محمود جابر
لكن النموذج المصرى لنمو عشب المجتمع الرأسمالى جاء مختلفا من اوجه
عديدة ولكى نتعرف على اوجه الاختلاف هذه سنحاول ان نتعقب عملية نمو العشب المصرى
وكيفية تكون الفئات العليا فى المجتمع ليس عبر النمو الطبيعى ( ماء+ أرض+ مناخ)
وإنما بسبب قرار علوى من الحاكم الذى صنع هذا النمو ... محمد على باشا ...
محمد على الذى قرر ( أقول قرر) دفع التطور المجتمعى دفعا عبر
محاكاة أوربا ( راجع تجربة استقدامه للعديد من السان سيمونيين؛ ليسهموا فى وضع
مخططات بناء الدولة الحديثة ، تتحدى المكون الجغرافى الطبيعى وتعمل على تطويعه وفق
فسلفة تقوم بخدمة البشرية، كمثال القناطر الخيرية للتحكم فى مياه النيل والرياحات
والاهوسة وتتمادى التطورات شبكة رى – قناطر – مصانع- مدارس حديثة – جيش حديث [
نظامى] ألخ .. وبسرعة وجد محمد على نفسه بحاجة الى موظفين يشغلون السلم الوظيفى
لادارته .. فالشراكسة الذين ضربت جذورهم بمذبحة المماليك فى القلعة ليسوا كفيين
ولا قادرين ولا موثوق فيهم... وهم فوق هذا وذاك لا يملكون مكونات المعرفة او
التعليم لادارة دولة حديثة. والاتراك لا يرغبون فى التعليم مستندين الى ثرواتهم،
وكان لابد من الاعتماد على ابناء الفلاحين بحيث يجرى اجبارهم على التعلم وبعدها
يتحولون الى موظفين يصعدون سريعا جدا فى سلم الادارة الخالى والمنتظر بشغف لمن
يديرونه، وما ان يترقى هذا الموظف حتى يغرق فى فيض انعامات الوالى هو واهله
وابنائه فنجد امامنا نموذجا مثيرا للاهتمام يمضى عبر المتوالية التالية :
ابن فلاح فقير- يتعلم – يتفوق- يتوظف – يصعد سريعا ليصبح موظفا
كبيرا – يغدق عليه الوالى فيصبح مالكا كبيرا .
وهنا يتعين ان احذر من عتبار ان هذه الملكيات الكبيرة التى وزعت
على المصريين من اصول فلاحية كونت اقطاعيات بالمعنى العلمى او بالدقة الاوربية
المتعارف عليها . فالوالى يظل مالكا ولو من الناحية الشكلية . والارض التى منحها
للمالك الجديد تسمى " عهدة" وهى مجرد عهدة تسترد وفق مدى رضاء ولى
النعم، والمالك لا يقيم نمط من الانتاج الاقطاعى فالمشتغل فى ارضه ليس "
قنا" لكنه فلاح يشتغل فى الارض يزرعها للمالك نظير مساحة يزرعها بنفسه لنفسه.
كما ان حجم ما يسدد من ضرائب لا يحدده مالك العهدة وانما الوالى نفسه .
وهكذا توزعت الاراضى عبر قنوات متعاقبة بين "الالتزام"
و"الاوسية" ومسموح المشايخ " والعهدة" . لكن الثمار تكون
واحدة .
فمحمد على الذى لم يكن بمقدوره زراعة كل الارض بنفسه اضطر الى
توزيعها وكان التوزيع كاالتالى :
ابعديات وشفالك لاسرته وكبار الحاشية 200الف فدان .
أوسية ( وسية) للملتزمين 100 الاف فدان سارع اصحابها الى وقفها حتى
لا تحرم اولادهم من ريعها. أو يعود الوالى الى انتزاعها .
مسموح المشايخ والعمد ومساحتها 154الاف فدان
الرزقة التى جرى توزيعها على كبار الموظفين الجدد من مصريين واجانب
ومساحتها 600 فدان .
ويقدم لنا زكى مبارك نماذج عديدة لهؤلاء الملاح الجُدد فـ رفاعة
لطهطاوى الذى باعت امه مصاغها، كى تدبر له جنيهين وهو متجه للدراسة فى الازهر انعم
عليه الباشا بمائتين وخمسين فدانا من اراضى طهطا، وياتى سعيد ليمنحه 200 فدان
واسماعيل يمنحه 200 فدان اخرى، ويشترى هو 900 فدان ، وفى عام 1880 كان ورثته
يملكون 2500 فدان .
اما ابراهيم بك نبراوى الذى ترقى فى الرتب الديونية الى ان بلغ
رتبة المتمايز، فقد كان ابن فلاح فقير أرسله والده ليبيع بطيخا فلم تربح تجارته
وفقد رأسماله وخاف العودة الى أهله فالتحق بالأزهر، وطلب الوالى اختبار طلاب
الازهر ، ليدرسوا الطب فرغب ودخل مدرسة أبى زعبل فأقام بها مدة وترقى الى رتبة
ملازم ثم سافر فى بعثة الى فرنس حيث درس ( الحكمة) الطب .
وبعد عودته ترقى الى رتبة يوزباشى بوظيفة خوجة ( معلم) بمدرسة الطب
فى القصر العينى ولنجاحته وحسن درايته فى فنه اختاره العزيز محمد على باشا "
حكيمباشى " لنفسه وقربه وتخصص به وبلغ رتبة اميرالاى ، وكثرت عليه اغداقات
الباشا وانتشر ذكره وطلبته الفاميليات والامراء، ولما مات خلف ألف وسبعمائة فدان .
لكن الأمر لم يقتصر على إغداقت الباشا على المثقفين ولا على مسموح
العمد والمشايخ بل أن الاراضى التى استحوذ عليها البشا من المماليك وحاول توزيعها
بنفسه . هذه الارض ذاتها اخذت تحت ضغط فشل محاولات محمد على وتحت ضغط متطلبات
الحرب – [المجهود الحربى ] – وتحت الضغط الاجتماعى الذى بدا كبار الموظفين
يمارسونه عن طريق تقربهم من الوالى أو حاجة الوالى اليهم ... هذه الارض بدات تنتقل
– لاول مرة ايضا- الى ايد المصريين الامر الذى يؤكد انهم اصبحوا – الى حد ما – قوة
اجتماعية ذات اثر .
ويضطر محمد على فى نهاية المطاف ان يعيد الالتزام فى ثوب جديد هو (
العهدة) حيث منح الارض عهدة لشخص يتعهد بجمع الضرائب منها. وهكذا نشأ طبقة جديدة
من كبار الموظفين الرسميين والضباط والتجار الذين اثروا خلال سنوات النهضة التى
شهدتها مصر ايام حكم محمد على هذه الطبقة اصبحت تملك ثروات مهمة تمكنها من مد يد
العون الى محمد على الذى كان يعانى الضغط الخارجى والعجز المحلى وانهيار الصناعة
والحاجة الى المال . وفى 22 مارس 1840 اعلن محمد على نظام لعهدة ووزعت مساحات
تتراوح بين 300 – 800 فدان على متعهدين كانوا فى حقيقتهم – ممثلين للفئات الغنية
من المجتمع مثل مبار الضباط تجار موظفين مستثمرين اجانب من هذا الباب نفذ كثير من
المصريين .
هنا يبدا التاريخ الحقيقى للطبقة الجديدة من ملاك الارض المصريين
الذين قدر لهم ان يلعبوا فيما بعد دورا كبيرا فى الثورة العرابية وفيما تلاها من
عقود من الزمن .
وللحديث بقية
0 تعليقات