صلاح زكي أحمد
الصورة الأولى :
*************
( ... في السنوات الأولى لقيام الثورة المصرية ، ثورة يوليو ١٩٥٢ ،
كان الرئيس "عبد الناصر" ، قادماً من مقر مجلس قيادة الثورة ، الموجود
في رأس جزيرة الزمالك والمُطل على النيل من ناحية كوبري قصر النيل ، كان الرئيس
عائداً الى منزله في منشية البكري ، وهو نفس البيت البسيط والمتواضع الذي عاش فيه
، وانتقل الى رحاب ربه منه ...
كان بصحبته الأستاذ " فتحي رضوان " وزير الثقافة
والإرشاد ، أي الإعلام ، وعند رحلة العودة كان الرئيس مهموماً وحزيناً ، وعندما
سأله الأستاذ " رضوان " عن أسباب هذا الحزن ، انطلق الرئيس يتحدث بقدر
عالٍ من المرارة ، كان الحديث من رد الفعل الغاضب والرافض من بعض رجال الإعلام
وكبار الأطباء والمهنيين من كل مهنة ، أعضاء نادي الجزيرة الشهير ، من قرار الرئيس
بإقتطاع جزء من النادي البورجوازي العتيق ، وتحويله الى ما يُعرف الآن ب "
مركز شباب الجزيرة " لكي يخدم أبناء وشباب أحياء بولاق أبو العلا وامبابه
وميت عقبة وعابدين وغيرها من أحياء الفقراء ...
قال الرئيس والألم يعتصر وجهه:
" ... هو الفقير مالوش نصيب في هذا البلد ، الناس دي ، ويقصد
أغنياء نادي الجزيرة ، مُستنكرين أن ناخد جزء من هذا النادي علشان يتعلم الشباب
الفقير ويلعب رياضة ويطلع منهم أبطال في كل لعبة " !!!
يسكت الرئيس ويقول :
" الناس دي ما بتحبش الفقير وبس ، الناس دي مش عارفة قيمة
الوطن " ...
********
الطريف في الأمر ، أن مجلس إدارة هذا النادي البرجوازي ، قد رفض
بالإجماع طلب الفنان " عبد الحليم حافظ " بعضوية نادي الجزيرة ، بدعوى
أنه يفتقد اللياقة الاجتماعية التي تؤهله لتلك العضوية !!
**************
الصورة الثانية :
****************
في الأسابيع الأولى لقيام الثورة ، دعا " عبد المنعم أمين
" عضو مجلس قيادة الثورة زملائه لحفل عشاء في منزله بحي جاردين سيتي ، حي
البرجوازية العريق وموضع قصور عدد كبير من باشوات العصر الليبرالي السعيد !!!!..
دخل " جمال عبد الناصر " البيت الأقرب الى القصر ، ذُهل
من نوعية الأثاث الفاخر واللوحات المُثبّتة على الجدران لكبار الفنانين العالميين
، وأنواع الثُريات ، أي النجف المُعلقة ، في كل مكان ، ثم جاء دور الطعام ونوعيته
الذي لم يرىّ عبدالناصر ولم يعرف الكثير منه من قبل !!!
انتهى الحفل ، وعاد عبد الناصر الى شقته البالغة التواضع ،
والكائنة في احدى الشوارع الجانبية من منطقة " كوبري القبة " والقريبة
من " مسجد جمال عبد الناصر " الآن والمبنى الحالي لوزارة الدفاع ....
كان بصحبته زميله في مجلس قيادة الثورة ، " عبد الحكيم عامر
" ... قال عبد الناصر بعد دقائق من الصمت كانت كفيلة بزميل وصديق عمره ليسأله
:
" ليه ساكت ياجمال ؟؟؟
" رد عليه بكلمات مُقتضبة " سوف أفتٍقد عبد المنعم أمين
!!!" بدت الإجابة مُفاجئة لعامر ، مما دفعه الى إطلاق ضحكة عالية ، تتفق مع
طبيعته الإنسانية الطيبة والنقية :
" ليه ياجمال .. هو بعد الشر ها يحصله حاجة " !؟
" ابتسم ناصر وقال له :
" واحد بالثراء ده مش ها يٍكمل معانا ، إحنا قُمنا بالثورة
علشان الفقراء والغلابة والأرامل والمساكين وعمال التراحيل والموظفين اللي
بيشتغلوا في الحكومة ، ويادوب عايشين .... أنت عايز عبدالمنعم أمين يكمل معانا
ويسيب الثراء والعز ده اللي عايش فيه ؟؟؟
رد عبد الحكيم عامر على صديقه قائلاً له :
" أنت كنت عارف ياجمال أنه ساكن في جاردين سيتي ، وانه مبسوط
... أزاي سمحت بعضويته في حركة الضباط الأحرار إذا كان بالشكل ده ؟؟؟
رد جمال عبد الناصر قائلاً :
" أولاً لم يكن في مقدوري أن أعرف الحالة الاجتماعية لكل
أعضاء الحركة ، كانوا أكثر من تسعين ضابطاً ، ثم أنني وهذا هو المهم ، لم أكن
أتصور أنه يعيش في هذا المستوى من الثراء " ؟؟..
ولم يترك " عامر" الأمر عند هذا الحد ، ويبدو من سابق
معرفة أنه يعرف الكثير من حياة " عبدالمنعم أمين " قائلاً بطريقته
المعهودة والمُحببة :
" طيب أسمع ياسيدي المعلومة دي ، كل هذا الثراء ليس ملكه ،
ولكن ملك السيدة زوجته .." وانتظر " عامر " رد فعل صديقه على تلك
المعلومة المُفاجئة ، والتي اتسمت بابتسامة خفيفة وذات معنى من " ناصر "
قائلاً له :
" حكيم انت فاكر مصالح عبدالمنعم منفصلة عن مصالح زوجته !!
المصالح الطبقية لا تنفصل ، حتى لو لم يملك آلاف الأفدنة وعشرات المصانع سوف
يتعاطف مع طبقته ، وسوف يّنسى الثورة وحقوق الفقراء والغلابة .."
******
بعد أيام دعا " عبد الناصر " مجلس قيادة الثورة للاجتماع
، كان ذلك في أول سبتمبر من عام ١٩٥٢ ، أي بعد قيام الثورة بنحو ٤٥ يوماً من
قيامها ، كان الهدف من الاجتماع مناقشة مشروع القانون الأول للإصلاح الزراعي ،
والذي حدد الملكية الزراعية ب ٢٠٠ فدان لأسرة كل إقطاعي ، ومنح كل فلاح فقير وأجير
ومُعدم خمسة فدادين من الأرض الزراعية والمُقدرة بآلاف الأفدنة التي كان يملكها
ماأسماهم " ناصر " بعد ذلك بطبقة النصف في المائة !!!
طُرح الأمر للنقاش بين أعضاء المجلس ، وبعد أيام من الأخذ والرد
والحوار ، جاء وقت التصويت على القرار ، ونظر عبد الناصر الى زملائه ، فكان "
عبد المنعم أمين " أول المُعترضين ، بل كان أول المُغادرين لترك المجلس
والثورة والبلد !!!
نظر " عبد الناصر الى زميله " عبد الحكيم عامر "
وابتسم ...!!!!
******
ولم تقف الحكاية المُثيرة عند هذا الحد ، فبعد رحيل
"عبدالناصر" الى جوار ربه ، بدأ الرئيس الجديد يبحث عن قناة خلفية لفتح
صفحة جديدة مع الأمريكان ، فلم يجد شخصاً مؤتمناً لا يكشف مُخطَّطه بالتحالف مع
واشنطن سوىّ " عبد المنعم أمين " !!
********
الصورة الثالثة :
****************
في صيف عام ١٩٦٥ ، فكّرّ " عبد الناصر" في ترك موقعه
كرئيس جمهورية ، والعمل في بناء التنظيم السياسي القائم في ذلك الوقت ، لكن الشعب
الواعي ، أدرك ما يُفكر فيه الرئيس ، ولأنه يعرف أن القرار في بلد مركزي ك "
مصر " هو في يد الحاكم ، وخصوصاً إذا كان قوياً وعادلاً ، خرجت آلاف
التظاهرات رافضة ذلك التفكير الذي كانت تتردد أصداءه في الشارع المصري والعربي ...
فما كان من الرئيس إلاّ الرضوخ لقرار الشعب ، وبدأ حملته لشرح
برنامجه السياسي ، وجاب وزار وخطب في غالبية مدن مصر ...
كانت محافظة " أسيوط " بصعيد مصر ، وهي المحافظة التي
يوجد بها قرية " بني مر " القرية الفقيرة التي خرج منها الرئيس ، هي
المحافظة التي سّيُلقي فيها خطابه الى الجماهير ، لكن حدث أمر مُفاجئ ، فبينما
يتحرك قطار الرئيس متوجهاً الى عاصمة المحافظة العريقة ، إذا بفلاح يقذف الرئيس
الذي كان يّطُل من شرفة القطار ويُحييْ عشرات الألآف من أبناء الشعب ، بشئ ما
" ملفوف في منديل محلاوي " وهو منديل مصنوع في مصانع النسيج بالمحلة
الكبرى ، والتي كانت مشهورة بإنتاج هذا النوع من تلك المناديل الكبيرة الحجم ،
والمُخططة بألوان مختلفة تتراوح بين اللونين الأصفر والأزرق ، كانت هذه المناديل
هي السلاح الواقي لرؤوس الفقراء من برد الشتاء وحر وشمس الصيف ، فضلاً عن مهمة حياتية
أكبر وأهم ، كان المنديل المحلاوي ، وبطريقة معينة في " لفه " هو شنطة
الفقراء والفلاحين لوضع غذائهم البسيط في داخله " ...
*****
كان الحدث مُفاجئاً ومُربكاً لرجال الأمن الذين يحيطون بالرئيس
الواقف في شُرفة القطار المُتحرك ، والذي زادت سرعته متوجهاً الى مقصده ، كانت
صرخة عبدالناصر ، بترك هذا الفلاح الفقير ولا يقترب منه أحد بأي أذىّ .....
*****
بعد أن تحرك القطار بعيداً وعاد الرئيس الى مقعده في صالون القطار
الرئاسي طلب من أحد معاونيه من جهاز الرئاسة ، أن يأتي اليه بهذا المنديل ، وبكل
ما يحتويه ...
فتح الرئيس المنديل ، بعد أن فرده على طاولة موضوعة أمامه ، فوجد
المفاجأة المدوية " ... قطعة خبز من الذي يسمى في الصعيد بالعيش "
البتاوي " والذي يصنع من الذرة ، وقطعة أخري من الجبن الناشف ، وبضع سمكات
مُجَفَّفة من السمك المُملّح والذي يٌسمى في الصعيد بالملوحة ".... "
!!!!
******
بعد ساعات جاء وقت خطاب الرئيس ، وبعد المُقدمة المُعتادة والتي
تبدأ بكلمته الشهيرة " أيها الأخوة المواطنون .... " دخل الرئيس في
الموضوع مباشرة قائلاً :
" الأخ اللي رّمىّ عّليّ المنديل المحلاوي وأنا جاي لأسيوط ،
بقوله الرسالة بتاعتك وصلت ... " ولكي يُفسٍر الرئيس كلماته تلك ، التي بدت
غامضة للملاين من مستمعيه ، وأنا واحد منهم ، حيث كنت استمع لخطاب الرئيس من
الراديو ، وبين أفراد أسرتي في مدينتي ، قال الرئيس :
" الرسالة يإخواني كانت فيها قطعة عيش ناشف ومعها حتة جبنة
قديمة ، وكام ساردينايه ... الرسالة اللي عايز يقولها الأخ المواطن البسيط اللي
حدفها عليّ ، واضحة وبسيطة ومؤلمة في نفس الوقت ، الأخ عايز يقولي ، فين الثورة من
الفقراء ؟؟؟ وأنا بقوله ثورتكم قامت من أجل الفقراء والشرفاء في هذا البلد .."
**********
بعد سنوات كنت مُكلفاً بعمل سلسلة من البرامج الوثائقية عن تاريخ
مصر والعرب ، تاريخ ثورة يوليو ، ضمن سلسلة أفلام وثائقية أخذت لها عنواناً
رئيسياً هو " سنوات التحدي والكبرياء " وسألت واحداً من أقرب معاوني
الرئيس عبدالناصر وموضع ثقته ، كان هو السيد " سامي شرف " أطال الله في عمره
ومتعه بالصحة " ماذا جرى للرجل الذي ألقىّ بالمنديل المحلاوي على قطار الرئيس
؟؟؟
قال لي بالحرف :
" لقد كان السيد " سعد زايد " وقتها مُحافظاً
لأسيوط ، وكان محافظاً سياسياً بامتياز ، كان يعرف كل شئ في محافظته ، عرف الرجل
صاحب المنديل ، استدعاه الى مكتبه ، وعرف الكثير منه مباشرة ، وجده فلاحاً مصرياً
فصيحاً ، يّعتد بنفسه يتكلم بكل ثقة ، صاحب منطق قوي وتفسير مُقنع لٍمّ فعله ،
عّرفّ نفسه بأنه " عامل تراحيل " أي من الذين ينظفون مجاري المياه في
التُرع والمصارف المائية على طول نهر النيل خلال فصل الشتاء حيث تّجٍف أفرع النهر
من المياة ، وتُسمىّ أيام التحاريق ، حياة هذا الفلاح العامل غير المُنتظمة ،
فقيرة بائسة ...
*******
رفع السيد " سعد زايد " الأمر في تقرير مفصل الى الرئيس
، قرأه " عبد الناصر "بامعان وتدقيق ، كان " ناصر " قد سبق
مواطنه الفقير ، صاحب المنديل الشهير ، فقد أعلن ، وفي خطابه الشهير في مدينة
أسيوط ، ولأول مرة " التأمين الإجتماعي والصحي على عمال التراحيل" ،
وتحديد الحد الأدنى لراتب العامل في اليوم الواحد ب " ٢٥ " قرشا ، وفق
قوانين يوليو ٦١ وكان في ذلك الوقت مبلغاً معقولاً ، وتلتزم الدولة بدفعها للعامل
من مديريات الشؤون الإجتماعية في كل المحافظات أو الشركات التي يعمل بها هؤلاء
العمال ... ..
***********
يحكي لي هذا المسئول الكبير ، أن الرئيس وطوال رحلة العودة الى
القاهرة ، وهو ينظر للفلاح في حقله يعمل بيديه وقدميه ، تحدث إلينا موجهاً حديثه
لكل الوزراء والمسئولين المرافقين له : " ... بعد ١٣ سنة من الثورة لم تحقق
الثورة هدفها بالقضاء على الفقر وحماية الفقراء ، لن يهدئ لي بال ، حتى نُحدٍث
الزراعة في مصر ونحافظ على حقوق الفلاحين والعمال ..." يسكت الرئيس ويقول :
" كل أملي في هذه الحياة ، قبل أن أموت ، أن تكون كل أسرة
مصرية ، كل أفرادها من الرجال والنساء يعملون لبناء حياة سعيدة وكريمة ، نفسي
يتعلم الأولاد ويتجوز البنات ... " ...)
**************
ملاحظة :
صورة الأستاذ " فتحي رضوان " وصورة " عبدالمنعم أمين
" وصورة " ناصر وعامر " في السنوات الأولى من الثورة
ملاحظة ثانية :
سبق نشر هذا الموضوع عن الرئيس " عبدالناصر " في موقع
" أصوات أونلاين " في يوم ٢٨ سبتمبر ، مع اخراج صحفي ووثائقي أكثر من
رائع .
0 تعليقات