نصر القفاص
ظهرت متغيرات كثيرة أدت إلى تقارب بين الملك "فاروق"
وزعيم الوفد "مصطفى النحاس" كان أهمها إقدام "جماعة الإخوان"
على اغتيال "النقراشى".. شعر الملك فى تلك اللحظة أن
"الجماعة" هدفها الإطاحة به.. وكان يعلم أن "الوفد" هو القوة
الوحيدة القادرة على التصدى لهذا الطوفان.. فسياسة الحزم التى اتبعها
"النقراشى" انتهت إلى اغتياله فى مدخل وزارة الداخلية.. واستمرار المنهج
ذاته عبر "إبراهيم عبد الهادى" الذى ترأس الوزارة, وشهد اغتيال مرشد
الجماعة – حسن البنا – يمكن أن يصل بالأمور إلى انفجار.. وراجع "فاروق"
نفسه فوجد أن "الوفد" وزعيمه يحرصان على النظام الملكى.. كما وجد أن
شعبية "الوفد" هى ملاذه الآمن.. راجع نفسه فى ذلك طويلا.. تمهل كثيرا
حتى بعد إقالة وزارة "إبراهيم عبد الهادى" وتكليف "حسين سرى"
بتشكيل الوزارة.. وعندما وجد أن الأوضاع تزداد اضطرابا, وخطر "جماعة
الإخوان" مازال باقيا كالشبح يطارده.. قرر دعوة الشعب عبر وزارة
"سرى" لانتخاب برلمان جديد, حتى لو فاز "الوفد" وعاد
"النحاس" رئيسا للوزراء.
تم إجراء الانتخابات.. فاز "الوفد" كما كان متوقعا..
حاول الملك أن يقف دون ترأس "النحاس" للوزارة.. أراد استقطاب "فؤاد
سراج الدين" وفاتحه فى ذلك عبر وسطاء.. لكن "سراج الدين" كان أذكى
من أن يبلع هذا الطعم, وكان أقوى من أن يتآمر على زعيم "الوفد" الذى يثق
به دون حدود.. ولأن الأقوياء سياسيا لا يتآمرون, أضطر الملك إلى القبول بتكليف
"مصطفى النحاس" بتشكيل الوزارة.. وحملت الرياح ما تشتهيه السفن.. فقد كانت
فضيحة "أم الملك" وأخته تتفاعل!!
عندما عاد "مصطفى النحاس" رئيسا للوزراء قبل ثورة 23
يوليو – للمرة الأخيرة – كان يختلف عن "مصطفى النحاس" لحظة خلافته
للزعيم "سعد زغلول".. فهو من حيث المكانة كان مقدرا ومحبوبا من الشعب..
لكن المكانة تم شرخها فى صراعه مع "النقراشى" ورفاقه, والذى انتهى إلى
تشكيل الحزب "السعدى" وتعرضت المكانة لكسر يوم فرضه الانجليز رئيسا
للوزراء.. كما عرضتها أزمته مع "مكرم عبيد" ومؤيديه إلى اهتزاز عنيف,
خاصة وأنهم شكلوا "الكتلة الوفدية".. ورغم كل ذلك بقى "الوفد"
هو طوق النجاة الوحيد المتاح أمام الشعب.. وبديله كان خطيرا, وتمثله "جماعة
الإخوان" التى وجد فيها الانجليز ضالتهم.. فهى "الخنجر المسموم"
الذى هداهم تخطيطهم وتفكيرهم إليه.. وراحوا يلاعبون بهم كافة الفرقاء.. وأجاد
المستعمر اللعب بهم!!
عاد "مصطفى النحاس" رئيسا للوزراء فى وضع اجتماعى
مختلف.. فهو لم يعد الراهب فى محراب السياسة, بعد أن تزوج قبل بلوغه الخامسة
والخمسين من عمره.. وعاد فى حالة صحية تختلف كثيرا عن حالته فى شبابه, وخلال سنوات
توهجه وقدرته على المقاومة والعناد.. وبالتأكيد كانت لحظة عودته, فيها ملك مختلف
فى شكله ومضمونه عن ذلك الذى جلس على العرش صبيا قبل ثلاثة عشر عاما.. كانت قد جرت
فى النهر مياها كثيرة.. وأصبحت الصورة واضحة للنحاس وفاروق والانجليز.. كلهم كانوا
ينتظرون حدثا جللا.. كلهم لا يعرفون ما هو.. ولا متى يحدث!! وهنا يحكى "كريم
ثابت" ليقول حكاية توضح ذلك: "تجمعت أمام الملك نتائج الانتخابات
الأخيرة فى عهده.. كانت أمامه كئوس من عهد نابليون الأول, يعرضها عليه تاجر لكى
يشتريها.. ويحمل كل كأس التاج وحرف نون بالإنجليزية.. قلت للملك هذا أول حرف من
اسم نابليون.. فإذا به يرد غاضبا.. لأ يا سيدى.. دى تعنى نحاس"!
شكل "مصطفى النحاس" الوزارة بعد مناورات من جانب الملك..
إنفجرت أزمة عقد شقيقته الأميرة "فتحية" قرانها على "رياض
غالى" وكانت أمه تبارك هذا الزواج.. طار صوابه.. إستدعانى الملك
"فاروق" إلى مكتبه.. هكذا يروى "كريم ثابت" ويقول:
"كلفنى أن أزور النحاس, وأن أقص عليه قصة رياض غالى بأكملها.. طلب منى أن
أوضح له تاريخ علاقته بأمه ثم أخته من ألفها إلى ياءها!! وأن أؤكد له أنه لن يسلم
بهذا الزواج مطلقا.. وأنه سيسعى لإفساده بكل وسيلة, سواء أشهر رياض غالى إسلامه أو
لم يشهره.. لأن اختلاف الدين ليس هو الحائل الوحيد دون الزواج فى نظره.. المهم أن
تفهم الملكة نازلى أن موقف الملك والوزارة واحد, وأن الحكومة متضامنة مع الملك
وتشاطره استنكاره واستهجانه"!!
يضيف "كريم ثابت" فى مذكراته قائلا: "اتصلت
بالنحاس.. اتفقت معه على زيارته بمنزله فى جاردن سيتى, بعد أن ينتهى من لقاءاته
لنتحدث بهدوء فى موضوع عائلى يخص جلالة الملك.. إستقبلنى رئيس الوزراء فى حجرة
صغيرة ملاصقة لغرفة نومه.. ولما انتهيت من الجزء الأول من حديثى.. قال لى النحاس:
كان الله فى عونه.. مصائبه العائلية تدك جبال!! ثم انتقلت إلى ما يطلبه الملك..
أنهيت كلامى لأسمع منه قوله: أرجو أن تؤكد له أن عواطفى كلها معه.. وأننى أشعر
بآلامه ومصائبه كأنها آلامى ومصائبى.. وأننى أؤيده فى موقفه تمام التأييد, وأعده
ببذل كل ما فى استطاعتى لتحقيق رغبته.. ونهض إلى التليفون.. طلب الاتصال بالملكة
نازلى فى سان فرانسيسكو.. عدنا للحديث إنتظارا للمكالمة.. قيل له بعد ساعة جلالة
الملكة نازلى على الخط.. إستغرقت المكالمة نحو ربع ساعة.. كان النحاس ناعما ولطيفا
فى بدايتها, فذكر جلالتها بصداقتهما وما يكنه لها من تقدير واحترام.. إستفسر عن
صحة الأميرتين فايقة – تزوجت أيضا فى أمريكا من فؤاد صادق – وفتحية التى سألها عن
حكاية زواجها, فأكدت له الأمر وأخبرته أن القران سيعقد بعد يومين.. فقال لها أنه
لم يصدق أنها وافقت على هذا الزواج لأمور لا تخفى على فطنتها.. ردت عليه بأن رياض
غالى أسلم.. فقال النحاس هذا النوع من الإسلام غير مقبول, فضلا عن أن الدين ليس
العقبة الوحيدة.. جاء رد الملكة بأنها تضع سعادة ابنتها فوق كل الاعتبارات.. أجاب
النحاس بأن هذا الزواج يسىء إلى مركز الأسرة المالكة بشكل عام, ولجلالة الملك بشكل
خاص.. فجاء ردها بأنها تتمسك بسعادة ابنتها, وقالت: فاروق لم يسأل عنى وأهملنى..
وقصر فى حقى وحق شقيقاته.. هنا احتد النحاس قائلا: الحكومة والشعب يؤيدان الملك..
وبعد جدل.. وافقت على تأجيل عقد القران ثلاثة أيام على أن يتصل بها مرة أخرى قبل
انتهاء المهلة.. وغادرت بعدها بيت النحاس فى الثانية صباحا – قبل الفجر"..
كانت المهلة لفتح باب التفاوض بين الملك وأمه وشقيقاته.. ويصفها "كريم
ثابت" فى مذكراته بقوله:
"إنقضت الأيام الثلاثة فى مقابلات واتصالات.. شارك فيها حسن
يوسف رئيس الديوان الملكى بالنيابة, وكامل عبد الرحيم سفير مصر فى واشنطن..
واتصالات بين قنصل مصر فى سان فرانسيسكو والملكة نازلى.. برقيات بالشفرة بين
السفارة والديوان الملكى.. مقابلات بين حسن يوسف وسفير أمريكا فى مصر, واتصالات مع
الخارجية الأمريكية.. إجتماعات مستمرة فى جناح الملك.. كل ليلة كنت ألتقى النحاس
فى ساعة متأخرة من الليل للتداول.. مرت الأيام الثلاثة دون نتيجة.. إتصل النحاس
بالملكة نازلى.. سألته: هل اقتنع فاروق؟! أجابها: كنت أنتظر إقناعك بوجهة نظرنا.. فردت
أنها لم تقتنع بشىء, وأنها مصممة على إتمام الزواج.. رد عليها: بصفتى صديق ورئيس
للحكومة يؤسفنى موقفك.. وفى هذه الحالة سيضطر جلالة الملك إلى اتخاذ إجراءات صارمة
نحوك ونحو فتحية.. والحكومة تؤيده والشعب كله ورائه.. وأنهى النحاس المكالمة".
كان هذا الحدث وموقف "النحاس" خلاله سببا فى تغير جذرى
من جانب الملك تجاهه.. وشكره من أعماق قلبه واعتبره صديقه.. وعبر عن ذلك عمليا
وأمام كبار رجال الدولة والصحافة يوم 26 ابريل, اليوم الذى يحتفى فيه بذكرى وفاة
والده.. كان الملك يعتاد زيارة الضريح فى مسجد الرفاعى.. كان مقررا أن يغادر
المسجد إلى القلعة لافتتاح "مبرة" – مستشفى – فؤاد الأول, ويصحبه فى
السيارة الملكية الفريق "عمر فتحى" كبير الياوران.. فإذا به بعد انتهاء
زيارة الضريح, يأمر بدعوة "النحاس" ليصحبه فى السيارة إلى القلعة.. كان
النحاس والوزراء قد انصرفوا, ليصلوا إلى المبرة قبل وصول جلالته ليكونوا فى
استقباله.. أسرع أحد الضباط ولحق رئيس الوزراء وأبلغه بالعودة للقاء جلالة الملك..
وصل النحاس ليستقبله الملك بحرارة شديدة وواضحة.. أجلسه إلى جواره وراحا يتحدثان
همسا لوقت طويل.. ثم استقل الملك السيارة الملكية ومعه "النحاس" لأول
مرة.. لتصدر الصحف بالصور وتكتب عن "اللفتة الملكية" وعن "العطف
السامى" الذى شمل به جلالة الملك رئيس الوزراء.. وكان هذا المشهد سببا فى
ارتباك حسابات معارضى النحاس!!
يحكى "كريم ثابت" فيقول: "عند الضريح نفسه.. كان
فاروق قد وقف ليقول لوالده أنه طرد النحاس من الحكم.. وقام بهذه الزيارة ليعبر عن
ارتياحه أمام قبر والده يوم 6 اكتوبر عام 1944.. لكنه يوم 26 أبريل عام 1950 غادر
الضريح مصطحبا النحاس فى سيارته.. وحرص على تكليفى بزيارة النحاس لاستطلاع رأيه
فيما فعله معه.. قمت بزيارة رئيس الوزراء مساء اليوم نفسه.. شاهدنى كل من كانوا فى
البيت, وكانت السعادة تكسو الوجوه.. واستقبلنى النحاس وحدثنى عن سروره وانشراحه
لدرجة أنه تغدى بفرخة كاملة!! فعبر الملك عن قلقه لذلك, لأن فرخة كثير فى هذا
السن.. وتمنى أن تكون الفرخة مسلوقة وليست محمرة"!!
إترك مذكرات "كريم ثابت" صديق الملك ومستشاره والوزير فى
آخر وزارات زمنه.. دعك من مذكرات "لامبسون" السفير والمندوب السامى
البريطانى.. لا تصدق رواية وشهادة "سيد مرعى" فى مذكراته.. يمكنك أن
تشكك فى الوثائق البريطانية.. كل ما عليك هو أن تجهد نفسك وتقرأ صحف هذا الزمان..
لن أدعوك لقراءة مئات الدراسات التاريخية ورسائل الماجستير والدكتوراه عن مصر فى
العشرينات والثلاثينات والأربعينات.. لتعرف سر تزوير التاريخ وقلب الحقائق.. وكل
ذلك يحدث أملا فى النيل من أعظم زعماء القرن العشرين, وأهم أحداث هذا القرن – ثورة
23 يوليو – ولعلى أحاول فقط أن أفتح معك أبواب الحقيقة.. ومازال خلفها الكثير..
يتبع
0 تعليقات