نصر القفاص
جلس "فاروق" على عرش مصر "ملكا" وفى داخله
كراهية شديدة تجاه زعيم الأمة "مصطفى النحاس" وتعمقت كراهيته له.. تحولت
إلى جرح يصعب أن يندمل يوم إهانته من "لامبسون" وإجباره له على تكليف
"النحاس" بتشكيل الوزارة.. إستمر يتحين الفرص حتى أطاح بحكومة
"الوفد" فى لحظة كان "لامبسون" خارج مصر, حيث يقضى أجازة
بجنوب إفريقيا.. وكانت سعادته طاغية بالشرخ الجديد الذى أصاب "الوفد"
حين اصطدم "مكرم عبيد" ومجموعة من "الوفد" مع الزعيم
"مصطفى النحاس" واحتفى حفاوة شديدة بصدور "الكتاب الأسود"
الذى تناول وقائع فساد.. كان الملك يتمنى أن تتم محاكمة "النحاس" لكنه
تراجع حين نصحه "أحمد ماهر" وكان قد أصبحح رئيسا للوزراء بأن هذا أمر
شديد الخطورة.. لأنه لو تمت تبرئة "النحاس" فهذا سيسقط الوزارة ويهدم
العرش نفسه!!
صدر "الكتاب الأسود" كمنشور سرى, وقت أن كانت وزارة
"الوفد" برئاسة "النحاس" على مقاعد الحكم.. كانت الرقابة
مفروضة على الصحافة ودور النشر والمطابع, لأن الوزارة أعلنت الأحكام العرفية لظروف
الحرب العالمية الثانية.. كان الناس يتداولون هذا الكتاب سرا.. خلال هذه الفترة
كانت الكراهية "للنحاس" من جانب "فاروق" قائمة وعميقة.. فكان
يحرص على أن تصله صفحات هذا الكتاب أولا بأول, بمجرد طباعتها.. كان يحمل هذه
الأوراق فى جيوبه, قبل خروجه للسهر ولقاء أصدقائه.. ما إن يلتقى بهم حتى يسألهم
إذا كانوا قرأوا الجديد من "الكتاب الأسود" وحين يبلغوه أنه لم يصلهم..
يخرج ما لديه من صفحات ويطلب منهم الاستمتاع بالقراءة!!
يقول "كريم ثابت" صديق الملك ومستشاره فى مذكراته:
"كان فاروق أول ملك دستورى فى العالم يشارك فى توزيع منشورات سرية ضد
حكومته!! لم يكتف بذلك.. بل أمر عدد من مترجمى الديوان الملكى بترجمة – الكتاب
الأسود- إلى الإنجليزية والفرنسية, ليضع الترجمة بين يدى من يريدهم من اللذين لا
يقرأون بغير هذه اللغات"!!
يكشف "كريم ثابت" عن أن سلوك "فاروق" فى
علاقته مع الوزارات, كان موروثا عن سلوك والده – الملك فؤاد – فقد حدث أن توفى
"سعد زغلول" وقت أن كان "عبد الخالق ثروت" يترأس الوزارة..
وكان منخرطا فى التفاوض مع الانجليز, أملا فى توقيع معاهدة تربط مصر ببريطانيا..
لما انتهت مفاوضات "ثروت" مع "تشمبرلين" وزير خارجية بريطانيا
عرض ما توصل إليه على ملك البلاد.. ولأن الملك "فؤاد" يكره "عبد
الخالق ثروت" فقد تمسك بموافقة "الوفد" وزعيمه الجديد "مصطفى
النحاس" اللذان رفضا ما توصل إليه "ثروت" شكلا وموضوعا.. أسعد ذلك الملك
"فؤاد" كثيرا.. بعدها قام جلالته بزيارة لمستشفى الأمراض الصدرية
بحلوان.. شهد الزيارة رئيس البرلمان – النحاس – وكبار رجال القصر والوزراء..
بانتهاء الزيارة طلب "فؤاد" أن يكون "النحاس" إلى جواره..
خلال هبوطه درجات سلم المستشفى لكى يستقل سيارته.. تعمد وضع يده على كتف
"النحاس" وراح يحادثه همسا!! كان المشهد لافتا لجميع من حضروا, وللصحف
التى كتبت وصفا تفصيليا للمشهد.. خاصة وأن جلالته تجاهل "عبد الخالق
ثروت" تجاهلا تاما.. فى اليوم التالى قدم "ثروت" استقالة وزارته.
يذكر "كريم ثابت": "ذهبت للقاء ثروت بحكم عملى
الصحفى – رئيس تحرير جريدة المقطم – وسألته فى مكتبه.. لماذا عجلت بالاستقالة؟!
فقال لى: ألم تلحظ ما حدث فى مصحة حلوان.. وكيف عانق الملك النحاس باشا.. هنا
سألته: هل ذلك يعنى أن تستقيل دولتك؟ّ! أجابنى: بلغة السرايات – القصور الملكية –
نعم!! فقلت له: وإذا تظاهرت بعدم الاكتراث ولم تقدم استقالتك.. أجابنى: سأضطر أن أبقى
بتأييد الانجليز.. وهذا ما أرفضه ولا أقبله إطلاقا"!!
تم تكليف "مصطفى النحاس" بتشكيل الوزارة بعد رحيل
"ثروت".. لكن وزارته لم تستمر طويلا لأن "النحاس" اصطدم
بالمندوب السامى البريطانى "جورج لويد", بسبب قانون الاجتماعات الذى كان
يناقشه البرلمان بأغلبيته الوفدية.. تطورت الأزمة لرفض "النحاس" أن يفرض
عليه المندوب السامى كلمته.. فذهب الملك "فؤاد" إلى اتفاق مع
"لويد" بإقالة الوزارة, وتم تكليف "محمد محمود" بتأليف وزارة
جديدة.. ولم تمض سوى شهور قليلة, حتى سافر الملك فى رحلة أوروبية طويلة.. تمسك
"محمد محمود" أن يفوضه الملك ليكون قائمقام الملك – نائب الملك – وأصر
"فؤاد" على الرفض, وحين أراد الانجليز الضغط عليه لوجوده خارج البلاد..
قطع زيارته وقال: "أترك العرش أفضل من أن أترك محمد محمود نائبا
للملك".. ثم أقال الوزارة وكلف "عدلى يكن" بتشكيل وزارة جديدة تشرف
على إجراء انتخابات جديدة.. حدث ذلك وفاز "الوفد" بالأغلبية, فتم تكليف
"النحاس" بتشكيل وزارة, لم تستمر سوى شهور.. تمت إقالة وزارة
"الوفد" وتكليف "إسماعيل صدقى" بتشكيل الوزارة!!
لعل هذا العرض السريع لتشكيل الوزارات وإقالتها فى زمن الملك
"فؤاد" سببه الإشارة إلى أن "فاروق" سار على النهج ذاته.. كما
أن "فاروق" حكم بالدستور "غير المكتوب" الذى يقضى بأن الملك
هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة بعد إذن المندوب السامى!! بل أن "فاروق"
ذهب إلى انتقاد "عبد السلام فهمى" وقت أن كان رئيسا لمجلس النواب لظهور
صور له فى الصحف.. وانتقد "فؤاد سراج الدين" لظهور صور له وهو يضع
السيجار فى فمه!!
الوقائع الطريفة لنظام الحكم فى العشرينات والثلاثينات والأربعينات
كثيرة.. هى فى الحقيقة كارثية وتشير إلى, كيف أن من أمسكوا بدفة الحكم كانوا
يمارسون عبثا ولهوا بمقدرات شعب وأمة.. كان كل ذلك يحدث برعاية "ديمقراطية"
تلغى إرادة الشعب, وتقيل وزارة الأغلبية وتعين وزارات أقلية معظم الوقت.. حتى
دستور 1923 جرؤ "إسماعيل صدقى" على شطبه وكتابة دستور جديد – دستور 1930
– ليكون "ليبراليا" على مزاج جلالة الملك!!
حين تمت إقالة وزارة "النحاس" التى تشكلت بإرادة
الأغلبية.. أراد الملك "فؤاد" تكليف "إسماعيل صدقى" وكان
"توفيق نسيم" رئيس ديوانه الملكى يشير عليه بإعادة "محمد
محمود" فعرض الملك "فؤاد" حلا مرضيا.. أن يتم إجراء قرعة على
الإسمين, وقال لرئيس الديوان سألجأ لذلك حتى يكون هناك انسجام بينك وبين رئيس
الوزراء الجديد! ونادى جلالته على حاجبه الخاص, وطلب منه "أم عشرة"
معدنية – عشرة قروش – وسأل "توفيق نسيم": "تختار الملك أم
النقشة؟" - يقصد الكتابة – فأجاب "نسيم": "أختار الملك
طبعا" – فى الزمن الديمقراطى كانوا يسمون هذا النفاق ديمقراطية – فقال الملك:
"إذا القينا العملة وجاءت صورة الملك نكلف اسماعيل صدقى.. ولو جاءت النقشة
نعيد محمد محمود"!.. ألقى الملك العملة فى الهواء, وبمجرد أن سقطت على المكتب
إلتقطها بسرعة, وقال وهو يقهقه ضاحكا: "الملك.. يبقى التكليف من نصيب اسماعيل
صدقى"!!
إحتفظ "توفيق نسيم" بهذه الحكاية لتكون سرا, حتى حكاها
وأذاعها على أصدقائه فى سهرات وبين جدران نادى السيارات.. إلتقطتها الصحف ونشرتها
نفاقا للملك الجديد – فاروق – بعد ان جلس على العرش!! والحقيقة أن
"فاروق" لم يرث عن والده – فؤاد – العرش وكرسى الحكم فقط.. بل ورث كذلك
السطحية والتردد والعبث بمقدرات البلاد ومصير الشعب..فهو كانت تسعده الخلافات بين
الساسة. وكان يفرح إذا نجح فى إحداث الوقيعة بينهم.. فعندما كلف "محمود فهمى
النقراشى" برئاسة الوزارة للمرة الثانية.. كان يعلم أن "إبراهيم عبد
الهادى" مقربا جدا إليه.. فقرر أن يفاجئه بتعيين "عبد الهادى"
رئيسا للديوان الملكى, وجعل الأمر يبدو كما لو كان "عبد الهادى" قد وصل
لهذا الموقع من خلف ظهر "النقراشى" وذلك أشعل الخلاف بين الطرفين.. وحين
علم "فاروق" أن ما يريده تحقق.. كان فى منتهى السعادة.. فهذا معناه أن
"النقراشى" المعروف بشخصيته العنيدة, لن يقبل ما يصله من الملك عبر
"عبد الهادى".. وقد حدث ذلك!! وجاءت واقعة كادت تؤدى إلى إقالة وزارة
"النقراشى".. ففى صيف عام 1947.. أراد "النقراشى" عقد جلسة
لمجلس الوزراء فى الإسكندرية.. لكن التقاليد كانت تمنع عقد جلسات مجلس الوزراء فى
الإسكندرية, إذا كان البلاط الملكى لم ينتقل إلى هناك خلال فصل الصيف.. وعندما علم
الملك بذلك, كلف "إبراهيم عبد الهادى" رئيس الديوان بأن يتصل برئيس
الوزراء ويلفت نظره إلى التقاليد الملكية!! فإذا بالنقراشى يتمسك برأيه ويرفض
إلغاء عقد اجتماع مجلس الوزراء بالإسكندرية.. علم الملك بذلك من "إبراهيم عبد
الهادى" فغضب بشدة.. وهنا يحكى "كريم ثابت" فيقول: "إستدعانى
الملك وطلب منى أن أذهب إلى النقراشى, وأبلغه بأنه إما العدول عن عقد جلسة مجلس
الوزراء فى الإسكندرية.. أو إقالة الوزارة ما لم يتقدم هو باستقالته.. وطلب منى
الملك أن يكون فى صحبتى الفريق محمد حيدر لكى يقدر جدية الموضوع.. واتصل فى الوقت
نفسه وطلب من الديوان أن يستعد لإجراءات تغيير الوزارة.. ذهبنا فعلا إلى النقراشى
فى بيته ودار حوار لطيف, أوضحنا له فيه أن جلالته زعلان بسبب دعوته لعقد مجلس
الوزراء فى الإسكندرية.. فأجاب الرجل بأنه لا يريد أن يزعل جلالة الملك.. سألغى
الاجتماع وأعقده بالقاهرة فيما بعد.. وعدت لأبلغ جلالته بما حدث, فانفرجت
أساريره.. وسألنى: هيقول إيه للوزراء؟ قلت له: أنه أبلغنا أنه سيقول لهم أنه مشغول
باجتماع سرى مع خبراء عسكريين أجانب!!
ضحك الملك وقال: مش قادر أفهم إزاى إبراهيم عبد الهادى ماقدرش
يتفاهم معاه على الموضوع دة!! والمدهش أن فاروق تعمد بعدها عدم مقابلة رئيس
الديوان, وكان يكلفه بما يريد عبر الشماشرجية لدرجة أنه – عبد الهادى – قال لى: هو
الملك ما بيقابلنيش ليه.. هو أنا زنجى وللا إيه؟!"
تلك كانت عقلية نظام الحكم قبل ثورة 23 يوليو.. فى العشرينات
والثلاثينات والأربعينات.. فهل تصدق أن هذا نظام يمكن أن نبكى عليه أو نتفاخر بما
أنجزه؟! فهذا النظام الذى يقولون أن مصر فى زمنه كانت عظيمة, وتراجعت بعد ذلك..
عاش الشعب المصرى خلال سنواته الطويلة فقيرا.. جائعا.. مريضا.. جاهلا.. يبحث عمن
يوفر له ما يلبسه فى قدميه!! وكان "مكافحة الحفاء" مشروعا قوميا لوزارات
هذا الزمان المتعاقبة!! كانت المسافة بين الغنى الفاحش لنفر قليل, والفقر المدقع
للأغلبية الساحقة مثار دهشة ومناقشة بين رئيس وزراء بريطانيا "تشرشل"
وملك مصر "فاروق" كما ذكر المندوب السامى البريطانى – لامبسون – فى
مذكراته.. لكن التزوير العشوائى والسرى للتاريخ, إنقلب إلى تزوير رسمى وممنهج..
وهنا يصبح الصمت خيانة!!
يتبع
0 تعليقات