جمال عبد الجواد✋
هل سيأتي الرئيس الأمريكي جو بايدن بجديد إلى الشرق الأوسط؟ نعم.
هذه هى الإجابة المباشرة على هذا السؤال. لقد انتهى الزمن الذي كان فيه تولي رئيس
أمريكي جديد لا يأتي بالضرورة بتغيرات مهمة في السياسة الخارجية الأمريكية، خاصة
في الشرق الأوسط. الفارق بين السياسة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس جورج بوش
الأول والرئيس بيل كلينتون لا يكاد يذكر، فقط مبادرات إضافية في الاتجاه نفسه
تقريباً. انتهت الحرب الباردة بينما كان الجمهوري جورج بوش يقود الولايات المتحدة.
تصرف الرئيس جورج بوش إزاء هذا التطور ليس كجمهوري محافظ تقليدي، يفضل العزلة
لبلاده، ويسعى للحد من تورطها في شئون العالم المضطرب، بل تصرف كما لو كان
ليبرالياً دولياً Liberal
internationalist أصيلاً، فتحدث عن إنشاء نظام دولي جديد، تحكمه القواعد القانونية،
وتمارس فيه المؤسسات متعددة الأطراف دوراً أكبر، وفعل كل ذلك بحكمة واعتدال
المحافظ صاحب الخبرة، والواقعي المتمتع برؤية ثاقبة. بعد ذلك جاء الرئيس بيل
كلينتون فواصل السياسات نفسها، ولأنه كان من المعتدلين في الحزب الديمقراطي، فقد
طبق سياسات الليبرالية الدولية بدون مبالغة أو حماس إيديولوجي زائد، فقد كان
وسطياً بامتياز.
كانت تلك مرحلة تواصل واستمرارية رائعة في السياسة الخارجية
الأمريكية، لا تكاد تلحظ فيها الفارق بين سياسات رئيس جمهوري وآخر ديمقراطي. إنها
المرحلة التي كان يجري تداول السلطة فيها بين التقدميين في الحزب الجمهوري
والمحافظين في الحزب الديمقراطي. انتهت هذه المرحلة بمجيء جورج بوش الثاني
للرئاسة، ومن يومها وكل رئيس أمريكي جديد يأتي للرئاسة بأجندة حزبية وتحيزات
إيديولوجية تختلف عن سلفه، حتى جاء الرئيس دونالد ترامب، الذي حمل معه أجندة
وإيديولوجيا حزبه الجمهوري، وأضاف إليها طبقة سميكة من مفاهيمه وطريقته الفريدة
الخاصة، فكانت السياسة الخارجية الأمريكية التي شهدناها خلال السنوات الأربع
الأخيرة.
لقد دخل البيت الأبيض الآن رئيس ديمقراطي، حاملاً معه إيديولوجيا
حزبه من ناحية، وطريقته الخاصة من ناحية ثانية. فكيف ستبدو السياسة الخارجية
الأمريكية في عهده؛ وبشكل خاص، كيف ستبدو السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق
الأوسط خلال السنوات الأربع القادمة.
إدارة بايدن والسياسة الخارجية
سياسة الرئيس بايدن الشرق أوسطية هى جزء من سياسته الخارجية بشكل
عام، والتي تتأثر بعدد من العوامل، وتحمل بعض السمات، على النحو التالي:
1- للرئيس الأمريكي جو بايدن اهتمام خاص بالسياسة الخارجية، فقدكان
عضواً في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ لعدة سنوات، بما في ذلك أربع سنوات
ترأس خلالها هذه اللجنة. لقد أتاحت عضوية ونشاط الرئيس بايدن في لجنة العلاقات
الخارجية له الفرصة لتكوين خبرة دولية كبيرة. الخبرة والاهتمامات الخارجية للرئيس
بايدن ترجح قيامه بأدوار نشطة في مجال السياسة الخارجية أثناء رئاسته.
2- للرئيس بايدن رؤى واضحة حول السياسة الخارجية والعلاقات
الدولية، فخلال السنوات الطويلة التي قضاها عضواً في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس
الشيوخ عبّر بايدن بشكل متسق عن رؤية مستمدة من قيم وإيديولوجيا الليبرالية
الدولية، وسوف تمثل هذه الرؤية مصدراً مهماً للسياسة الخارجية لإدارته في عموم
العالم، بما في ذلك الشرق الأوسط.
3- تتسم المعتقدات الإيديولوجية والمواقف السياسية للرئيس
بايدن بالاعتدال، فهو يمثل الجناح المعتدل في الحزب الديمقراطي. فالإيديولوجيا
بالنسبة للرئيس بايدن تبدو أقرب للنصائح الاسترشادية منها إلى العقيدة السياسية
التي يتم اتباعها بشكل جامد.
4- يأتي عدد كبير من طاقم إدارة الرئيس بايدن من خلفية
احترافية وليس سياسية، وهو ما يحد من أثر العوامل الإيديولوجية والسياسية في صنع
قرارات السياسة الخارجية، ويعطي وزناً أكبر لآراء المؤسسات ذات الصلة بصنع السياسة
الخارجية والدفاع. فوزير الدفاع هو جنرال سابق، ورئيس المخابرات المركزية هو
دبلوماسي محترف، فيما يأتي وزير الخارجية من خلفية مهنية في مجلس الأمن القومي،
وتأتي مدير المخابرات الوطنية من خلفية مهنية في مجال المخابرات والأمن القومي.
5- يرى الرئيس بايدن أن الولايات المتحدة يجب أن تعود لقيادة
العالم مرة أخرى. وقد عبّر عن هذه الرؤية في مقال مطول تم نشره أثناء حملة
الانتخابات الرئاسية. بهذا المعنى، فإن الرئيس بايدن سيتبنى سياسة خارجية نقيض
للسياسة الخارجية التي طبقها الرئيس السابق ترامب، والتي انطلقت من عقيدة
انعزالية، لم تر في العالم شركاء وحلفاء للولايات المتحدة، وإنما رأت فيه فقط دول
تحاول استغلال الولايات المتحدة والاستيلاء على ثرواتها، أو دول يمكن عقد الصفقات
المربحة معها.
6- لا يوجد لدى الرئيس بايدن نوازع انتقامية تدفعه لمعارضة سياسات
الرئيس السابق ترامب لمجرد أنها جاءت من سلفه المختلف سياسياً وإيديولوجياً. فرغم
الانقسام الإيديولوجي العميق في الولايات المتحدة، فإن المرحلة القادمة في السياسة
الأمريكية لن تكون مجرد تطبيقاً معاكساً بسيطاً لسياسات الرئيس ترامب، بل إنها
ستنطوي على بعض من استمرارية السياسات التي جرى تطبيقها خلال الأربعة أعوام
الأخيرة.
7- كما وصفها الرئيس السابق ترامب، فإن الصين ستظل تمثل التهديد
الاستراتيجي الأهم للولايات المتحدة، وفي هذا الجانب شديد الأهمية ستكون السياسة
الخارجية الأمريكية لإدارة ترامب استمراراً بدرجة كبيرة لسياسة الإدارة السابقة،
واختلافاً عن السياسة التي تم اتباعها في عهد الرئيس أوباما. لقد وصفت استراتيجية
الأمن القومي الصادرة في عهد الرئيس ترامب الوضع في النظام الدولي على أنه نظام
للتنافس الاستراتيجي بين القوى الكبرى، وليس لدى الرئيس بايدن رؤية مخالفة لذلك،
بل إن هذا الفهم لطبيعة الصين والنظام الدولي يمثل إجماعاً جديداً في الولايات
المتحدة بغض النظر عن الانتماء الحزبي. ويعد هذا تحولاً كبيراً في السياسة
الخارجية الأمريكية، فلو قارنا ما قاله وكتبه الرئيس بايدن عن الصين مؤخراً لوجدنا
فيه اختلافاً كبيراً عن استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الصادرة عام 2015، في
عهد الرئيس أوباما، بما يشير إلى أن إدارة بايدن ليست إدارة جديدة للرئيس أوباما،
رغم أن عدداً كبيراً من الوجوه الرئيسية في الإدارة الجديدة كانوا جزءاً من إدارة
أوباما.
8- إعادة بناء التحالف الغربي هى القضية الأكثر وضوحاً في برنامج
السياسة الخارجية للرئيس بايدن. لقد تعرض التحالف الغربي لضغوط كثيرة خلال سنوات
حكم الرئيس ترامب. في هذا السياق، فإن الولايات المتحدة سوف تعزز العلاقة مع
الحلفاء الأوربيين الرئيسيين، إذ يرى الرئيس بايدن أن الولايات المتحدة تكون أكثر
قوة بقدر ما يكون لها من حلفاء، وأنها تكون أقدر على تحقيق أهدفها طالما كانت تعمل
في إطار جماعي.
9- تمثل القيم الديمقراطية الرابط الأهم بين أعضاء التحالف الغربي،
كما يراه الرئيس بايدن. وقد وعد الرئيس الأمريكي بتنظيم قمة ديمقراطية خلال العام
الأول من رئاسته. بما يوحي بأن قضايا الديمقراطية والحقوق ستعود لممارسة دور مهم
في سياسة الولايات المتحدة الخارجية.
10- مواجهة الصين وإعادة بناء التحالف الغربي هما قضيتان مترابطتان
في رؤية الرئيس بايدن، الذي يرى أن الولايات المتحدة سوف تكون أقوى في مواجهة
الصين لو أنها تخوض هذه المواجهة من خلال تحالف دولي، وليس بمفردها.
11- تحتل القضايا العالمية فوق القومية، خاصة قضايا التغير المناخي
ومكافحة الأوبئة، مكانة بارزة في السياسة الخارجية لإدارة بايدن.
الشرق الأوسط على قائمة اهتمامات بايدن
لم يهتم المرشح الرئاسي جو بايدن بتوضيح برنامجه للشرق الأوسط
أثناء الحملة الانتخابية. فرغم وجود قسم مهم عن السياسة الخارجية في البرنامج
الانتخابي لبايدن، إلا أن هذا الجزء لم يشمل شيئاً مفيداً يخص الشرق الأوسط، اللهم
إلا الانتقاد الذي تكرر مراراً لقيام الرئيس السابق ترامب بالانسحاب من الاتفاق
النووي مع إيران. ونظراً لأن الخلاف حول السياسة الخارجية لم يحتل سوى مساحة صغيرة
من الجدل أثناء الحملات الانتخابية، فلم تكن هناك فرصة لتطوير وإيضاح رؤية الرئيس
بايدن للشرق الأوسط.
الرئيس بايدن ليس غريباً عن الشرق الأوسط، فخبرته الطويلة في لجنة
الشئون الخارجية في الكونجرس، ومنصبه كنائب للرئيس مكناه من الاقتراب من قضايا
المنطقة. ولدى الطاقم المعاون للرئيس بايدن خبرة كبيرة بشئون المنطقة. فوزير
الدفاع الجنرال لويد أوستن كان قائداً للقيادة المركزية المسئولة عن الشرق الأوسط.
ووليم بيرنز، رئيس المخابرات المركزية المرشح كان سفيراً في الأردن، بالإضافة إلى
منصبه السابق كنائب لوزير الخارجية. وأنطوني بلينكن وزير الخارجية كان ضمن فريق
مستشاري الأمن القومي للرئيس أوباما، ولنائب الرئيس بايدن. وربما ساعدت هذه
الخبرات في تشكيل موقع الشرق الأوسط ضمن مناطق اهتمام الإدارة الجديدة.
بالإضافة إلى التصريحات المتناثرة التي صدرت عن الرئيس بايدن بشأن
الشرق الأوسط، فإن المصدر الأهم والأكثر تفصيلاً لما تنوي هذه الإدارة القيام به
في المنطقة هو جلسات الاستماع وتثبيت التعيين، التي عقدها مجلس الشيوخ لمرشحي
الرئيس بايدن لشغل مناصب ذات صلة بالشئون الخارجية، والتي شارك فيها حتى الآن وزراء
الخارجية والدفاع ومدير المخابرات الوطنية. بيّنت هذه الجلسات أن إدارة بايدن لا
تنوي التورط عسكرياً في المنطقة، فلا الإدارة ولا الرأى العام مستعد لهضم حروب
أمريكية جديدة في الشرق الأوسط. في الوقت نفسه، فإن هذه الإدارة ليست مع الانسحاب
الأمريكي من المنطقة. والأرجح هو أن إدارة الرئيس بايدن ستحافظ على مستوى مناسب من
الوجود العسكري في المنطقة، وإن كانت تتمنى ألا تضطر لاستخدامه. بالمقابل فإن
إدارة بايدن تنوي الاعتماد بشكل مكثف على الدبلوماسية، والعمل مع حلفائها
الإقليميين، آملة أن توليفة الوجود العسكري المحدود والدبلوماسية النشطة والعمل مع
الحلفاء ستكون كافية لتحقيق الأهداف الأمريكية.
المشكلة الحقيقية التي تواجه هذه الإدارة هى عدم وضوح الأهداف
الأمريكية في الشرق الأوسط. فمن غير المعروف بالضبط ما هى الأهداف التي تسعى
الإدارة الأمريكية لتحقيقها في المنطقة، بعد أن تراجعت أهمية النفط وأصبحت إسرائيل
قادرة على الدفاع عن نفسها. لقد تم استبدال هذه الأهداف في مرحلة سابقة بسياسة
الترويج للديمقراطية، التي تسببت في إدخال المنطقة في أزمة كبيرة، فتم التخلي
عنها، دون إبدالها بسياسة متسقة جديدة.
لقد بيّنت متابعة تصريحات مسئولي الإدارة الجديدة أن لدى هذه
الإدارة اهتمام وموقف واضح متعلق بالنووي الإيراني، والحرب في اليمن، وحقوق
الإنسان، والوجود الأمريكي في المنطقة، والعمل مع الحلفاء، فيما يبدو أنها مازالت
في مرحلة تطوير سياستها إزاء قضايا أخرى، خاصة ليبيا وسوريا والقضية الفلسطينية والوجود
الروسي في المنطقة.
إيران والبرنامج النووي
الاتفاق مع إيران بخصوص برنامجها النووي هو أكثر نقاط سياسة بايدن
الشرق أوسطية وضوحاً، وهو الأولوية الأهم لهذه الإدارة في المنطقة. فمنع إيران من
امتلاك سلاح نووي هو جزء من سياسة الولايات المتحدة لمنع الانتشار النووي في
العالم. وترى الولايات المتحدة أن امتلاك إيران للسلاح النووي سيطلق سباقاً للتسلح
النووي في المنطقة، كما أنه سيزيد من احتمالات نشوب صراع مسلح بين قوى إقليمية
رئيسية، وذلك في إطار إصرار قوى إقليمية منافسة لإيران على منع الأخيرة من التحول
إلى قوة نووية، حتى لو استلزم ذلك شن الحرب ضدها.
لقد كان الرئيس بايدن قريباً من المفاوضات التي انتهت بتوقيع
الاتفاق النووي مع إيران عام 2015، بحكم منصبه كنائب للرئيس باراك أوباما؛ كما
شارك في هذه المفاوضات عدد من المسئولين الذين اختارهم لشغل مناصب رئيسية في
إدارته، بما قد يعزز الاعتقاد بأن عدداً من المسئولين في الإدارة الجديدة ينظرون
للاتفاق النووي مع إيران كإنجاز خاص بهم، يسعون لاستعادته، بعد أن قوضته الإدارة
السابقة.
العودة البسيطة لاتفاق 2015 هو ما تطالب به طهران، غير أن مثل هذه
العودة لن تكون بالأمر اليسير، فقد جرت مياه كثيرة تحت الجسور في الشرق الأوسط
خلال السنوات الخمس الماضية، وأهم هذه التغيرات هو أن أكثر من نصف عمر الاتفاق
النووي مع إيران، والمقرر دخوله في مرحلة الغروب sunset clause في عام 2025، قد انقضى. إن الفترة القصيرة
الباقية من عمر الاتفاق لا تجعل من مجرد العودة البسيطة له أمراً مغرياً، خاصة وأن
إيران قد قامت بالفعل بالارتقاء بقدراتها النووية منذ أن انسحبت إدارة الرئيس
ترامب من الاتفاق. لقد تضمنت عملية التوصل للاتفاق النووي مع إيران آليات
واختبارات كثيرة للثقة بين الطرفين، أما بعد انسحاب الولايات المتحدة، وقيام إيران
بمعاودة تخصيب اليورانيوم، فإن الثقة بين الطرفين تعرضت لانتكاسة كبيرة، سيستغرق
استعادتها وقتاً وجهداً.
عند التوصل للاتفاق النووي الإيراني في عام 2015 تجاهلت إدارة
الرئيس أوباما الكثير من التحفظات الجوهرية التي عبر عنها حلفاء الولايات المتحدة
في الإقليم، خاصة دول الخليج العربي وإسرائيل.
وقد أظهرت خبرة السنوات الخمس الأخيرة أن هذه التحفظات لم تكن مجرد
أوهام أو مخاوف بلا أساس. فبرنامج الصواريخ الإيرانية حقق تقدماً سريعاً جداً، مما
جعله تهديداً أمنياً حقيقياً لدول المنطقة، وقد قامت إيران بالتورط في الاستخدام
الفعلي لقدراتها الصاروخية، عندما هاجمت منشآت نفطية سعودية في صيف 2019، وقامت
بتصدير صواريخ من إنتاجها لميلشيات مختلفة حول المنطقة، من الحوثيين لحزب الله
لمنظمات فلسطينية في قطاع غزة. بالإضافة إلى ذلك فقد عززت إيران من قدرتها على
التدخل في الشئون الداخلية لدول المنطقة من خلال المليشيات التي ساهمت في تكوينها
في لبنان والعراق.
لقد بات من الصعب تجاهل هذه المخاطر الآن كما تم تجاهلها قبل خمسة
أعوام. وقد انعكس ذلك في التصريحات الصادرة عن المسئولين الأمريكيين أثناء جلسات
تأكيد التعيين. ومن أهم ما قاله أنطوني بلينكن في هذا السياق، وأكده مسئولون
آخرون، هو أن المدى الزمني للاتفاق النووي، وكذلك البرنامج الصاروخي الإيراني،
وتدخل إيران في الشئون الداخلية للدول الأخرى، سوف تكون على مائدة التفاوض مع
إيران.
تضمن الجديد في التفكير الأمريكي حول الملف النووي الإيراني
تغييراً في إطار المفاوضات، من خلال طرح إشراك دول خليجية وإسرائيل في المفاوضات،
بشكل مباشر أو غير مباشر، وذلك لأخذ مخاوف هذه الأطراف بالاعتبار، وهى المخاوف
التي تم تجاهلها عندما تم التوصل للاتفاق النووي لأول مرة.
هذه الأفكار الجديدة شديدة الأهمية، لكن تظل هناك عدة مشكلات.
فتقديم هذه الأفكار يساوي في الحقيقة تفاوضاً حول اتفاق جديد، وليس مجرد العودة
للاتفاق السابق، وهو ما ترفضه إيران. وهناك على الجانب الآخر شركاء الولايات
المتحدة في التفاوض حول الاتفاق النووي، خاصة الثلاثي الأوروبي: بريطانيا وفرنسا
وألمانيا. فالولايات المتحدة تعلق آمالاً كبيرة على استعادة تماسك التحالف الغربي،
ومن غير المعروف ما إذا كانت هذه الدول تشاركها رغبتها في التفاوض على عناصر جديدة
لم تكن مشمولة بالاتفاق السابق أم لا.
من زاوية أخرى، فإنه من غير الواضح حتى الآن ما إذا كانت إدارة
بايدن ستتمسك بهذه المواقف حتى النهاية، وما هى البدائل التي لديها إذا تسببت هذه
المواقف في تعثر المفاوضات، وما إذا كان ذلك يعكس فعلاً سياستها، أم أن صدور هذا
التصريحات هو بغرض إرضاء الأعضاء المتشددين في الكونجرس، أو أنه من قبيل العرض
الافتتاحي في المفاوضات مع إيران.
لقد بدأت الاتصالات بين الطرفين الأمريكي والإيراني بالفعل، إذ
تشير تقارير إلى لقاء جمع ممثلين للإدارة الجديدة مع ممثلين لإيران، بما يعني أن
إدارة الرئيس بايدن تضع هذه القضية في مقدمة أولوياتها. وربما تبادر الولايات
المتحدة باتخاذ خطوات لإظهار حسن النوايا تجاه إيران لتشجيع الأخيرة على التصرف
بطريقة إيجابية، ومن ذلك إمكانية تسهيل حصول إيران على قرض من صندوق النقد الدولي
لمواجهة آثار كوفيد– 19، أو إتاحة بعض من الأرصدة الإيرانية المحتجزة لتمويل شراء
احتياجات إنسانية مرتبطة بالوباء العالمي. وفيما لا تمثل إجراءات مثل هذه تنازلاً
جوهرياً من جانب الولايات المتحدة، فإنها قد تكون كافية لتشجيع إيران على التصرف
بإيجابية.
الحرب في اليمن
عبر ممثلو إدارة الرئيس بايدن عن موقف معارض لاستمرار الحرب في
اليمن، وذلك بسبب التكلفة الإنسانية التي تراها الإدارة كبيرة جداً. ويقر ممثلو
الإدارة بمسئولية الحوثيين عن الأزمة اليمنية، فقد بدأت الأزمة عندما انقلبوا على
حكومة شرعية. لكنهم مع ذلك يعطون الأولوية لإنهاء الحرب، بغض النظر عن المتسبب
فيها، ولتأتي بعد ذلك مسألة طبيعة التسوية السياسية التي سيتم إيقاف الحرب بموجبها.
الولايات المتحدة ليست طرفاً في حرب اليمن، وهى بالتالي لا تستطيع
إيقاف الحرب وفقاً لإرادتها المنفردة، لكنها تنوي التوقف عن تقديم الدعم لهذه
الحرب. وكانت إدارة أوباما قد أيدت التدخل العسكري السعودي في اليمن، ربما كإشارة
لاستيعاب قلق المملكة من التهديدات التي يفرضها استيلاء الحوثيين على الشرعية
الدستورية. والأرجح أن تؤدي السياسة الأمريكية الجديدة لتخفيف حدة العنف في اليمن،
إلا أنها لا تضمن التوصل لاتفاق سلام نهائي بسبب تباعد مواقف الأطراف.
حقوق الإنسان
لقد تعلم المعتدلون في الحزب الديمقراطي دروس الربيع العربي
المزعوم، وأدركوا أن التدخل الخارجي لفرض أنظمة حكم وقيم سياسية يمكن أن تكون له
عواقب وخيمة على الاستقرار والأمن في المنطقة؛ لهذا فإنه لا يوجد لدى إدارة بايدن
أهداف تتعلق بتغيير الأنظمة أو التدخل بيد ثقيلة في شئون دول المنطقة.
في الوقت نفسه، فإن الإدارة الديمقراطية لا تنوي التخلي عن إثارة
قضايا متعلقة بحقوق الإنسان، فهذه القضايا أصبحت جزءاً من هوية الحزب الديمقراطي،
وهى مسألة مهمة بالنسبة لعدد كبير من الأعضاء الديمقراطيين في الكونجرس. لقد أثار
هؤلاء الأعضاء أثناء جلسات تأكيد التعيين قضية الصحفي جمال خاشقجي، وطالبوا
الإدارة بكشف المعلومات المتاحة لها، ونشر التقدير الذي أعدته أجهزة الاستخبارات،
ووعدت الإدارة بعدم إخفاء شيء يتعلق بهذه القضية.
غير أن هناك الكثير من الإشارات على أن إدارة بايدن لا تنوي تحويل
قضايا حقوق الإنسان إلى نقطة افتراق بينها وبين حكومات في المنطقة. فالإدارة
الجديدة لن تستطيع تجاهل الانتهاكات الجسيمة التي قد تحدث، لكنها تبدو مستعدة
لتفهم أو احتمال فرض بعض القيود غير المبالغ فيها.
العمل مع حكومات المنطقة
الوجه الآخر لتجنب سياسة تغيير الأنظمة هو الاتجاه لتطوير علاقات
التعاون مع حلفاء الولايات المتحدة التقليديين، فهذه الإدارة مهتمة بكسب الحلفاء،
والعمل بالتعاون معهم بقدر الإمكان. غير أن هذه العلاقة لن تكون سهلة طوال الوقت،
والسبب في ذلك هو الضغوط القادمة من الجناح اليساري صاحب النفوذ المتزايد في الحزب
الديمقراطي، والذي بدأ في ممارسة الضغوط لدفع إدارة بايدن لتبني مواقف متشددة ضد
الحكومات التي لا تتفق مع نموذجهم للديمقراطية وحقوق الإنسان. لهذا فإن إدارة
بايدن ستحاول الجمع بين المتناقضات الناتجة عن ضرورات إرضاء المطالب الديمقراطية
والحقوقية الداخلية، وضرورات العمل مع الحلفاء الإقليميين.
إن مشكلة إدارة بايدن تكمن في أنها تتعامل مع أزمات الشرق الأوسط
كل على حدة، وتفتقر إلى مبدأ ناظم ورؤية متماسكة تقيم صلة بين هذه الأزمات. لقد
خلَّف غياب الولايات المتحدة عن الشرق الأوسط خلال أغلب العقد الأخير فراغاً حاولت
قوى إقليمية، خاصة تركيا وإيران، شغله، وانضمت إليها في هذا المسعى روسيا، التي
تحولت إلى لاعب رئيسي في شئون المنطقة. فهل تستطيع الإدارة الأمريكية الجديدة
استعادة زمام القيادة والمبادرة في منطقة ملتهبة شديدة التعقيد، بينما تخشى من
تورطها في شئونها؟.
👃 المصدر : مركز الأهرام للدراسات
0 تعليقات