إيمان إمبابى
"صنم
الملكية" الذى لم يكل أتباعه ومريدوه طوال أكثر من خمسين عاما.. من تزييف
تاريخ مصر.. وإلباس الباطل ثوب الحق.. بل والانسحاق أمام حكام فترة مهينة فى تاريخ
مصر.. هم خير نموذج لمتلازمة "ستوكهولم".. وقوع الضحية فى هوى الجانى
والتعاطف معه.. إحساس الدونية هذا يتجلى فيما نشر "معالى" الوزير فى 22
ديسمبر 2012.. صورة للأميرة "فوزية" كتب بجانبها: "بنت الأصول و
سليلة عائلة بنى رجالها مصر التى نرى اليوم قليل من ملامحها الراقية في عهدهم..
عائلة أسست الجيش المصري و رعت التنمية الاقتصادية فأبدعت..عائلة مهدت للديمقراطية
يوم انشأت مجلس النواب.. عائلة أسست للعدل و الحرية بإنشاء المحاكم المختلطة و
مجلس الدولة"!!
الرد هنا لن يكون بالحديث عن سلوك "الأميرة" التى منحها
صفة "بنت الأصول".. ولا أعرف حقيقة أى أصول يقصد.. ولا عن أسباب طلاقها
من شاه إيران الراحل "محمد رضا بهلوى".. فما ضمته تفاصيل الكثير من
الكتب متاح للراغبين.. لكننى سأعود لعام 1829.. عندما أسس "محمد على
باشا" بانى مصر الحديثة بحق.. مجلس الشورى.. وكان بمثابة أول هيئة نيابية
ظهرت فى ظل حكم الأسرة العلوية.. لم يكن مجلس طويل العمر فقد جرى إبطاله فيما
بعد.. وكان يستحق البناء عليه.. حتى جاء "مولاه ولى النعم" اسماعيل باشا
للحكم ففكر فى إحياء مجلس جده بشكل آخر.. يضاهى شكلا المجالس الأوروبية المشابهة..
أسسه عام 1866 وحمل اسم "مجلس شورى النواب".. والحقيقة أنه لم تكن له
سلطة فعلية فى أى أمر من الأمور.. القرارات التى يتخذها فيما يعرض عليه من
الأمور.. كانت ترفع "لولى النعم" وله فيها القول الفصل.. والأمور التى
تعرض عليه هى ما ترى الحكومة أنها من اختصاصه وكان تسمى "المسائل"!!
المجلس نفسه يتألف من 75 عضوا ينتخبون لمدة ثلاث سنوات.. يقوم
بانتخابهم العمد والمشايخ فى المديريات, والأعيان فى القاهرة والإسكندرية ودمياط..
يجتمع المجلس شهرين فى كل سنة.. ويكون اجتماعه فى القاهرة وجلساته سرية..
و"لولى النعم" جمع المجلس أو تأخيره أو إطالة مدة انعقاده.. وله حله
وإجراء انتخابات جديدة.. وله الحق وحده فى تعيين رئيس مجلس شورى النواب ووكيله..
دون أن يكون للمجلس رأى أو ترشيح فى هذا التعيين!! ولو جعل له "إسماعيل"
سلطة فعلية فى شئون الحكم على غرار المجالس الأوروبية التى نقل منها هذا النظام,
وخاصة فى مسألة الضرائب والقروض لبعث فيه روحا كانت تحتاجها مصر.. فى ظل تصرفات
مالية للحكومة كانت تحتاج لرقابة فعلية تتولاها هيئة نيابية.. ولو وجدت هذه
الرقابة لوضعت حدا للقروض الفاحشة التى أفضت إلى التدخل الأجنبى فى شئون مصر.. لكن
عصره كان عصر الحكم المطلق.. وأخص صفاته هى ميله المستمر للانفراد بالحكم.. وما
مجلس شورى النواب إلى هيئة استشارية تمنح حكمه رونقا وبهاء.. وهو ما جعل المصريين
يطلقون عليه "مجلس الأعيان"!!
لم تكن تسمية الشعب للمجلس على هذا النحو التهكمى تحمل جورا أو
تزيدا.. فالمجلس خلا من التجار والصناع الذين يمثلون طبقة واسعة فى المدن.. كما
خلا من الطبقة المتعلمة التى تخرجت من المدارس والبعثات العلمية منذ عهد محمد
على.. وأورثت حب العلم والتعلم لأبنائها.. واقتصرت أدوارها على العمل فى الوظائف
الحكومية.. وحتى هذا الوقت لم تكن صحافة بالمعنى المتعارف عليه.. تمارس أدوارا
لتبصير النواب أو الشعب بما يجب أن تؤل إليه الأمور.. أضف إلى ذلك أنه لم يكن
بالبلاد ضمانات نظامية أو قانونية أو قضائية تحمى حقوق المواطنين وتكفل الرأى..
من 1866 حتى 1873.. انعقدت ثلاث دورات برلمانية.. وفجأة توقفت
الحياة النيابية.. لم يدع "الخديوى" المجلس للانعقاد بمد دورته.. أو دعا
لانتخابات جديدة.. فقط توقفت.. لعامى 1874 و1875.. إرتكانا لنزعة الحكم المطلق..
والرغبة فى الانفراد بالقرار بعد تخبط الحكومة والارتباك المالى الذى وقعت فيه..
وحتى وقت وجود نواب المجلس لم تكن الحكومة تشركهم أو تتشاور معهم فى أمورها
المالية والسياسية.. بل حتى أنها كانت ترفض اطلاعهم على حقيقة أوضاعها المالية..
فعرضت الميزانية فى الدورات الثلاثة للمجلس دون تفصيل مع التزامهم بالتوقيع عليها
كاملة دون نقاش!! الغريب أن نواب المجلس وغيرهم ممن كانوا يرغبون الانضمام لاحقا
لم يحركوا ساكنا تجاه تجميد المجلس.. ولم يطالبوا بعودته أو فتح الباب للانتخاب
مرة أخرى.. خاصة مع تتابع الأحداث فى مصر بداية من عام 1873.. وهو العام الذى حصل
فيه "مولاهم" على القرض الأكبر المشئوم.. والذى اقترضه من "بيت
اوبنهام المالى" بمبلغ 32 مليون جنيه انجليزى.. ما دخل الخزانة منه فعليا كان
فى حدود 20 مليون جنيه.. وباقى المبلغ تم احتسابه نفقات وخصم وسمسرة.. 11 مليون
منها اموال سائلة.. والباقى سندات للحكومة المصرية.. وحق أن يقال فيه.. ليس فى
تاريخ القروض فى العالم قرض يعقد بهذه الشروط الجائرة.. بل هذه السرقة العلنية..
ضمن شروط هذا القرض رهن الآتى لسداد دينه: ايرادات السكك الحديدية وقدرها 750 الف
جنيه, الضرائب الشخصية والمقررة وقدرها مليون جنيه, عوائد الملح وقدرها 200 الف
جنيه, مليون جنيه من ضريبة المقابلة, إضافة لكل الموارد التى خصصت لقروض سابقة متى
اصبحت حرة.. من مفارقات القدر أن هذا العام تحديدا هو العام الذى منحته الدولة
العثمانية الفرمان الجامع.. الذى أطلقت يده فيه فى كل شىء دون العودة إلى الباب
العالى..
وهنا بلغ ذروة نفوذه فى العلاقة مع تركيا.. ومصر العزيزة بائسة
مشرفة على الإفلاس.. وقاب قوسين من السقوط تماما فى يد المستعمر!.. ثم يأتى
"عبدة صنم الملكية" ومرضى "متلازمة ستوكهولم" ويقولون لنا..
اللهم هب لنا "اسماعيل" آخر!!
ليأتى عام 1875 ببيع أسهم مصر فى القناة للحكومة البريطانية ببخس
الثمن 4 ملايين جنيه.. ومن هنا بدأ الانهيار.. عجز مستمر للخزانة.. إستوجب اللجوء
لبعثة "كيف" الانجليزية لفحص أمور الحكومة.. ساء الوضع ولم تستطع
الحكومة دفع أقساط الديون فى ابريل عام 1876.. وبدأ التدخل الأجنبى, ثم إنشاء
صندوق الدين فى مايو من نفس العام.. وأحدا لم يطالب بعودة مجلس النواب.. لا النواب
ولا "ولى النعم" ولا أحد.. وبالتأكيد ولا الشعب المصرى!
مأساة الديون هى الجانب المظلم فى عهد "مولاهم".. يحبون
تجاهله.. ويتمنون لو يستطيعون شطبه من كتب التاريخ.. لأنه انتهى إلى تصدع بناء
استقلال لا يعترفون به.. وتدخل الدول الأجنبية فى شئون البلاد المالية والسياسية..
وهو أمر لا يثير حفيظتهم البتة.. بل هو مستحب عندهم.. يرونه تعاونا مع دول كبرى!!
وبينما حرص "محمد على" وخليفتيه "ابراهيم" و"عباس"
على الابتعاد عن آفة الديون.. لما فيها من سلب لقرار الدول.. ولامتلاكهما رؤية
شاملة للبناء دون استدانة.. بدأها سعيد عام 1862 بتؤدة.. فكان إجمالى ما استدانه
حتى وفاته 11 مليون و160 ألف جنيه.. أما إسماعيل.. فقد كانت آفته الإسراف وحب
البذخ وسفه الانفاق وهو ما دفعه للاستندانة من بيوت المال والمرابين الأجانب دن
حساب أو نظر فى العواقب.. حتى كبل البلاد حكومة وشعبا بقروض فاحشة.. بدأها عام
1864.. بقرض قيمته 5 مليون وأكثر من 700 ألف جنيه انجليزى.. ليصل مجموع الدين
العام فى 1876 مبلغ 126 مليون وأكثر من 354 ألف جنيه انجليزى!!
قيل وقتها أن القرض الأول كان لمواجهة الطاعون البقرى الذى اجتاح
البلاد.. وهى مقولة يكذبها مؤلف "تاريخ مصر المالى".. فيذكر أن تلك كانت
حجة واهية, لأن الفلاحين والملاك هم من تحملوا وحدهم الخسائر الناتجة عن الكارثة..
وأنه لم يرد فى ميزانية الدولة لهذا العام أنفاق للحكومة بهذا الصدد سوى مبلغ 125
ألف جنيه.. ويورد أن الإنفاق الحقيقى لهذا القرض كان فى الأراضى والأطيان التى
أسرف مولاهم ولى النعم" فى الإنفاق عليها.. وفى كتاب "كشف الستار عن
اسرار مصر" لمدام "اولمب إدوار" ذكرت أنه: "كان لا يهتم إلا
بجمع الملايين.. يقتنى الأطيان فى كل ناحية قدر ما يستطيع.. ويلجأ إلى السخرة
لاستصلاحها وزرعها.. كان يحصل على القرض تلو الآخر بآجال طويلة فى السداد حتى يترك
لمن يخلفه مسئولية السداد.. حتى كأنه يقصد أن يعقد مهمة الحكم لمن سيأتى بعده!!
كتب هذا الكلام فى 1864.. وهو ما يعطى صورة واضحة عن ميوله منذ
العام الأول.. ولم تكن ظروف البلاد وقتها تستدعى الاستدانة.. القرض الأول الذى
ذكرناه كان من بيت مال "فروهلينج وجوشن" الانجليزي.. وفائدته كانت 12 %
وهى فائدة فاحشة.. رهنت ضرائب الأطيان بمديريات الدقهلية والشرقية والبحيرة لسداد
أقساطه!!
أين أنفق ذلك القرض؟!..
إجابته ذكرها المؤرخ "عبد الرحمن الرافعى" فى كتابه عصر
اسماعيل".. "بخلاف الأطيان فى مصر فقد اشترى قصر "ميركون" على
ضفاف البوسفور.. ليكون مقرا له عندما ينزل الآستانة!! لم يكن لولاة مصر قصور فى
هذه المدينة.. وأنفق على ذلك القصر بسفه حتى ضاهى قصور السلاطين الأتراك.. وهى نفس
المرحلة التى بدأ ينشىء القصور الفخمة فى مصر.. تعددت المبانى والقصور فى كل
مكان.. واستتبعها شق طرق حولها لربطها بكل مكان"!!
فى الوقت الذى تسارعت خطى التدخل الأجنبى.. وخضوع الحكومة لمطالب
الدول الدائنة.. وقبول الوصاية الأجنبية على الشئون المالية.. وتعيين هيئات ولجان
لتنظيم هذه الوصاية.. غرقت الحكومة فى التعنت مع الفلاحين بمختلف أنواع الضرائب
الجائرة.. تبرم الناس.. وبدأوا البحث عن طرق للخلاص.. كانت الصحافة قد بدأت فى
مصر.. وتطايرت الأفكار التى تنير الطريق بين الطبقات المتعلمة ومنها إلى الطبقات
الأدنى.. وفى كتابه "مصر وأوروبا" وصف القاضى الهولندى "فان
يملن" الذى تولى القضاء فى المحاكم المختلطة فى هذه الفترة الوضع قائلا:
"يخطىء الذين يظنون أن المصريين المثقفين لا يهتمون إلا بمصالحهم الشخصية,
فإنهم على العكس يكرهون الحكم التركى والحكم الأوروبى على السواء, ويريدون حكومة
وطنية بكل معانى الكلمة.. وهم يحبون مصر الحديثة ومصر التاريخية.. ويهتمون بمصير
الشعب, ويتألمون لمصائبه التى لا نهاية لها"!!
أما كتاب "مصر كما هى" لمؤلفه "ماك كون" فقد
وصف الشعور السائد فترة حكم الخديوى "إسماعيل" – 1876 – فقال: "إن
شعور الولاء السياسى للباب العالى قد تلاشى بسبب إحساس المصريين بفداحة الجزية
التى تؤدى لتركيا دون مقابل, وأصبح شعار الأمة المصرية.. مصر للمصريين.. ولا يشك
فى ذلك أحد ممن عرف حقائق الأمور فى مصر, ولو أن الخديوى إسماعيل أراد أن يعلن الاستقلال
التام للقى التأييد والتعضيد من جميع طبقات الأمة"..
القادمة.. وزارة نوبار باشا وثورة ضباط الجيش
0 تعليقات