نصر القفاص
كتب "إريك رولو" مذكراته ونشرها بعنوان "فى كواليس
الشرق الأوسط" وهى كغيرها موجودة فى المكتبات.. وهو صحفى أصله يهودى – مصرى..
ترك مصر قبل ثورة 23 يوليو مع أسرته.. أصبح فيما بعد رئيسا لقسم الشرق الأوسط
بجريدة "لوموند" الفرنسية.. عاد إلى مصر فيما بعد مطلع الستينات فى مهمة
عمل صحفية.
يحدثنا "إريك رولو" عن مصر فى الأربعينات فيقول:
"فى وسط القاهرة.. كانت الأحياء التجارية تغرق فى سبات عميق أيام الأعياد
اليهودية أو رأس السنة اليهودية.. إذ كانت العديد من المتاجر الكبرى والمحلات
والمصارف وشركات الأعمال.. فضلا عن البورصة.. جميعها تغلق أبوابها.. كانت المقاهى
والمطاعم ودور السينما تعمل بكثافة أقل.. كان بحسب المرء التجول فى أحد الشوارع
الرئيسية بالعاصمة, لكى يرى أسماء المتاجر الكبرى الراقية تتلألأ وضاءة مثل
"شيكوريل" و"شملا" و"جاتينيو" و"أروسدى باك"
و"عدس" و"أوريكو" و"الصالون الأخضر" و"الملكة
الصغيرة".. وجميعها مملوكة لعائلات يهودية واسعة الثراء.. وكان ثمة متجر كبير
واحد يضاهيها وهو محل "صيدناوى" وكان ملكا لمهاجرين مسيحيين ينتمون
لعائلة بالاسم نفسه من سوريا".
ثم يسجل "إريك رولو" فى مذكراته أنه ترك مصر بتأشيرة
"خروج بلا عودة" فى شهر ديسمبر عام 1951 ثم يقول: "بعد بضعة أشهر..
فى 23 يوليو 1952 إستولى الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر على الحكم..
وأعلنوا قيام الجمهورية بعد ذلك بعام واحد".
يروى "إريك رولو" فى مذكراته أنه: "بعد انقضاء إثنى
عشر عاما على رحيلى عن البلاد.. عدت إلى مصر بصحبة زوجتى روزى المصورة الصحفية..
إنبهرنا لدى وصولنا إلى مطار القاهرة باستقبال سريالى فاق الخيال.. استقبلنا مندوب
رفيع من وزارة الإرشاد – الإعلام – مبديا احتراما فوق العادة.. أقلتنا سيارة رسمية
إلى أحد الفنادق الكبرى بالقاهرة.. كان هناك جناح محجوز لنا, تنتظرنا فيه باقة
ضخمة من الزهور ومعها بطاقة مفادها أن رئاسة الجمهورية ترحب بنا.. أدهشتنى حفاوة
استقبال من غادر هذه البلاد منفيا".
ثم يرسم لوحة مصر التى عاد ليراها مختلفة فيقول: "عند عودتى
إلى القاهرة عام 1963 إكتشفت أن النظام الناصرى, قد نجح خلال عشر سنوات فقط فى
تسليم مصر للمصريين.. تجولت فى وسط البلد لألحظ أن الأقليات ذات الأصول الأوروبية
أو الخواجات وهم من كانوا يترددون على الأحياء التجارية قد اختفوا.. عجت الشوارع بأفراد
من أهل البلد المنحدرين من الطبقات الاجتماعية الفقيرة ممن يرتدون البدلة أو
الجلباب.. يعتمرون الطربوش أو العمامة, وكانوا على عهد الملكية يتحاشون أن يغامرون
بارتياد الأحياء التى يقطنها الأجانب خشية أن يتعرضوا لتحريات رجال الشرطة للتثبت
من هويتهم!! أدهشنى ما رأيت من تحولات.. فقد حلت اللافتات المكتوبة باللغة العربية
محل اللافتات الأجنبية.. تركت البائعات المتحدثات بلغات عديدة أماكنهن لشابات لا
يتكلمن سوى لغة البلد.. إتخذن أزياء فاتنة, ووضعن المساحيق على وجوههن فى تحرر
واضح للعيان.. أما الزبونات أى النساء اللائى يمشين فى الشوارع أو الجالسات خلف
المقود داخل سياراتهن.. فلا يرتدين الحجاب.. فقد تراخت قبضة العادات المتزمتة, وهو
ما تشى به تشابك أيدى الشباب والشابات بنعومة وهم يتنزهون على ضفاف النيل.. وعلى
امتداد عدة كيلومترات على الكورنيش تناثرت الكثير من الفنادق الفاخرة وصالات الشاى
والكازينوهات والملاهى الليلية.. وهنا وهناك فى المقاهى ومحلات الحلوى راح لاعبو
النرد يتنافسون بصخب وهم يدخنون الشيشة".
ويتوقف "إريك رولو" عند جولته بميدان الإسماعيلية الذى
تغير اسمه ليصبح "ميدان التحرير" ليقول: "كنت قد عايشت هنا قبل
عشرين سنة أعمال القمع الدامية لمظاهرة كبرى تطالب بالاستقلال.. شهدت خلالها مصرع
شاب كان يسير إلى جوارى بعد أن أصابته رصاصات قوات حفظ النظام.. اليوم لا أثر
للثكنات البريطانية بجدرانها المصمتة العالية وأبوابها الحديدية الثقيلة التى كانت
قائمة عند أطراف الميدان.. فيما تسارع تكاثر المبانى الضخمة حول الميدان وبالقرب
منه.. فى الأفق أطلت على المدينة ناطحات السحاب يتراوح ارتفاعها بين عشرين وثلاثين
طابقا.. تم هدم بعض الأحياء الشعبية غير الصحية لتقوم محلها صفوف من العمائر
السكنية منخفضة الإيجار".
أتوقف عند هذا الحد من مذكرات "إريك رولو" التى تقدم
بجلاء الفارق بين مصر التى غادرها قبل ستة أشهر من ثورة 23 يوليو 1952.. ومصر التى
عاد ليراها عام 1963.. لتكتشف ما يروجه المزيفون من "خدم الملكية
والاستعمار" حول القاهرة التى كانت جميلة أيام الملك, وتم تشويهها فى زمن
ثورة 23 يوليو.. مع أن التشوة والأحياء العشوائية ظهرت وتكاثرت فى "زمن
السلام" مع نهاية السعبينات وما بعدها.. فالاقتصاد المصرى الذى كان يمسك به
بضع مئات من البشوات والأجانب – أكثرهم يهود – كان كله يخدم عدة أحياء يسكنها
أصحاب الثروة والنفوذ.. وغيرها من أنحاء وطن رسم لوحته بدقة "نجيب
محفوظ" فى رائعته "القاهرة الجديدة" التى تحولت فيما بعد إلى فيلم
سينمائى حمل عنوان "القاهرة 30"!! بل أن الذين يزيفون التاريخ لا
يحدثوننا عن أن مكان جامعة الدول العربية والفندق الذى يجاورها حتى مبنى ماسبيرو
كانت مقرا لمعسكر الانجليز.. وما بعدها جامعة الدول العربية كان حرم السفارة
البريطانية.. وكل المنطقة كانت على النيل مباشرة.. أى أنه لم يكن هناك كورنيش
النيل بصورته الحالية, والذى تم تنفيذه مطلع الستينات وقام عليه "عبد اللطيف
بغدادى" وألزم سفارة "لامبسون" أن تترك جزءا منها ليصبح جزءا من
الكورنيش وشارع يمتد من شبرا إلى حلوان مرورا بالمنطقة المحرمة على الشعب المصرى
فى زمن "الولد" الذى حكم مصر!!
إشارة "إريك رولو" إلى أن الشابات البائعات وقائدات
السيارات لا ترتدين الحجاب.. لأنه غادر مصر وجماعة الإخوان كانت فى ذروة نفوذها
وقتها.. وفرضها الدين الشكلى بالحجاب وغيره لا سيما على البسطاء.. وعاد والجماعة
فى أضعف حالاتها.. وملحوظته لم تكن ملحوظة دينية بقدر ماكانت رصدا لشكل مجتمع
بشاباته عما رآه قبل نفيه!!
يصمت التاريخ.. لكنه لا يموت
أعود ليوم 2 يناير عام 1941 وهو فى مذكرات "لامبسون"
يحمل صورة تكفى لأن تقول لك كيف كانت مصر فى الأربعينات.. إذ يقول: "فى
المساء كنت مدعوا لحضور حفل المنوعات الذى أقامه اتحاد المطربين الهواة الذين
شاركوا فى الترفيه عن القوات البريطانية فى مصر.. كان مستوى العرض جيد وفاق
التوقعات.. وقد حضر الملك فاروق والملكة نازلى والملكة فريدة, وكان ذلك ينم عن
مجاملة رقيقة منهم.. وأكثر من ذلك فقد علمت أن الملك قام بتأجيل رحلته إلى صعيد
مصر لكى يحضر هذا الحفل"!!
كان الملك يحرص على حضور حفلات الترفيه عن الجنود البريطانيين,
ويغير برنامجه السابق الإعداد له لكى يرضى عنه السفير الانجليزى فى القاهرة.. يؤكد
ذلك ما جاء فى مذكرات "لامبسون" عن يوم 6 اغسطس عام 1942.. ففى هذا
الوقت كان "ونستون تشرشل" رئيس وزراء بريطانيا يزور مصر, وقام بزيارة فى
هذا اليوم لقصر عابدين, والتقى مع الملك فاروق فى حديث ودى إستمر لمدة ساعة.. بعد
انتهاء الزيارة قال "تشرشل" للسفير: "هذا الصبى – الملك فاروق –
يميل إلى معالجة الأمور بسخرية وقحة وعدم اكتراث.. ولست واثقا من أن الصبى قد تم
تلقينه كل الدروس التى يتعين تلقينه إياها"!! وحدث ما يؤكد رأى رئيس وزراء
بريطانيا فى الملك "فاروق" بعدها بشهور.. إذا قام بزيارة أخرى للقاهرة
فى مطلع يناير عام 1943 لأن الحرب كانت فى ذروتها.. وكان عليه أن يجتمع مع قادة
جيوش بلاده فى مصر لاستعراض الموقف.. فإذا بطلب من الملك عن طريق "أحمد
حسنين" للقاء خاص مع "تشرشل" على أن يكون سريا.. وافق
"تشرشل" وحضر الملك.. يقول السفير فى مذكراته أن رئيس وزراء بلاده دعاه
لحضور جانب من الاجتماع, وخلاله: "تحدث تشرشل عن عادة ملك بريطانيا فى دعوته
لتناول الغذاء مرة أسبوعيا فى قصر باكنجهام.. عندئذ تجهم وجه الملك فاروق وبدا
عليه الحرج.. تدخلت واقترحت عليه أن يتبع نفس المنهج.. فرد قائلا أنه يمكن أن يفعل
ذلك إذا كان المدعو هو تشرشل.. لكن لسوء الحظ أن النحاس ليس تشرشل.. هنا رد رئيس
الوزراء بقوله أن النحاس رجل حاذق ومحنك.. فإذا بالملك ينهض متأهبا
للانصراف"!!
كان هذا هو سلوك "الولد" الذى حكم مصر 15 عاما.
هذا هو الملك الذى لا تتوقف آلات الدعاية له ولزمنه.. وتلك عقلية
الملك الذى يبكون عليه, بهجوم لم يتوقف لحظة لأكثر من نصف قرن على "جمال عبد
الناصر" وثورة 23 يوليو.. كل الحقائق يتم طمسها.. تزويرها.. ترويج عكسها..
آلاف الشائعات والأكاذيب يتم نشرها عن الزمن "الليبرالى" وأيام الملكية
الزاهرة.. تبلغ الجرأة بالكذابين القول بأن مصر بقيادة هذا "الولد" كانت
يمكن أن تكون مثل "اليابان" و"كوريا الجنوبية" فى القرن
الواحد والعشرين.. يحدثونك عن جمال مصر استنادا إلى بضع صور ولقطات سينمائية لبعض
شوارع القاهرة وقصورها, وشوارع الإسكندرية وقصورها.. أما باقى الوطن والفقر الذى
كان يسكنه, مع الجهل والمرض والتخلف وهو ثابت.. لا حديث عنه.. وذهب هؤلاء الكذابون
إلى عقد مقارنة بين "الولد" الذى مرمط كرامة مصر فى الوحل, بزعيم رفع
راياتها فى المعمورة اسمه "جمال عبد الناصر" والمؤسف أن تلك الحملات
تتجدد منذ رحيله دون توقف.. وصورة الزعيم تطاردهم مرفوعة بين أيدى أجيال لم تر
"عبد الناصر" لأن حملاتهم فشلت فى غسل أدمغتهم.. وذلك يجعل كشف الحقيقة
ضرورة حتمية وواجب وطنى.
يتبع
0 تعليقات