أحمد برهام
التأثير الاقتصادي للترييف ( الجزء 2 )
اتجه الريفى والحرفى لتعليم أبناءهم تعليما عاليا سمحت به المجانية
فى التعليم ولم يهتم فى نفس الوقت (بالتعلم) وإنما بالحصول على (الشهادة) باى ثمن
من اجل "" الترقي الاجتماعي "" من جهة، ومن اجل المباهاة والمفاخرة
من جهة أخرى، نتج عن هذا ارتفاع هائل فى الطلب على "" الدروس الخصوصية
"" لان التعليم تحول لسباق مجاميع فى سبيل تحقيق الشهاده، مش مهم الطالب
أتعلم إيه ، هذا شىء لا يعنى المواطن ريفى الثقافة !!!............ كل ما يهمه هو
ان يحمل ابنه لقبا ما، دكتور ، مهندس ، مدرس ، محاسب ...الخ ، ونتج عن هذا المزيد
من الموظفين الجهلة فى مختلف المناصب الحكومية والذين يؤمنون بدورهم بالعقد الاجتماعي
الريفى، والذى أصبح عقدا اجتماعيا للعشوائيات المنتشرة كالسرطان ، ووصل هؤلاء
تدريجيا للمناصب الحكومية العليا ما جعل نطاق تنفيذ العقد الاجتماعي الريفى يتسع
الى طبقات لم يكن يتصور احد انها ستصبغ يوما بنفس الصبغة الثقافية ابدا !!
وقام هؤلاء بدعم أقاربهم و أهل قراهم الأصلية فى الريف وشجعوهم على
القدوم الى مصر (ليكونوا عزوه بالمفهوم الريفى المعروف ) و ساعدوهم أيضا فى
التوظيف لكى يشعروا بالنجاح أمام أقرانهم ويتفاخروا به أمامهم (افتكر كده فى القاهرة
30 علاقة محفوظ عبدالدايم بسالم بيه الاخشيدى ابن بلده) ، واستغلال حصيلة كل هذا
فى البناء على الاراضى الزراعية المتاخمة للمدن والقرى ، للمباهاة بالقدرة على
البناء بالطوب الأحمر ثم كتابة كل الآيات و الأذكار التى يعرفونها للوقاية من
الحسد !!
وهو أمر قد تظن فيه تضاربا، لكن فهمك لطبيعة الريف التى تحتم عدم إخفاء
حياتك الشخصية ، ستجعلك تفهم بسهوله ضرورة إفصاح هؤلاء عن ثراءهم من جهة ، و
معرفتهم بحتمية حدوث الحسد من جهة أخرى !
لهذا ترى مقاومه شرسة عند اى تغيير من قبل موظفي الحكومة ، ذوى الثقافة
الريفية المقاومة للتغيير بطبعها ، حتى يستشعر المواطن كأنما الحكومة تحارب نفسها
، وتحارب قراراتها الإصلاحية وتفرغها من اى مضمون ، ويعزوا المسألة لبعض الإخوان (
وهو أمر صحيح جزئيا ) ، لكنه يتناسى ان الوضع الجديد جعل الثقافة الريفية هى الغالبة
، وحتى من قبل أهل المدينة الذين تم ترييفهم ثقافيا ، وبالتالى أصبحت الانغلاق
ورفض التجديد هو سيد الموقف ، حتى مع حذف عامل الإخوان التخريبي!! وهو ما يفسر
صعوبة الإصلاح الادارى ، وتعسر إصلاح التعليم ، حيث تسيطر العقلية المتجمدة المنغلقة
على الغالبية من العاملين ، وتقوم بدون وعى بتفريغ اى مشروع اصلاحى من مضمونه ،
وتحاربه بشراسة ، لمجرد انه جديد !!
السياسة بعد 1952 تحولت بشكل جذري الى دعم الطبقة الدنيا، هذا أمر
مفهوم ومبرر تماما ، لكن أيضا كانت له توابع، وأصبح من الأسهل ان تصبح عضوا فى
مجلس الشعب اذا كنت من أصول قرويه ريفيه، عن ان تصبح عضوا اذا كنت من أصول حضريه،
فببساطه هناك (( بلوكات )) كأمله من التصويت ستوجه إليك من قبل قريتك و القرى المجاورة
، لمجرد انك ابن هذه القرية ، وان كبارات البلد قرروا دعمك اليوم ، لترد لهم غدا
الجميل ، وعادة يكون رد الجميل ( تعيينا لابناءهم فى الأماكن المميزة / مثل /
القضاء ، النيابة ، الشرطة ، الجيش ، البنوك ، الكهرباء ، مجلس المدينة ..الخ)
وليقوم نفس هؤلاء بخدمته مستقبلا عندما يحتاج لهذا الرد على هيئة نفوذ فى تلك
الهيئات ، وقدرة على تخليص الخدمات وتبادلها ، وهو ما ساهم طبعا فى الوضع السىء
الذى نراه من فساد شعبى مستشرى ، سببه الاساسى عملية تبادل الخدمات سواء بمقابل
مادى (رشوه يعنى ) او مقابل (خدمات اخرى) ، ايا يكن موقف القانون من هذه الخدمات
!!
ومارست الغالبيه هذه الخدمات فى تعيين المعارف والاقارب فى
(الاماكن المميزه) ، ان لم يكن من اجل المزيد من النفوذ والخدمات ، فانه سيكون من
اجل ( عمل الخير و خدمة الناس ) كما يقول العرف الريفى البسيط ، دون الانتباه
للكوارث الناتجه عن هذه التصرفات !!
ولم يقتصر الامر على اصحاب النفوذ العالى ، وانما امتد الى اسفل
الهرم الوظيفى ، واصبح هناك من يعمل فى بيزنس التعيينات فى جميع مستويات العمل
الحكومى ، بدءا من كبار الموظفين ( مدير مكتب وزير مثلا ) وحتى امناء الشرطه ،
وطبعا ساهم بعض اعضاء مجلس الشعب فى هذا بقدر وافر وكانت هناك تسعيره شبه معلنه
للتعيينات احيانا!!
لم يقتصر الامر على ماسبق.....!!
وانما امتد ايضا لانتشار الانشطه الاقتصاديه العشوائيه ، افتراش
الارصفه ، المشاريع غير المرخصه ( اللى بنسميها تحت السلم ) وغالبا ما تكون غير
مطابقه لاى مواصفات ، التهرب الضريبى ( لان الريفى لا يعترف بفكرة الضرائب اصلا
ويعتبرها جبايه لانه لا يؤمن اساسا باحقية الدوله فى فرضها عليه منذ القدم) ،
الريفى يعتبر الارض ارضه ، والزرع زرعه ، حتى لو كان مالك الارض شخصا اخر ، الا
انه يؤمن ان من يزرع الارض هو مالكها الحقيقى ، فلا يتورع عن سرقة المالك ابدا ،
ولا يعتبرها سرقه ، وعندما انتقل للمدينه ، لم يجد ارضا و لا زرعا ، لكن وجد فى
المال العام بديلا مناسبا ، اذا لم تكن تصدق ، اسأل اى شخص امتلك ارضا فى قريه ،
واجرها لمزارع ، او حتى تركها دون زراعه ، واسمع منه ما سيشيب له شعرك من الاعيب
لبخس حقه واستحلال سرقته !! ولا احد يحب الحديث عن هذا علنا فى الاعلام لاسباب
مفهومه من ضمنها نفاق الجماهير ، والحفاظ على الصوره الرومانسيه اليساريه للريف
وقاطنيه !
لا يعنى هذا ان كل سارق للمال العام كان ريفيا ، ولا يعنى ان كل
ريفى سارق ، حاشا لله ، لكن نسبه لا بأس بها منهم حملوا ثقافه ( على قد فلوسهم ) ،
( حكومة الجبايه ) ، (هى البلد يعنى كانت اديتنا ايه ) ، (بناخد حقنا بطريقتنا )
وغيرها من المفاهيم التى كان يمارسها (الريفى الجد) فى القريه دون ان يعتبرها
حراما ويحكيها لابناءه باعتبارها شطاره ونصاحه وهى وليدة الظروف الاجتماعيه
والاقتصاديه شديدة الضيق التى عاشها، واليوم وجد الحفيد فى الاخوان واليساريين
دعما ضخما لكل ممارساته لكن باسماء براقه خادعه ، فاطمئنت نفسه لصحة ما يفعل وصار
يقوم بها علنا دون خجل ، ما دفع غيره لان يقلده سواء تحت ضغط الحاجه ، او تحت ضغط
( ما كلهم بيعملوا اشمعنى انا ؟!) وهى فى حد ذاتها فكرة ريفيه المنشأ لا يمكن ان
تصدر الا من ""مجتمع صغير"" منغلق على ذاته يعرف الجميع بعضه
البعض ، و يتحول فيه العرف وما اعتادوا على فعله الى قانون ، والى دين ، فطالما
الغالبيه تفعل كذا ، فهو صواب ، ايا يكن طبيعته !
الريفى لا يؤمن بالبنوك ولا يثق بها بسبب ميراث طويل ، ارتبطت فيه
البنوك بالمصادره لصالح الملاك او لصالح قروض غير مسدده فى الارياف، ولا يؤمن
بالشرطه ولا يحبها (( وبيسميها الحكومه )) ويعتبرها عدوا له لانها جهة تنفيذ هذه
الاحكام طبعا و يفضل حل مشاكله دائما بعيدا عنها، وطبعا ساهم الدعم الاخوانى
واليسارى ((كارهى اى نظام واى شرطه )) لهذه الافكار فى التوحش والاستقرار فى
الوجدان الجمعى للمصريين ( افتكر مثلا فيلم الارض ) ، لهذا يفضل الريفى المهاجر ان
يضع امواله فى اى مكان باستثناء البنك ، حتى دون ان يتعرض هو شخصيا لاى مشكله مع
اى بنك ، لكنه الميراث الثقافى الذى توارثه عن ابيه و جده ، البنوك ليست له
ولامثاله ، انما هى للبهوات بتوع المدينه الذين لا يعرفون الله و لا يرقبون فى
الفلاح المسكين الا و لا ذمة حتى لو كان قد سرقهم واختلس حقوقهم !!
كل هذه التأثيرات الاقتصاديه ليست نابعه بشكل حصرى على عملية
الترييف ، لكنها لم تكن لتصل لما وصلت اليه بدونها !!
يتبع ...........
0 تعليقات