولى "سعد زغلول" الوزارة.. وكان أحد وزراء حكومة "سعد"
نفسه, واعتبرها أصحاب "الطبخة" المسمومة ضربة قوية للوفد وزعيمه, وأسهبت
جريدة "التايمز" فى تهويل أمر هذه الاستقالة واعتبرتها ستؤثر على الوفد
وتجعله يفقد قوته فى الإسكندرية باعتباره أحد رموزها.. وأشارت إلى أن "زيوار
باشا" رئيس الوزارة من أبناء الإسكندرية!!
كانت هذه مقدمات "باهتة" وكذلك "لافتة" لتقديم
ما أسميه منهج حزب "الاتحاد" الذى تمت استعارته من هذا الماضى السحيق,
ليتم تقديمه باسم "مستنقع وطن" وهو بالفعل كان "مستنقع" غاصت
فيه البلاد لتخرج من أزمة إلى أزمة حتى كادت الأمور تنقلب إلى كارثة.. نترك الحاضر
للغوص فى ماض أراد "أطفال شوارع السياسة" إعادة فرضه على مصر بعد مائة
عام من ثورة 1919.. وهنا أسكت عن الكلام المباح, وأواصل عرض التفاصيل..
يتبع
0 تعليقات