آخر الأخبار

"محمد نجيب" الذى لا يعرفه المصريون!! (2)

 


 

نصر القفاص

 

 

وقف مدرس اللغة الإنجليزية – بريطانى – ليملى على التلاميذ أن يكتبوا: "إن مصر يحكمها البريطانيون" فلم يعجب ذلك التلميذ "محمد نجيب" - عام 1914 – فوقف يقول للمدرس: "لا سيدى.. مصر تحتلها بريطانيا فقط.. لكنها مستقلة داخليا, وتابعة لتركيا" ولا تسألنى عن معنى "مصر مستقلة.. تابعة.. محتلة" كما قال التلميذ.. "المهم أن المدرس البريطانى غضب وأمر بجلدى على ظهرى, واستسلمت للعقوبة المؤلمة دون حركة أو أن أفتح فمى"!!

 

 

بهذه الواقعة يدشن الرئيس "محمد نجيب" نضاله الوطنى – فى مذكراته – وبعدها يروى واقعة أخرى حين رفض أن يخاطبه مع زملائه مدرس بريطانى آخر بقوله: "ماذا تفعلون يا حيوانات.. هل هى فوضى؟!" فيقول: "غضبت من كلمة يا حيوانات وطلبت منه أن يعتذر.. فإذا به يأمر بجلدى عشر جلدات!! ولم تمر عدة أيام حتى تم جلدى للمرة الثالثة"!! ثم يضيف: "الإهانة التى كنا نذوقها على أيديهم أشد قسوة من الكرباج على ظهورنا"!

 

 

يحكى الرئيس "محمد نجيب" حكاية التحاقه بالمدرسة الحربية, فيقول أن السبيل الوحيد كان الهروب من السودان إلى مصر.. "تحدثت مع إبراهيم أحمد عرابى إبن الزعيم أحمد عرابى وكانت أسرته من أصدقاء العائلة.. فإذا به يقول لى.. هل تريد أن تكون ضابط فى بلد محتل.. إن الضابط فى بلد محتل ليس أكثر من مقاول أنفار أو رئيس عمال فى عمليات حفر وردم!! فكان ردى أننى سأجرب حظى.. فاختار هو الصمت.. ويوم 5 يناير عام 1917 هربت إلى القاهرة.. مصر أم الدنيا.. مرتديا الزى الوطنى السودانى".

 

يروى صاحب مذكرات "كنت رئيسا لمصر" حكاية التحاقه بالمدرسة الحربية: "وصلت القاهرة يوم 11 يناير فعرفت أننى تأخرت 11 يوما.. ذهبت لمقابلة وينجت سردار الجيش الانجليزى فى السفارة البريطانية, وكان معه رئيس أركانه ميجور كامبل.. قدمت له الطلب مكتوبا على الآلة الكاتبة.. سألنى.. من كتب لك الطلب على الآلة الكاتبة.. قلت أنا.. فسألنى: هل هذا أسلوبك فى الكتابة؟ّ! قلت: نعم.. قال لى: رائع جدا.. والتفت إلى رئيس أركانه وقال: ميجور كامبل.. إكتب خطابا للمدرسة الحربية ليأخذوه فى الدفعة التالية.. حملت الخطاب فى صدرى, ولم أصبر حتى أصل للمدرسة الحربية لأعرف ما فيه.. فتحته فى السكة وقرأته.. كان فيه عبار واحدة.. إقبلوا الطالب المذكور إذا كان لائقا"!!

 

لا تعليق على ما سبق.. فهذه واقعة سجلها "محمد نجيب" فى مذكراته.. قد تكون لها دلالة.. وقد لا تكون!! المهم أنه مضى يحكى تفاصيل رحلة التحاقه بالمدرسة الحربية.. لكنه قد يكون مهما وكاشفا, ما ذكره صاحب المذكرات بقوله: "بعد الكشف الطبى نظر لى هربرت باشا قائد الجيش البريطانى وقال: أنت قصير.. قلت له: أنا أيضا صغير فى السن وأمامى فرصة للنمو, وأبى كان قصيرا مثلى.. ثم مرة واحدة إنفرد!! نظر هربرت باشا إلى دكتور كارل المسئول الطبى فى المدرسة.. ودخلت المدرسة الحربية".

 

تبقى تفصيلة صغيرة مهمة ذكرها "محمد نجيب فى مذكراته.. فهو يقول: "كانت درجاتى فى الفرقة الأولى مذهلة لهربرت باشا.. فقال: هذه درجات قياسية.. وقرر أن أتخرج فورا.. كنت أود أن أستكمل دراستى.. إننى لم أضرب نارا.. لم أركب خيلا.. سأتخرج ضابطا جاهلا.. سأكون فى ذيل ترقيات النشرة العسكرية.. لن تتاح لى فرصة اختيار السلاح الذى أريده"!! كان بحديثه هذا مع نفسه يفسر سر بكائه عندما عرف أنه سيتخرج قبل استكمال الدراسة.

 

صدق ويجب أن تصدق أننى أنقل نصا من مذكرات "محمد نجيب" الذى أوضح قائلا: "سافرت إلى الخرطوم.. لأبدأ حياتى العملية كضابط فى الجيش المصرى.. كان ذلك فى 19 فبراير عام 1918.. كان عمرى وقتها بالضبط 17"!!

 

أشك أن كثيرين يعلمون تلك الحقائق عن "محمد نجيب" الذى يزرفون عليه الدموع.. وأشك أن الصورة تحتاج إلى توضيح أو تعليق.. لكننى لا أشك أنه قبل بدايته العملية فى الجيش بنحو شهر, كانت صرخات طفل جديد ترتفع يوم ولادته – 15 يناير 1918 – إسمه "جمال عبد الناصر" وهو الذى وافق على اختيار "عبد الحكيم عامر" للواء "محمد نجيب" كواجهة لثورة 23 يوليو فيما بعد.

 

الحقيقة أن "محمد نجيب" أصبح ضابطا فى الجيش وفق معايير, هو أوضحها فى مذكراته.. أما "الضباط الأحرار" فقد أصبحوا ضباطا وفقا لمعايير مختلفة تماما.. فهؤلاء الضباط دخلوا الكلية الحربية, كجزء من شروط معاهدة 1936.. التى نصت على إعادة تأهيل الجيش المصرى وتسليحه.. ومن ثم تم فتح أبواب الكلية الحربية أمام أبناء الطبقة المتوسطة.. وهؤلاء الضباط كانوا قد انخرطوا فى دراسة الحقوق والتجارة.. وهم بالتأكيد لم يتعرضوا لما تعرض له الريس "محمد نجيب" من الجلد على الظهر.. ولم نسمع عن هرب أحدهم من عائلته لينضم للمدرسة – الكلية فيما بعد – الحربية.. ولا يوجد بين هؤلاء الضباط من دخل الكلية الحربية بتوصية من جنرال انجليزى, أصبح فيما بعد "المندوب السامى" وقال عن الشعب المصرى أنهم أمة من العبيد, فى وجه "سعد زغلول" و"على شعراوى" و"عبد العزيز فهمى" وكان ذلك هو السبب الحقيقى الذى فجر ثورة 1919.

 

أعود إلى مذكرات "محمد نجيب" الذى يبكى عليه أعداء "جمال عبد الناصر" وثورة 23 يوليو.. فهو يقول: "بمجرد أن سلمت نفسى فى الكتيبة 13 مشاة بالخرطوم بحرى, حتى انقلب الهدوء الذى أحسست به إلى غضب.. صدر لى ولأربعة من الضباط أمر بأن نتحرك مع 450 جنديا.. للسفر فورا إلى منطقة وادى بناجا بالقرب من شندى على بعد 300 كليو من العاصمة السودانية, للعمل فى مد وتقوية جسور السكك الحديدية التى كانت مهددة بمياة الفيضان.. فى هذه اللحظة أدركت قيمة كلام إبراهيم أحمد عرابى.. تأكدت أن الضابط فى بلد محتل, ليس أكثر من مقاول أنفار.. لقد تحققت نبوءته بأسرع مما كنت أتصور.. ستة أشهر كاملة فى بداية خدمتى, وأنا لا أرى سوى صورة واحدة.. الجنود يحملون المعاول والمقاطف.. الضباط يقفون وسطهم.. الأتربة تغطى الجميع.. أتربة الحفر والردم, وليست أتربة المعارك.. شعرت بأن الصورة نفسها كانت أيام حفر قناة السويس"!!

 

أتمنى أن تضع خطوطا تحت عبارة "لقد تحققت نبوءته بأسرع مما كنت أتصور".. حين تذكر كلام "إبراهيم أحمد عرابى".. فهو اعتبر الكلام نبوءة, دون تدقيق فى أن الرجل ابن "أحمد عرابى" وزير حربية مصر الذى أعلن بصوت مدو رفضه للعبودية, وقاتل دفاعا عن بلاده حين جاء الاستعمار ليحتلها.. والمدهش أن يكون "وينجت" وراء دخوله باستثناء للمدرسة الحربية.. وغريب أن يتم تخرجه قبل أن ينهى دراسته!! وهو يذكر فى مذكراته أنه سمع لأول مرة عن ثورة 1919 من زميله الضابط السودانى "إبراهيم عبود" الذى كان أول رئيس لجمهورية السودان فيما بعد.. فيقول: "قالى لى.. هل سمعت بما يجرى فى بلدكم؟! فقلت له: لا.. فقال: بلدكم فيها ثورة – يقصد ثورة 1919 – وقبل أن يكمل كلامه ويصف لى ما سمعه.. رحت للقائد وطلبت أجازة لأسافر إلى مصر.. وتحركت إلى السويس عن طريق بورسودان, ومن السويس إلى القاهرة"!!

 

لا أكتب غير وقائع من مذكرات "محمد نجيب" المنشورة, والتى تم ترويجها لاقتطاع أجزاء منها كلها افتراءات وأكاذيب ضد "جمال عبد الناصر" وضباط يوليو.. وقد تكون هذه المذكرات لم تلفت نظر الباحثين ودارسى التاريخ, باعتبارهم جميعا ركنوا إلى أن الرجل كان "جملة عابرة" فى تاريخ مصر والثورة.. وظنى أن هذا خطأ فادح, وجب تصحيحه بقراءة هادئة ومتأنية لهذه المذكرات.. فصاحبها لا ينكر أحد أنه كان ثانى رئيس وزراء بعد خروج الملك "فاروق" من مصر.. وأول رئيس للجمهورية بعد إعلان سقوط الملكية.. وصاحبها أفصح عن معلومات تستحق الوقوف أمامها, وشرح نفسه بتفاصيل كثيرة ومهمة لا يجب أن تبقى غائبة.

 

ضمن هذه الحقاق ما كتبه قائلا: "أحزن على تاريخ مصر, الذى تصور البعض أنه لم يبدأ إلا ليلة 23 يوليو 1952.. كان هذا التصور الأبلة عار على ثورة يوليو وعلينا جميعا.. لابد أن ثورة 1919, كانت أهم الثورات التى قام بها الشعب المصرى.. لا أدعى أنى شاركت فيها, وتابعت حركتها.. وما فعلته هو أننى ذهبت مع مجموعة من الضباط الصغار, ونحن نرتدى ملابسنا العسكرية ونعلق رتبنا إلى بيت الأمة.. لكى نعبر عن احتجاجنا ورفضنا لنفى سعد زغلول"!! 


وهنا يجب الإشارة إلى أن صاحب قرار اعتقال "سعد زغلول" ورفاقه الذين تم نفيهم خارج مصر هو السير "وينجت".. وأن الضباط ورجال الجيش لا يسمح لهم بالتظاهر للتعبير عن موقف سياسى.. لكن كل هذا لا يجب أن نتوقف أمامه طويلا رغم أهميته وضرورة وضعه فى الاعتبار.

 

المهم أن نعرف عن صاحب مذكرات "كنت رئيسا لمصر" أنه ترك الجيش ثم عاد إليه.. تعالوا نعرف منه.. كيف.. ولماذا؟! هو يقول: "طلبت نقلى للبوليس.. حصلت على شهادة الكفاءة, ودخلت مدرسة البوليس لمدة شهرين لدراسة القانون الإدارى, ولوائح البوليس.. تمهيدا للعمل فى أقسام القاهرة.. تخرجت من مدرسة البوليس, وخدمت فى قسم عابدين – 5 أشهر – وفى مصر القديمة – 4 أشهر – ثم فى قسم بولاق – 7 أشهر – وطوال هذه الشهور, تعرفت على قاع القاهرة"!!

 

إكتفيت بعلامات التعجب, دون علامات الاستفهام.. فقد يكون فى ذلك الزمان مسموحا بقبول دارس فى المدرسة الحربية رغم قصر قامته.. وربما كان مسموحا بأن يتخرج الطالب قبل إتمام الدراسة.. أو مسموحا لضابط أن يطلب أجازة, فتتم الاستجابة لطلبه قبل أن يمضى على مدة خدمته عام.. أو كان مسموحا لضابط أن يتظاهر بزيه العسكرى.. وربما كان مسموحا لضابط الجيش الانتقال إلى البوليس.. لكن ما لم أفهمه أنه كتب يقول: "قررت العودة إلى الجيش", ويروى حكاية لا يقبلها عقل طفل فى زمانه أو زماننا..

 

 "محمد نجيب" الذى لا يعرفه المصريون!! (1)

يتبع

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات