أحـمـد الــخـمـيــســي
عام 1967 تعرضت مصر لهزيمة عسكرية مؤلمة ظلت آثارها في نفوس كل من
عاشوا تلك اللحظة التي أنزلت الجميع من سماء الأحلام بالاشتراكية والوحدة والتحرر
الوطني إلى قاع من التشاؤم والحزن، وباقتراب عام 1972 لاحت في السماء مجددا نذر
التحرير وحرب أكتوبر التي مهدت لها حرب الاستنزاف وبفضلها حافظ للجيش المصري على
حيويته وكفاءته نتيجة التدريب الذي لم ينقطع. وعندما بدأت الاستعداد لحرب أكتوبر
تلقى مصنع الحديد والصلب بحلوان تعليمات متكتمة بصناعة آلاف العبوات المعدنية الصغيرة
لكي تحتوي على الأغذية المحفوظة، وكان مفهوما من دون تصريحات أو حديث مكشوف أن تلك
العبوات بهذه الكميات الضخمة ستكون مؤونة الجيش حين تدق ساعة القتال.
في ذلك الوقت راحت أجهزة المخابرات الدولية وفي مقدمتها الموساد الإسرائيلي
تنقب بكافة الوسائل ومن خلال كل العملاء عن أي معلومات تؤكد نية مصر خوض الحرب.
حينذاك كان مصنع الحديد والصلب قد بدأ في إنتاج تلك العبوات
المعدنية الصغيرة، وكان آلاف من العمال الذين عاشوا حينذاك يخمنون ويدركون تماما
أن ما يقومون به كل يوم أمام لهب الأفران جزء من تحرير مصر وجزء من معركتها، لكن
أحدا منهم لم يفتح فمه بكلمة ولم يبح بحرف حتى لزوجته أو أبنائه.
كان الآف العمال يتحركون
في صمت في صحراء حلوان، يسيل العرق على جباههم، منهمكين في تصنيع تلك العبوات
الصغيرة التي أطلق عليها " الإشارة والبشارة" ! كانوا يعملون في صمت بلا
توقف ويتنقلون بين العنابر ويهزون العلب الصغيرة بأياديهم لبعضهم البعض وفي عيونهم
يلمع الأمل أن مصر ستنتصر وستهزم العدوان.
ألاف من العمال، البسطاء، الأبطال، الذين لم تلتقط أي عدسة صورا
لوجوههم، ولا لحبات عرقهم، ولا لدقات قلوبهم المتسارعة وهم يشعرون ويفكرون
ويضطربون ويفرحون لأنهم يساهمون في تحرير مصر بعبوات معدنية صغيرة وهم يدركون
جميعا لمن ستذهب، ولماذا، فيتصل عملهم، ويستمر.
في ذلك الوقت تم تكليف كتيبة دفاع جوي تابعة للقوات المسلحة بحماية
المصنع و العمال الذين لم يسجل أحد أسماءهم، ولا شقت قصص حيواتهم طريقها إلى جهة،
ولا قام رسام بخلق لوحة للعرق والأمل على جباههم. ولم يكن العمال وحدهم رمز بطولة
عزيزة صامتة، بل كان إنشاء المصنع نفسه بطولة، تحكي قصة تحدى الاستعمار، وتحويل
مصر من بلد زراعي إلى بلد صناعي.
حدث ذلك حين أصدر جمال عبد الناصر والثورة مازالت في مطلعها
مرسوما بتأسيس شركة الحديد والصلب في 14 يونيو 1954 في منطقة التبين بحلوان كأول
مجمع متكامل لإنتاج الصلب في العالم العربي برأسمال قدره نحو مليوني جنيه موزعة
على أسهم يمتلكها الشعب، قيمة السهم جنيهان اثنان ويتم سداد المبلغ بالتقسيط على
عامين!
واندفع المصريون إلى شراء الأسهم وقد أدركوا أهمية أن يكون لمصر
إنتاجها من الحديد والصلب الذي تدخل منتجاته في كل تفاصيل حياتنا بدءا من الصباح
حين ننهض لغسل وجوهنا من مياه الصنبور الذي يستلزم وجود صناعة الحديد، وباب
الثلاجة التي نحفظ الطعام فيها، إلى الأتوبيسات وأعمدة النور في الشوارع وأيضا البنادق
والدبابات وكل ما أمد به العمال حرب أكتوبر من وسائل ضرورية للنصر. أدرك المصريون
ذلك فاندفعوا إلى شراء الأسهم لكي يخرجوا بمصر من دائرة الزراعة إلى التطور
الصناعي.
عند افتتاح المصنع بعد ذلك بأربع سنوات في 27 يوليو 1958 ألقى جمال
ناصر خطابا حدد فيه بدقة قصة المصنع قائلا : " أيها الأخوة .. إن إقامة صناعة
الحديد والصلب فى بلدنا كان دائماً الحلم الذى ننظر إليه منذ سنين طويلة ..
وكنا جميعاً نعلم أن الحديد الخام يوجد فى بلدنا، وأن الفراعنة
كانوا بيستعملوا هذا الحديد منذ الآف السنين، ولكنا كنا دائماً نجابه العقبات وكنا
دائماً نجابه الاعتراضات من السيطرة الخارجية ومن الاستعمار.. وطبعاً كانت هناك
أسباب خفية وكانت هناك أسباب تمنع إقامة هذه الصناعة فى بلدنا؛ لإن الهدف كان
إبقاؤنا دولة زراعية وعدم تمكينا من إقامة صناعة فى بلدنا". المصنع الذي
أمدنا في الحرب بالعبوات المعدنية الصغيرة لكي ننتصر هوالذي أمدنا وقت السلم
بالأوكسجين لكي نواجه وباء كرونا ونواصل الحياة. تبقى بطولة العمال، حتى لو توارت
بعيدا الوجوه التي لم نعرفها والأسماء التي لم ننطقها، فإن البطولة تبقى غالية ولو
كانت بلا اسم.
جريدة الدستور المصرية - السبت 23 يناير 2021
0 تعليقات