آخر الأخبار

الدور الصيني و الأزمة الليبية

 


 

 

 

اتخذت الصين مواقف تتسم بتوخي الحذر تجاه التطورات على الساحة الليبية منذ اندلاع الصراع السياسي في البلاد في منتصف فبراير 2011. وقد كانت هذه المواقف من بدايتها غير قاطعة حينما لم تستخدم الصين حق الفيتو وامتنعت في مارس 2011 عن التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بتوجيه ضربات جوية يقودها حلف شمال الأطلسي (ناتو) في الأراضي الليبية، وشجبت الضربات العسكرية وفرض حظر جوي على ليبيا، ثم الاعتراف المتأخر بشرعية المجلس الانتقالي الوطني المعارض في سبتمبر من العام نفسه أي قبيل شهر من مقتل العقيد معمر القذافي.



علما بأن الانسحاب الحالي للولايات المتحدة من إقليم البحر المتوسط وشمال أفريقيا قد وفر فرصاً للقوي الإقليمية والدولية للعب أدوار أكبر، فإن الصين تحاول من قبل ذلك الاشتباك مع الإقليم في مسارات مختلفة تتراوح بين الاختراق الاقتصادي، ولعب أدوار دبلوماسية ضمن مبادرة «الحزام والطريق» التي انطلقت عام 2013، والورقة البيضاء التي صاغتها الحكومة الصينية بخصوص العلاقات الصينية-العربية في يناير 2016، كما اشتمل الدور علي التعاون العسكري من خلال صفقات السلاح والتدريبات مثل المناورات البحرية المشتركة مع روسيا في البحر المتوسط عام 2015.

 

يحاول هذا التحليل فهم منطلقات التوجه الصيني حيال الأزمة الليبية من حيث محدداته، ودوافعه، وأبرز محطاته، ومآلات تطوره مستقبلاً.



الصين و القذافي

 

اتسمت العلاقات السياسية بين العقيد القذافي والصين بالفتور. فعلي سبيل المثال، في عام 1970 فشل القذافي في إقناع الصين بإمداد ليبيا ببعض الأسلحة النووية.  وفي عام 2006 انعقدت في بكين القمة الصينية-الأفريقية، وكان التمثيل الدبلوماسي الليبي فيها بمستوي نائب وزير مقابل رؤساء ورؤساء وزراء الوفود الأخرى. وقد اتهم القذافي الصين في أحاديثه بأنها “خانت الاشتراكية”، ولم يزر العقيد الليبي الصين منذ عام 1982. وفي المقابل كانت أخر زيارة لرئيس وزراء الصين قبل تسع سنوات من سقوط القذافي.



وعلي الجانب الاقتصادي، كان يتم شحن حوالي 150 ألف برميل من النفط الليبي إلى الصين يوميًا، وامتلكت الصين عقوداً مع ليبيا تُقدر بـنحو 18.8 مليار دولار قبل الحرب وانخرطت في أنشطة البنية التحتية المختلفة، وبحلول عام 2011، كان لدى الصين في ليبيا 75 شركة تعمل في قطاعات البناء السكني والسكك الحديدية ومشروعات الطاقة الكهرومائية[4]، كما مدت شبكات “Huawei” البحرية الصينية ليبيا بخطوط اتصالات مع اليونان في 2010.



وبعد اندلاع الصراع الليبي، استقبلت ثلاث شركات أسلحة مملوكة للدولة الصينية مبعوثي القذافي في يوليو 20111 لإجراء محادثات بشأن الحصول على صواريخ مضادة للدبابات وقاذفات صواريخ، إلا أن الصفقة -حسب المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية- لم تتم؛ خشية أن يؤثر ذلك على علاقة بكين مع نظام ما بعد القذافي، حيث إنها كانت بالفعل قد بدأت التواصل مع المتمردين على حكم القذافي واستضافتهم في يونيو من نفس العام.


السياسة الخارجية الصينية تجاه الأزمة

 

يتفق الموقف الرسمي الصيني مع إطار عمل الأمم المتحدة ومع مخرجات مؤتمر برلين بشكل كبير، حيث صرح مسئولون صينيون أكثر من مرة بأن حل الأزمة ينبغي أن يكون سلميا مع ضرورة وقف إطلاق النار والبدء في جهود إعادة الإعمار مع الحفاظ على وحدة الأراضي الليبية ورفض التدخلات الأجنبية في ليبيا مما يتفق مع “إعلان القاهرة” الذي رحبت به الصين في يونيو 2020. ورسمياً تدعم بكين حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً، واجتمع الدبلوماسيون الصينيون مع مسؤولي هذه الحكومة تسع مرات بين عامي 2016 و2020.


كما تتبني الصين مبدأ “عدم الانحياز” إلى طرفي القتال وسياسة “عدم التدخل”، حيث “تعتبر بكين أن التدخل الغربي في الشؤون الداخلية للشرق الأوسط، بما في ذلك الإطاحة بالحكام المستبدين مثل القذافي، كان سبب الكثير من المشاكل وعدم الاستقرار في المنطقة”.


وبناء على ذلك، فتنبع أهمية الموقف الصيني في اختلافه عن الموقف الروسي من ناحية اهتمامه بالشق الاقتصادي أكثر من التوازنات السياسية، وفي تميزه عن السياسة الغربية المتمثلة في التدخل في الشئون السياسية للدول، مما يجعل النموذج الصيني في الاستقرار والتنمية أمر جذاب للحكومات الأوتوقراطية التي تطمح بدورها إلى الدعم التقني الذي تتفوق فيه الصين.


الصين على الساحة الليبية

لا يذكر أي تدخل عسكري صيني في ليبيا إلا عندما قام جيش التحرير الشعبي البحري الصيني بإخلاء حوالي 40 ألفا من العمال الصينين من ليبيا قبيل الضربات الجوية التي شنها حلف الناتو. وقد ناقش وزير التجارة الصيني إمكانية مطالبة ليبيا بتعويضات نتيجة توقف عمل المصالح الصينية.



ووفقا للمجلس الوطني الانتقالي الليبي، فإن الصين قد باعت بالفعل بعض الأسلحة للقذافي، وعرقلت الإفراج عن الأصول الليبية المجمدة المقدرة بـ 15 مليار دولار.



وقد طلبت الحكومة الصينية من المجلس الوطني الانتقالي الليبي عندما التقي نائب وزير خارجية الصين مع ممثل المجلس في مؤتمر باريس لمساندة ليبيا في سبتمبر 2011 ضمان مصالح شركاتها الاقتصادية وخاصة النفطية منها والوفاء بالعقود والمشاريع الموقعة مع حكومة العقيد معمر القذافي.


ومنذ سبتمبر 2011 حتي اندلاع الحرب الأهلية في منتصف 2014، عقد مسئولون صينيون وليبيون خمسة اجتماعات، كما تشير دراسة قام بها خبراء «مؤسسة كارنيجي» منشورة علي الموقع الأمريكي “
Lawfare“. وفي نهاية فبراير 2018، التقي المبعوث الصيني الخاص بمسئولين حكوميين ليبيين في طرابلس بغرض مناقشة خطط تحسين الاقتصاد واستئناف عمل الشركات الصينية.





دوافع الحذر الصيني

على الرغم من انحياز معظم الفاعليين الدوليين لطرف من أطراف الصراع في ليبيا، إلا أن الصين بقت في منطقة رمادية بينهما. فلم تنخرط الصين في الصراع الليبي بشكل مباشر، بينما تحاول جاهدةً الحفاظ على مصالحها الاقتصادية القائمة من جانب، وتنميتها مستقبلا في مرحلة ما بعد الصراع وجهود الإعمار من جانب آخر. ومن هنا يأتي حذر السياسة الخارجية الصينية تجاه الأزمة الليبية، حيث تتسم دبلوماسية بكين في هذا الملف بالحياد و«الهدوء البراغماتي» وتحرص علي ترك القنوات المفتوحة بسبب تعقد وتغير مجريات الصراع الليبي بشكل مستمر، وعدم رغبة بكين في خسارة أي فصيل سياسي ليبي قد يمثل لها فرصة تعاون بعد انتهاء الأزمة، مستفيدة في ذلك من تقييم موقفها الذي اتخذته بدايةً تجاه قرار مجلس الأمن «رقم 1973».


وقد تسبب التطورات على الأراضي الليبية إلى اضطرار قطاع كبير الشركات الصينية إلى وقف أعمالها هناك. وتخشي الصين من عدم الاستقرار في المنطقة وتوطن شبكات الجريمة الإرهاب فيها، حيث يمثل ذلك تهديد كبير لمبادرة «الحزام والطريق» التي يتبناها رئيس الوزراء الصيني. وبذلك الموقف الذي يعطيها قدرة علي المساومة ومرونة في الحركة، تؤمن الصين مصلحتين جيو-استراتيجيتين لها: دعم مبادرة «الحزام والطريق» في حالة انتصار حكومة الوفاق والتي تسيطر على البنك المركزي، أو تعزيز التعاون بين شركة «
PetroChina» والمؤسسة الوطنية للنفط في حالة فوز الجيش الوطني الليبي، أو حتى الجمع بين كلا الهدفين.


مزيد من الانخراط الصيني في ليبيا؟

عقب التطورات الليبية الأخيرة في النصف الأول من العام 2020، شاركت الصين في مؤتمر برلين بخصوص ليبيا. وقد دعت الجزائر -التي تقيم شراكة استراتيجية شاملة مع الصين- بكين للعب “دور بناء” لتسوية الأزمة السياسية، وهناك اتصالات من جانب مصر أيضًا بغرض عرض جهود القاهرة لتسوية الأزمة على الصين.



وعلي المدي المتوسط، قد تجد الصين نفسها رهينة تغيرات جيوسياسية تفرض عليها التدخل في المسار السياسي الليبي للحفاظ على مصالحها الاقتصادية سواء بالتدخل المباشر أو التأثير الدبلوماسي من خلال دول الجوار الليبي.



وعلي الجانب الاقتصادي، ارتفعت قيمة مشتريات الصين من النفط الليبي بحوالي الضعفين بين عامي 2017 و2019، واشركت الصين ليبيا في 2018 مبدئيا في مبادرة «الحزام والطريق» بتوقيع مذكرة تفاهم مع وزير خارجية حكومة الوفاق، ويتوقع أن يشارك البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية (AIIB) ومقره بكين في جهود إعادة الإعمار. وعلي المدي البعيد، قد تجد بكين نفسها في ضرورة للتنسيق مع السياسات الروسية ضد الولايات المتحدة أو في تنافس على عروض النفط والطاقة مع الشركات الدولية العاملة والمتواجدة في البحر المتوسط وليبا، ومن الممكن أيضاً أن تدخل صراع الغاز في شرق المتوسط أو تتصادم مع مصالح أوروبا التي لا تبعد كثيراً عن السواحل الليبية.

 

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات