آخر الأخبار

قصة حياة نضارة

 


 

 

 

د. جودة كف

 

في عام 69/ 70 من القرن الماضي ( يااااه ... دا إحنا كبرنا بجد ) انتقلت من المدرسة الابتدائي اللي ع الجسر إلى المدرسة الإعدادية اللي ع الرشاح، لم يكن الانتقال في المكان فقط ، ولكنه كان أيضا انتقال في الهيئة والزى .... من الجلابية إلى القميص والبنطلون ، ومن الشبشب الى الحذاء.

 

وفي المدرسة الإعدادية تفجرت موهبتي في الرياضيات ، لدرجة إنني لم انقص أي درجة فيها حتى انتهيت من الثانوية العامة ...

 

كان العالم يبدو في عيني غائما على الدوام كما لو كان قد توقف في مرحلة التخلق عند طور الدخان، ملامح الوجوه لاتتبدي تفاصيلها بوضوح كاف إلا إذا اقتربت جدا منها ، أعاني من رؤية ماهو مكتوب على السبورة فيضطر المدرس الى وضعي في التختة الأولى، لا اعرف بالضبط طبيعة المشكلة فلم أشكو ، فانا لست مريضا بالمعنى المتعارف عليه للمرض في قريتنا، وشكوى من هذا القبيل قد تفسر بالدلع الموجب للزجر والعقاب .

 

كانت مدرسة الرياضيات فتاة شابة جميلة حديثة التخرج ... قاهرية ... يحمل انفها قليل من النمش... تسافر من القاهرة الى شلشلمون يوميا ذهابا وإيابا، وتحمل معها عادة ساندويتشات من عيش الفينو المحشو بالحلاوة الطحينية والمربى، اكتشفت ابلة نادية إنني استطيع حل أي مسالة مهما بلغت صعوبتها، فأحضرت كشكولا خاصا بها وطلبت مني حل جميع المسائل في الكتاب لتحتفظ به لنفسها فلا تقف أمامها مسالة، وكانت في المقابل تمنحني ما تيسر من ساندويتشات الفينو بالحلاوة التي لايزال طعمها في فمي إلى الآن.

 

أخذتني ابلة نادية الى حضرة الناظر وشرحت له المشكلة ، فأرسلني بخطاب مختوم بختم النسر إلى الصحة المدرسية في المركز ( منيا القمح ) ، وهناك تولى طبيب العيون فحصي ... كانت الأمور في الدولة لا تزال تدار بدرجة معقولة من التماسك والانضباط والجدية ... وضع الطبيب شاسيها حديديا على هيئة نضارة على وجهي، ثم اخذ يضع فيه عدسات زجاجية صغيرة ... وبمجرد ان وضع العدسة الأولى حتى تبدي لي العالم بوضوح شديد وبالألوان الطبيعية... كنت كأنني أراه للمرة الأولى . وجدت نفسي بلا إرادة اصفق وأصيح قائلا في نزق طفولي : الله ... خرجت كأنها زفرة طويلة ممطوطة صادقة، وقمت من على الكرسي وأنا في غاية الانفعال أريد أن انصرف متعجلا أن أرى العالم من جديد ... أجلسني الطبيب وأكمل عمله، ثم سحب عدساته ونضارته الحديدية لأعود من جديد الى عالم الغيم والدخان.

 

بعد سنة كاملة ... 365 يوم وليلة ، كنت قد انتقلت من صف لآخر ونسيت الموضوع برمته حتى وصل خطاب للمدرسة يطلب مني أن أتوجه للصحة المدرسية لاستلام النضارة ... كانت لحظة مثيرة بالفعل ، أحسست أنني قد انتقلت من طبقة إلى طبقة ارقي ، وأنني قد صعدت درجة في السلم الاجتماعي ، فقد كنت أظن أن النضارات لم تخلق للفقراء أمثالنا ولكنها حكرا على الوجهاء والكبار ، لذلك ظلت خارج نطاق أحلامي.

 

وهم:

 

كذا لبست نضارة كاملة بشنبرها وعدساتها دون أن ادفع فيها مليم وفي الطريق من الموقف الى بيتنا عبر شارع أبو سرحان كانت شلة أصدقائي المقربين متجمعين في جرن أبو روزة ... مررت عليهم ، أريد أن استعرض أمامهم شكلي الجديد ونضارتي الجديدة ، فقد أصبحت مميزا عنهم بشئ ما ... تحلقوا حولي ودخلوا في صراع حقيقي ، فكل منهم ( عاوز يلبس النضارة شوية ) وهو ماحدث بالفعل..

 

ومن يومها لازمتني النضارة ... ماتركتني يوما وماتركتها

ليه كتبت الكلام دا دلوقتي ؟ مش عارف ...

 

الله يرحمك ياعبد الناصر

 

إرسال تعليق

0 تعليقات