د/ آلاء ياسين الجواهري
مقدمة البحث
نما عالم الإسلام في مرحلة عولمة الدین بنمط عشوائي، وبعد مناقشات
عدیدة بین العلمانیین وأهل الدیانة، وصل الجمیع إلی حلٍّ وسط، وهو أن یَفصلوا بین
أنواع العلوم ویتکلَّموا عن کل نوعٍ منها علی حِدَه ویستندون بأصوله، لیّبینوا مدی
تلائمها أو صراعها مع الدین.
في هذا المجال قراءة آراء علماء الإسلام ومفکريهم من أهم المواضیع
التي لابّد منه، ومن أعظم المراکز والجامعات التي بدأت بمناقشة الموضوع، هي جامعة
الأزهر الشریف، ومن بین قادة الفکر المعاصر وروّادهم، اخترنا الشیخ الدکتور علي
جمعة، العالم بمکانة العلم والدین في عصرنا الراهن وبما یجري علیها من جهة، واهتمامه
في بیان توافق العلم والدین بأدلة عقلیة وعلمیة من جهة أخری، فیری الشیخ أن العلوم
علی الإطلاق والدین مرتبطة لا اختلاف عليها، فهي إما من کتاب الله المکتوب أو من
کتابه المنظور، مع اعتقاده باختلاف الإیدیولوجي بین علماء الدین و الحداثیین.
لکن الدكتور علي جمعة یری وئاماً بین العلوم و الدین، ویقول بأنه
لایوجد تعارض بینهما سوی سوء فهم القارئ أو المخاطب وسوء فهم المعنی المراد من
الألفاظ، ففي العلوم المستخرجة من القرآن أعني(العلوم الإنسانیة)، یُعطي الأستاذ
جمعة الأصالة للقرآن ویعتقد بأنَّه لابد من الإلتزام بما لدینا وتصحیح العلوم
الوافدة حسب مصادرنا وثقافتنا، وفي العلوم التجریبیة (Science)، فیری أن هذا التعبیر، مصطلح مُصطَنع بعد
القرن التاسع عشر، ورویداً رویداً لقت مکانتها وأصبحت جزءاً من العلوم المعرفیة
التي أکّد القرآن والسنة علی تعلُّمه والتأمل فیه، فهذه الکلمة و بمفهومه الأخیر
تتلائم مع الدین ولا تتعارض مع القرآن مع أيّ سقف معرفي کائن في الکون، ويبذل
الشیخ جلَّ جهده کي یوصِّل الفکرة لطلبة العلم في کافة المستویات سواء العلوم
الإنسانیة أو العلوم التجريبية
مدخل البحث
عصرنا الحاضر واجهه ساحة اختلافات عدیدة، من أهمها صراع الأدیان
وصدام العلوم، فالأدیان والنحل أصبحت «کلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»،
واختلفوا أولاً وتنازعوا، ثمّ وصلوا إلی حل یذکره القرآن: « إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ
وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» فأخذوا المفهوم منها واخترعوا
التعددية الدينية وهکذا سکت النزاع علی الأفضلیة بینهم.
لکن بقی صراع بین المستجدات العلمیة وما یناقضه الکتب الدینیة،
کنظریة التطور لداروین وآیات خلقة الإنسان من طین أو النسخ أو ما شابه ذلک.
بعد مرور ما یقارب مائة سنة، خضع المسیحیون للعلم وجعلوا الدین في
زاویة یفید التقرب به إلی الله وما بعد الحیاة فحسب، لکن المسلمين أولاً خالفوا
النظریات العلمیة قائلین بعدم ثبوتها، ولکن بقی الجدال عَلامَ یُقبل وعلامَ یُردّ،
حتی وصل بعض المفکرین المسلمین إلی حد وسط وهو قبول ما یوافق کلام الله ورفض ما
یخالف النص.
من هنا بدأ المفکرون بکشف الصدام و الوفاق، ما بین العلم والقرآن،
ففي تفسیر الکائنات والشمس والقمر والکواکب السماویة، أخذوا یستندون بالمستجدات
العلمیة لبيان إعجاز القرآن وما جاء قبل أربعة عشر قرناً وما وصل إلیه العلم أو لم
یصل إلیه في عصرنا الحاضر.
فنری بعض العلماء لا یخرجون من عهد النبي في تفسیرهم لواقع الحیاة،
ويخالفون کل صغیرة وکبیرة، ویرون الانطواء للعلم بدعة، في مقابل البعض الذین
لایرون النص ومندهشین ومعجبین بالإنجازات العلمیة ویریدون خضوع النص للعلم کما فعل
الغربیون. لکن بقی المنصفون والمعتدلون من المفکرین ووجدوا حلاً وسطاً لهذه الأزمة
( التطرف لأي جهة-التفریط أو الإفراط-) وذکروا ما یلائم هذا المجال وما یصادمه.
جامعة الأزهر بما أنها هي الجبهة التي واجهت هذه الأزمات قبل
الآخرین، علینا أن ندرسُ أفکار علمائها المعاصرين لکي نصل إلی ما وصل إلیه هذه
الجبهة من صدام أو وئام .
ومن بین هؤلاء العلماء الکرام بحثنا عن فضیلة الشیخ الدکتور علي
جمعة، الذي له ساحات عدیدة (من منبر وصلاة جمعة، ودروس أخلاقیة، ودروس دینیة
وتفسیر للقرآن ولقاءات تلفزیونية ومواقع فتوى) للتواصل مع المجتمع ( الدیني
والعلمي) و لنری هل تکون أجوبته مقنعة أو لامسکته.
العلم و الدین صدام أم وئام
اعتقد البعض أن تاریخ صراع العلم و الدین بدأ من الغزالي حیث أراد
أسلمة الفلسفة والعلوم الیونانیة التي تُرجمت ودخلت عالم الإسلام، و البعض یرون
أنه بدأ قبله، في زمن الدولة العباسیة، من هارون الرشید وابنه المأمون، حیث دعا
العلماءَ الیونانیین وظهرت المدارس وبدأ الصراع بین علماء الدین وفلاسفة الیونان
بمناظراتهم، لکنما حین نراجع الواقع، نری إن جُلّ اهتمام أولئک و هؤلاء یدور حول
المعرفة (Knowledge) والعلوم الإنسانیة و
لایتطرَّقون إلی العلوم التجریبیة (Science) و الحداثة.
و مِن جهة أخر حینما بدأت حرکة الحداثة في العالم مع إزدهار الغرب
ومغامرته بالتکنولوجیا، سَرت حركات التجدید من المجتمع الغربي- بعد دخول الجنرال
"نابليون بونابرت" على مصر-، فشهدت مصر منذ منتصف القرن التاسع عشر نهضة
طباعیة و صحافیة زاهرة و صار نتاج تلک النهضة تأتي إلی الدیار العربية بکثرة،
فأحدث فیه أثراً فکریاً لایستهان به. و أصبحت مصر کأنها الواسطة و دار التعریب بین
أوربا و البلاد العربیة، فکانت الأفکار الحضاریة الجدیدة تأتي إلیها من أوربا،
فیترجمها الکتّاب و المؤلفون المصریون بعد أن یضیفوا إلیها طعماً عربیاً، ثم ترسل
بعدئذ بشکل صحف و مجلات و کتب إلی البلاد العربیة الأخری عن طریق البواخر، و کان
سیر البواخر یومذاک منتظماً یحمل رزم المطبوعات الآتیة من مصر کما یحمل المنتوجات
الصناعیة الآتیة من أوربا.
و من أهم المجلات التي کانت ترد إلی البلاد في تلک الآونة، هي
«المقتطف والهلال»، وکانت النزعة الغالبة علی کلتي المجلتین، هي الدعوة نحو تبني
الحضارة و العلوم الحدیثة، ونحو بناء المجتمع علی أساسها، و لکن مجلة المقتطف کانت
تنزع نحو الفلسفة والعلوم الطبیعیة وکانت تنشر مقالات متسلسلة في شرح نظریة داروین
بقلم شبلي شمیل، بینما کانت مجلة الهلال تمیل نحو العلوم الإجتماعیة و اللغویة و
التاریخیة.
دور علماء الدین في تجدید العلوم
لو القینا نظرة فاحصة علی القرون الأخیرة نجد أنه قد ظهر أئمةٌ
مجددون في أماکن عدة من العالم الإسلامي، إستطاعوا أن یحولوا التجدید إلی صحوة
إسلامیة ظهرت في حیاة المسلمین علی شکل حرکات جدیدة استطاعت أن تنقلهم إلی عهد
جدید یتسم بمحاولة تصحیح المسار، و الشعور بالقلق الحضاري عامة، و الإنتقال إلی
عصر مراجعة الماضي و تقویمه و نقد الذات، بتحدید عوامل التأخر والإنحطاط في الحاضر
و رسم طرق العلاج للعبور إلی المستقبل، حیث تنظر الأمة البدء بإعادة بناء الکیان
وصنع حیاة التقدم و الحضارة المتوازنة.
مع ذلک إن الجیل الجدید من هؤلاء- لاسیما الجامعیین منهم- الذین
اتصلوا بأجواء الصراع الحضاري الشامل في العالم الإسلامي بکل أبعاده، بدأوا یشعرون
تماماً مع المخلصین الإسلامیین جمیعاً، أنه قد آن الأوان لتخطي هذه المرحلة، و
تبني المنهج الإسلامي التغییري الشامل وأنظمته المتکاملة ومن هنا سعی البعض بعولمة
الدین، فأرادوا أن یفسروا کل أسس الدین بموازین العلم و یطردوا کلما یردع
التمکینَ، فبرزت صراعات و نزاعات بین المثقفین والملتزمین بالدیانة التقلیدیة،
وأبرز من ظهر علی مسرح الکفاح والنضال عن الأمة والجهاد في سبیل تجدید أمر الإسلام
والمسلمین کله، هو جمال الدین الأفغاني، الذي فضح الإستعمار ومؤامراته وإحتلاله
لبلاد الإسلام، وقضی معظم حیاته في الدعوة إلی توحید صفوف الأمة الإسلامیة الممزقة
ودفعها إلی طریق التغییر والبناء، بإستفادته الکاملة من مواطن القوة الحضاریة
العلمیة و العمرانیة في الحضارة الحدیثة مع التحذیر المتکرر من المنطلقات المادیة
لثقافات الغرب التاریخیة و الحدیثة.
ودعا الأفغاني إلی البدء بحرکة إسلامیة قویة مبنیة علی الأسس
العلمیة الصحیحة، تمهیداً لوضع المسلمین علی الطریق الحضاري الصحیح في فهم الإسلام
وسننه الکونیة و الإجتماعیة. ونادی لصد الهجوم الفکري الشامل الذي شنه المستعمرون
ودوائرهم الثقافیة علی الإسلام عقیدة وشریعة و بنیاناً وحضارة، بقصد تشویه معالم
الإسلام في نفوسهم واقتلاع الثقة فیها بأمتهم وتاریخهم وأمجادهم، کي لا یشعروا
بذاتهم ولا یناضلوا عن مقدساتهم، فیسهل علی أعدائهم من المستعمرین إستغلالهم
وسوقهم عبیداً في الحیاة، لایشعرون بعزة ولایحسون بکرامة.
ومن بینَ روّاد النهضة العلمیة و تجدید الفکر الدیني یعدُّ محمد
الطاهر ابن عاشور قطباً من أعلام الفکر الدیني التجدیدي في العالم الإسلامي، فهو
رمز تجدید الفکر الدیني من حیث المنهج والرؤیة ومشروعه الإصلاحي وقد أحدثت آراؤه
نوعیة في إصلاح العلم و الإدارة- بعد حرکة الأفغاني- و کان لها انفعال في تواصل
عطاء الزیتونة، وتمیزها موافق منهج عقلي إسلامي مستنیر.
ومن ثم فتحت المجامع الإسلامیة شیعیة و سنیة، باباً جدیداً في
تعریف العلم، ففصلوا بین العلم المذکور في القرآن والعلم المستحدث، ووقفوا أمام
عولمة الإسلام حتی تغیّر المسار وأصبح في یومنا هذا، الکلام عن أسلمة العلوم.
وأخیراً إتفق المسلمون أنه لابد لهم في هذا العصر أن یهتمّوا بفهم
السنن الإلهیة في الکون، وأن یستغلوها لصالح إنشاء حضارتهم الإسلامیة الجدیدة
مستفیدین من کل جدید ومفید في العلم و التقنیة والتنظیم والفکر دون فقدان الأصالة
ومحو الذات.
صدام أم وئام بين العلم و الدین في العصر الحاضر
یبقی الصدام بین العلم والدین لمن یوافق علی مکانة العلم لدی
المتدینین في التباین أو الوئام معاً، أو التعاون أو التطابق للدین، ولمن لا یوافق
علیه، فیبقی الصدام عنده أما إیدیولوجیاً، أما في النظریات العلمیة، وهذا علی
أساسین إما یعترف بحقیقة الدین ویری العلم ناقصاً أو متوهماً و إما علی العکس
تماماً فیری العلم أساساً فیقبل ما یوافقه من الدین و یرد علی الآخر أو یؤّله بما
لدیه.
لکن نری علماء الیوم یرون واقع الحیاة، و یعتقدون أن جعل الخیط بین
العلم و القرآن و تمایز الإثنین محالٌ، فأبدعوا منطق الضبابي مقابل منطق الرسميّ،
الذي کان یقیس العالم بقیاس هذا أو ذاک، بل لابد أن نعتبر و نعترف بوجود طیف من
المقاییس والحالات بینهم، فأثّر هذا الإختیار علی حالات الکون من الحقیقة الصارمة
أو وهمٍ صارم إلی ما یستخرج بینهما إلی اللامتناهي، وممکن أن نقارن البعض علی هذا
أو ذاک، أو کلاهما، فنری تغیَّر إعتقاد العلماء في تعامل العلم والدین کما تغیَّر
في باقي المجالات، من الإرتباط بینهما حالتان فحسب، أما یتصارعان أو یتوافقان،
ولکلٍ تفاصیله، فوصل علماء الحاضر بأن لانستطیع أن نشطب خطاً واضحاً بین هؤلاء، بل
بحسب الموضوع، و میزان التصریح له في الدین لابد أن نطالع العلوم و الدین.
من جهة أخری نری العلم في الماضي کان یدور حول المعرفة (Knowledge) و یشمل العلوم الإنسانیة و العلوم
التجریبیة معاً، لکن تمیَّزت العلوم بعد الحداثة، بالعلوم التجریبیة والعلوم
الإنسانیة و سُمّي العلوم التجریبیة بـ(Science) وبهذا بدأ حل الإختلاف.
الدکتور علي جمعة و أنواع العلم
علی هذا الأساس والإتجاه و الرؤیة ندرس دور الشیخ علي جمعة وهو من
کبار جامعة الأزهر المعاصرین.
تأثّر الشیخ بمن قبله من مناقشات وآراء یدور حول هذا الموضوع،
فنراه یبیِّن طریقه و یشطب خطاً واضحاً في تبیین الرؤیة المدروسة مدی السنین،
فأولا یأتي بتعریفاً عن العلوم، فیقول:
هناک علوم تجریبیة (Science) لها قواعد: المشاهدة وبعد ذلک الملاحظة لهذه المشاهدة یعني
الدیمومة علیها ثم الإستنتاج، و هذا التجریب هو الذي أطلق علیها الإنکلیز (Science)، ونحن في فوضی الترجمة في القرن التاسع عشر
ترجمناها بالعلم، والعلم في اللغة العربیة أوسع من (Science) باللغة الإنکلیزیة، العلم في اللغة العربیة
أوسع من التجریب، لأنه قد یکون علماً مردَّه التفکیر و العقل المستقیم، أو علماً
مردُّه النقل و اللغة، و علماً مردَّه الذوق و العرفان أو علماً مردَّه الشرع، فکل
هذه المعاني هي إثبات أمر لأمر أو النفي عنه، فلذا نراها أنها مشترکة في کل
العلوم، و (Science) هو علم یعتمد علی
الحس فقط، فهو علم لکن لابد أن نضیف إلیه کلمة التجریبي، و نحن نعتبر العلم تجریبي
و نعتمد علیه، و لکن لایسدُّ هذا المصادر الأخری للعلم التي هي القدر الیقیني من
المعرفة ... فالنزاع بین العلم (Science) و النصوص الیهودیة ومن ثم المسیحیة، بدأت عندما حرمت الکنیسة
سبعین علماً و سمتهم العلوم المحرمة، فصار نزاع ضخم مابین إدراک الواقع بعمق
المسمي (Science) وبین توجهات هؤلاء
الناس... والکنیسة نزلت من مواقعها کثیراً، لکن لایحدث مثل هذا عندنا لأن کتاب
الله المسطور هو کتاب الله المنظور...
فثُمَّ یرجع إلی الدین ویقسِّم العلوم إلی "علمٌ محمود وعلم
مذموم، و المذموم هو علمٌ لایُنفع به، و الجهل به لایَضرّ"، کما جاء في
الروایات؛ و یؤکِّد علی أن العلم لابد أن یستنیر طریق المسلم و یوصله إلی الله،
سواءاً کان في کتاب الله المکتوب أو من کتاب الله المنظور. فعلی هذا الأساس یری
القرآن (کتاب الله المکتوب) فوق طوق البشر، و أنه من عندالله، و أنه حق، و ما
اشتمل علیه من مبادئ و أحکام، و وحي، وحجة، فنشطت أمة العرب من ثُمَّ في تحلیل نسق
بنائه، وطرائق نظمه، وأسالیب معماره، حتی شرعت الأمة في تولید منظومات کاملة من
العلوم المتعلقة بهذا الکتاب، و الخادمة له، علی ضوء أسالیبه، ومسالکه، وطرائقه؛
فکان القرآن هو الملهم الأول، والمحرک الأسبق لتلک الحرکة العلمیة الخادمة له
ولعلومه.
0 تعليقات