محمود جابر
رفعت السعيد : مجرد تمهيد:
وليس لان هيردوت قال [(( مصر هبة الحضارة))]، وإنما لأن الدراسة
العلمية الممتدة منذ بداية نشأة مصر الحديثة – عصر محمد على، وامتدادا حتى مصر
المعاصرة ومن عاشته مصر نحن درسناه وتابعناه ولم نزل ندرس ونتأمل لان مصر كانت
وستظل تمتلك مقومات نهوض مختلف – مسارا مختلفا وقدرة على التلاؤم مع تركيبتها
المتمايزة تدفعنا كشعب، وتقتاد مصر كوطن عبر مسار يحتاج إلى دراسة علمية متأنية فى
مجالات ومتغيرات التركيب الطبقى المصنوع الذى يذكرنى وأنا اكتب فى أيام صيف قائظ
تفرض على رغم أنفى أن أمارس الكتابة فى ظلال جهاز تكييف بما يدفعنى إلى تأمل قد
يكون فلسفيا أو متفلسفا هو أننى أغير تأثير الهواء دون أن أغير محتواه أو تركيبه.
فمصر لم تكن عجائبا مجرد أهرامات ومعابد وآثار تهادت . عبر عصور وأزمنة تركت فى
نفوس ووجدان المصريين لمحات أو لمسات فارسية – بيزنطية – رومانية – مسيحية و عربية
وعثمانية وإسلامية وحتى يهودية ومع ذلك كله ما اتى به القادمون الجدد الى الارض
الفرعونية العتيدة من افكار وفلسفات وديانات وطقوس وابداعات أثرية ... كل هؤلاء
اتوا بكل هذا لتستوعبه مصر وتتمثله ( اى تهضمه وتتأثر به وتؤثر فيه وتختلق منه
عجينة جديدة). ولم يكن الأمر مجرد تداخلات وتمثل ونما كان التغيير الجذرى فى آليات
الملكية الزراعية التى فرضها محمد على وشبكات الرى والصرف التى انشاها كرومر
والطرق التجارية المملوكية التى جلبت ثروات وخبرات وتجار.. كل ذلك واجهه المصريون
فكانوا شيئا مختلفا وتقدموا أكثر من محيطهم واصبحوا منارة مترامية الابعاد ..
لتنشأ مصر مختلفة فى مسارها المجتمعي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمعماري
شيئا مختلفا.. لتستحق فعلا أن تردد على مسامع العالم ان لدينا من الأشياء العجيبة
مالا يوجد فى بلد آخر ..
هناك فى أوربا قام النموذج الاوروبى للرأسمالية ( وهو بالمناسبة
النموذج السائد والذى يهيمن على مختلف الدراسات الاكاديمية وغير الاكاديمية ) على أنقاض
الإقطاعيات أو الإمارات التى كانت تجمعات مستقلة حيث المالك الاكبر هو الحاكم الأكبر
وهو القائد العسكرى لجيشه المستقل والمتحكم فى أمور الإقطاعية .
وحيث التجار يتعثرون بتجارتهم المتواضعة المحدودة بحدود القدرة على
التنقل والتعامل الماكر والمتملق خارج إطار الإقطاعية الا فى الحدود التى تمليها
الاحتياجات الضرورية للمقاطعة والتى لا تتوفر فيها مثل هذه السلع . كما ان التجار
كانوا فى اغلب الأحيان يسدون احتياجات الفئات الغنية فى هذه المقاطعات ، والاقنان
يسدون احتياجاتهم مما تنتجه ايديهم من غذاء وملبس وسكن وكانت حركة الاقنان مقيدة
وفى احيان كثيرة كانت قرارات الأمير تحرمهم من حق التنقل .
ومع هؤلاء الاقنان أو منهم قام الحرفيون واغلبهم ينتج ما يحتاجه
اقرانه من الاقنان المعدمين، لكن تمادى التدريب جعل المتميزين منهم وبفضل مهارتهم
الشخصية يسدون احتياجات الارستقراطية الحاكمة والى هءلاء يرجع الفضل فى ما تركه
لنا المجتمع الاقطاعى من ابداعات وتحف وفنون وقصور ومتاحف .
ويحاول ( داهل) ان يفسر كيفية تطور هذه المجتمعات فيقول : ان
ضرورات تسير الشئون العامة للمجتمع قد فرضت نموا طبيعيا لمكنات تطور هذه المجتمعات
فقد نمت تلقائيا كما ينمو العشب البرى .
أرض ومناخ وماء ومناخ طبيعى هذا هو كل ما يحتاجه العشب كذلك كان
الامر فى اغلب المجتمعات الاوربية ، فالتطور الطبيعى العفوى والمنطقى هو أن يتساوى
بعض الارستقراطيين مع بعضهم البعض بما يحقق وبشكل طبيعى أساليب المشاركة فى ادارة
شئون هذه المدينة او تلك ، انه ذلك المبدأ المنطقى الذى تم عبر عملية انضاج مجتمعية
، والذى يمكن تلخيصه فى عبارات تقول بالمساواة بين الأفراد الأحرار .
ولم يكن هذه الامر قاصرا على أثينا أو روما ولا غيرهما مما سلط
التاريخ الضوء عليهم من مدن وجماعات. فما هو طبيعى ومنطقى يبقى طبيعيا ومنطقيا فى أماكن
عديدة اخرى. فحتى عند الفايكنج الدانمركيين ( القرن التاسع الميلادى) تواجدت فى
هذا الشعب المحتلف من غير الشعوب الاوربية سواء فى تركيبته المجتمعية او الطبقية
التى تواجدت ربما بشكل اخر وباساليب كانت مختلفة ذات الدوافع نحو التوجه . وحينم
كانت جماعات الفايكنج ترتحل عبر الانهار فى فرنسا سألهم رسول احد الحكام المحليين
من هو سيدكم ؟ فاجابوا نحن جميعا سادة متساويين .
لكن هذا الشعب لطبيعى يبقى طبيعيا فالقسمة فى السلطة تكون بين
السادة لمتسلطين وحدهم، ويظل التطور طبيعيا لينمو العشب الرسمالى منتجا مجتمعيا
طبقيا يقوم على اساس التمايز الطبقى والسيطرة على وسائل الانتاج بواسطة طبقة معينة
بينما تجرد الطبقات والفئات الاخرى الاجتماعية من ممكنات هذا التملك .
وهكذا جرى التحول نحو الرأسمالية حثيثا وتواكب معه نمو الحاجة الى
التبادل التجارى الحر ، والتطور العلمى الذى انعكس فى شكل منتجات صنعية وفيرة
وتحتج الى اسواق اكثر تقدما وهو ما يفرض ذوبان الحدود الاقليمية بين الاقطاعيات
والمدن لتتشابك العلاقات الاجتماعية بين المكونات الوسطى للمجتمع .
ورويدا رويدا بدأ الحنين للمجتمع الرأسمالي فى التكون . تاجر (
اكثر حرية فى التنقل) + آلة اكتر تقدما وأكثر قابلية للتطور وأكثر قدرة على سد
الاحتياجات المتزايدة والحديثة للاثرياء + حرفى أكثر مهارة واكثر قدرة على التعامل
مع الالات الحديثة .
ويمكن تلخيص هذه المعادلة كالاتى :
رأسمالية + آلة + يد عاملة لينشأ من ذلك ما سمى بالمانيفاكتورة أى
المصنع الصغير ، ومع تطورها تقع متغيرات عدة .
ينشأ الوطن وتنشأ الأمة وتذوب الحدود بين الإقطاعيات ويتوحد الجيش
وتقوم الدولة .
ثم ... التاجر البرجوازى يتحول بثروته وتراكماتها واتساع تعاملاتها
الى راسمالى وتتحول ثروته الى راسمال ثم الى راسمال صناعى ومع نمو الصناعة
والاستثمارات يظهر راس المال المصرفى وتقوم المصارف واشباهها بعمليات التمويل
والاقتراض والرهن ... الخ
ومع اندماج راس المال الصناعى مع رأس المال المصرفى ينشا رأس المال
المالى الذى يتحكم فى مجمل المجتمع الراسمالى .
اما الحرفيون ينقسمون قسمين : الأول : الاكثر تجاوبا مع الحداثة والأكثر
مهارة يقيمون مانيفاكتورات صغيرة ويستعينون بعدد من الحرفيين فلا تلبث
المانيفاكتورات ان تتحول الى مصانع .
الثانى جمهور الحرفيين الصغار غير المبدعين فيتحولون الى عمال او
يبقون كحرفيين يقومون بسد احتياجات الفقر فيصبحون اقزاما اجتماعيا حتى ينقرضون .
ونلاحظ ان منتجى سلع الفقراء سيبقون فى الاغلب فقراء .
لكن النموذج المصرى لنمو عشب المجتمع الرأسمالى جاء مختلفا من اوجه
عديدة ولكى نتعرف على اوجه الاختلاف هذه سنحاول ان نتعقب عملية نمو العشب المصرى
وكيفية تكون الفئات العليا فى المجتمع ليس عبر النمو الطبيعى ( ماء+ أرض+ مناخ)
وإنما بسبب قرار علوى من الحاكم الذى صنع هذا النمو ... محمد على باشا ...
وللحديث بقية
0 تعليقات