نصر القفاص
عاش الملك "فاروق" حالة فزع بعد اغتيال "محمود فهمى
النقراشى" لاعتقاده أن رصاص جماعة "الإخوان" يمكن أن يطوله.. خاف
من أن تشعل تلك الجماعة التى نافقته كثيرا ثورة فى البلاد.. عرفت كلمة الثورة
طريقها إلى تفكيره, وكانت تجرى على لسانه فى مناسبات عديدة.. لم يعد خطر الشيوعية
هاجسه, رغم قناعته بأن الشيوعية تجهز البلاد لثورة.. أصبحت جماعة
"الإخوان" و"الشيوعيين" هما الشبح الذى يطارد خياله.
يتذكر "كريم ثابت" فى مذكراته أن "فاروق"
إستقبل الملك "فيكتور عمانويل" ملك إيطاليا الأسبق والملكة "هيلانة"
حين طلبا اللجوء إلى مصر.. ويقول: "كنا عائدين من ميناء قصر رأس التين..
حدثته عن إعجابى بمقابلته الكريمة لهما.. فقال أن والده لو كان حيا لفعل ذلك.. ثم
أضاف: علشان ربنا يكرم الواحد لو حكمت عليه الظروف بأن يرحل عن عرشه!!.. قلت: لا
قدر الله يا فندم.. فقال: وأنا أقول معك لا قدر الله.. لكن كل شىء فى هذه الدنيا
محتمل.. ثم عاد وردد أمامى المعنى نفسه حين قال بعدها بأيام: نحن فى زمان لا أمان
له.. اليوم أنا ملك.. ولكن غدا من يدرى"!!
كان عام 1948, عاما فاصلا فى حياته.. أعلن طلاقه من الملكة
"فريدة" واكتشف بعدها أن لها مكانة رفيعة عند الشعب.. ثم اغتيال
"النقراشى" وشهد العام نفسه انكسار الجيش فى حرب فلسطين.. لذلك كان
يتحدث كثيرا عن الرحيل.. وفى نهاية العام كان المطران "مدور" عائدا من
أوروبا.. إلتقى الملك وتحدثا فى شئون شتى.. رجاه المطران أن يشمل الأقلية ببعض
عطفه ورعايته.. فوجئ بأن "فاروق" يقول له: "سيادتك بتقول أنكم
أقلية.. ما تعرفش إن فيه أقلية عنكم.. لم يفهم المطران قصده, فسأله: أى أقلية
جلالتك؟.. فقال فاروق: أقليتنا نحن.. نحن الملوك.. فالملوك هم الأقلية الحقيقية فى
هذا الزمان"!!
يقول "كريم ثابت" أنه تحدث معه حول تكرار كلمة
"ثورة" وتكرار كلمة "الرحيل" فى لحظة وجده مستعدا لأن يسمعه:
"قلت له ألا ترى جلالتكم أنه من الأفضل أن تترك الأسباب التى يبنى عليها خصوم
العرش دعايتهم.. يمكنكم تجنب الأماكن العامة والسهر, والمظاهر التى تخلق تأويلات..
فأجابنى: لست مستعدا للتضحية بحريتى الشخصية لأخرس خصومى.. فى اليوم الذى تقول فيه
البلاد أنها تعبت منى, لن أتردد فى أن أريح وأستريح.. وفى مناسبة أخرى حدثنى
قائلا: أشعر بأن عهدى قارب على نهايته.. وسأكون آخر ملوك مصر.. سأقضى بقية حياتى
فى المنفى كما إسماعيل باشا"!!
خرج كلام الملك من الدوائر الضيقة إلى العلنية.. كانت الوزارة
مدعوة على مائدته فى قصر القبة.. المأدبة حضرها الوزراء وكبار رجال القصر.. قبل أن
ينتهى اللقاء, فوجئ الحضور بجلالته يقول: "أريد أن أحدثكم فى موضوع سلام
الدولة.. فهذا السلام يجب أن نسميه السلام الوطنى.. لأنه سلام الدولة.. وليس سلام
الملك.. ثم أضاف: مصر اليوم بلاد ملكية, لكنها قد تصبح غدا جمهورية.. لذلك أرى من
الأفضل أن يكون سلامها هو السلام الوطنى".. ثم التفت إلى الفريق "عمر
فتحى" كبير الياوران وقال له: "تبقى يا عمر تعمل من بكرة الترتيبات
اللازمة لإجراء هذا التغيير فى إسم السلام ليصبح السلام الوطنى.. بدلا من السلام
الملكى".. إجابة الفريق عمر: "حاضر يا فندم".. ووقف الملك وقال
لضيوفه: "إنشاء الله أراكم على خير".
يقول "كريم ثابت" عن الواقعة: "إستدعانى الملك فى
جناحه الخاص.. لما دخلت بادرنى بقوله: فاتنى أن أنبه عليك بأن تنشر الصحف أننا غيرنا
اسم السلام.. فسألت: وهل أذكر الأسباب التى قلتها يا مولاى.. فقال: الحقيقة أننى
لاحظت أن كثيرين أصبحوا لا يقفون عند عزف السلام, ويمشون ويتكلمون خلال عزفه..
فإذا كانوا لا يحبون السلام الملكى, فعليهم احترام سلام الدولة!! ثم أضاف: إسمع يا
كريم.. البلد دى ماشية نحو الجمهورية بخطوات واسعة.. فإذا كانت الحالة دى عاجبة
الحكومة.. أهلا وسهلا.. أنا ما عنديش مانع.. أنا ماعنديش مانع أسيبها النهاردة..
بس يقولوا لى أنهم لقوا اللى يحكمها وأنا ألم عزالى وارحل"!!
كان "فاروق" يعلم أن النهاية تقترب.. فكان أول ملك فى
التاريخ يلغى السلام الملكى.. وصل إلى هذه النتيجة حين اكتشف أن عودة
"الوفد" للحكم لم تحسن صورته عند الشعب.. إتجه إلى التفكير فى نفسه..
قرر أن يتزوج واختار "ناريمان".. تم إعلان الخطبة رسميا يوم 11 فبراير..
عقد قرانه يوم 6 مايو – عيد جلوسه على العرش – وترك البلاد تغلى وسافر لقضاء شهر
العسل!! إنشغل بتحويل الأموال إلى بنوك أوروبا بصورة لافتة.. إهتم بإنشاء مطار
أنشاص لاستخدامه فى حالة الطوارىء.. وكان يردد.. الواحد لازم يحسب حساب كل حاجة
ويحتاط للمفاجآت!!
جاء شهر يناير من عام 1952.. كان الضباط قد اعلنوا التحدى فى آخر
أيام السنة السابقة.. ويوم 16 يناير كان مولد "ولى العهد" ولاحظ
"فاروق" أن الشعب استقبل الحدث بفتور, فساحة عابدين لم تزدحم
بالجماهير.. غضب من "فؤاد سراج الدين" لفشله فى إثارة حماسة الناس
وطوائف الشعب.. ودارت عجلة الأحداث بسرعة رهيبة.. يوم 26 يناير كان القصر يستقبل
عددا من ضباط الجيش والبوليس, إحتفالا بمولد ولى العهد.. كانت القاهرة تحترق, بعد
ساعات من اضطرابات واضحة فى البلاد.
تحكى "ناهد رشاد" وصيفة الملكة, فتقول: "لما تفاقمت
الحالة فى القاهرة.. قلق الملك ثم بدأ يخاف حتى ظهر مذعورا! أمر بنقل ولى العهد
سرا إلى قصر القبة حرصا على سلامته, ولتسهيل تهريبه إذا ما تصاعدت الأحداث أكثر..
كانت بناته فى القبة – أيضا – أمر فاروق بإعداد حقائبه وحقائب زوجته ناريمان
وبناته, ليكون كل شىء جاهز للهرب والرحيل إذا تحولت الفتنة – كما وصفها – إلى
ثورة.. سهر فاروق وناريمان طوال الليل, حتى هدأت الأمور.. ولما تأكد من استقرار
الأوضاع قرر الاحتفال بعيد ميلاده بحفلتين أقامهما فى يوم واحد.. حفلا فى النهار
وآخر فى الليل"!!
إنتقل الملك إلى الإسكندرية بعد أيام من احتفاله بعيد جلوسه على
العرش.. غادر القاهرة لآخر مرة.. ففى فجر 23 يولوي أبلغوه بأن الجيش تحرك, قبل أن
يعلن "نجيب الهلالى" تشكيل وزارته.. سبقتها وزارة "إسماعيل
سرى" لمدة شهر تقريبا.. وقبلها كان "نجيب الهلالى" هو رئيس
الوزراء.. والبلاد بدت كما لو كانت سفينة فى عرض بحر شديد الاضطراب.. ولعل هذه
المشاهد تفسر سر قبول "فاروق" بالرحيل.. بل استعداده لذلك قبلها
بسنوات.. حتى لا يخدعك المزورون, ويقولون أن الملك حقن الدماء ووافق على النزول عن
العرش.
الحقيقة.. أنه كان "ولد مذعور" كما وصفه
"لامبسون" يوم 4 فبراير.
الحقيقة.. أنه كان فاسدا.. ماجنا.. سطحيا.. ساذجا.. راح يلعب
بالبلاد ويلهو بالساسة لسنوات.
الحقيقة.. أن جلالته إنتظر الثورة طويلا.. كان يعلم أنها قادمة لا
ريب فيها.
الحقيقة.. أن الجيش تحرك ووصف تحركه بأنه الحركة "المباركة"
الحقيقة.. أن "سيد قطب" أول من كتب رافضا وصف
"الحركة المباركة.
الحقيقة.. أن "طه حسين" هو الذى طالب بإطلاق وصف
"ثورة 23 يوليو" على تحرك الجيش بعد إعلانه قانون الإصلاح الزراعى
الحقيقة.. أن "جمال عبد الناصر" كان هو القائد الحقيقى
للحركة المباركة – الثورة – وأنه زعيمها.. وأن "محمد نجيب" كان مجرد
واجهة, وذلك تكشفه مذكراته التى كتبها بقلمه وتم الترويج لها – ومازال – على نطاق
واسع..
تمت
0 تعليقات