نصر القفاص
حاكم ضعيف الشخصية.. مهزوز.. لا يصنع مجد لنفسه, ولا نهضة لبلاده.
حاكم فاسد.. مفسد.. لا يمكن أن يترك إنجازات يفاخر بها شعبه.
كل من عرف الملك "فاروق" قربا أو عن بعد, يعلم أنه تولى
الحكم صبيا دون السابعة عشرة من عمره.. وكل من قرأ عن فترة حكمه يعرف أنه كان
"الولد" فى عيون من حوله.. ظنى أن الوقائع والحقائق هى القادرة على
إثبات أو نفى ما نقول.
كانت فرحة جلالته برحيل السفير البريطانى – لامبسون – كاشفة عن حجم
خوفه وذعره منه.. تضاعف هذا الخوف بعد أن كاد يجبره على التوقيع بالتنازل عن
عرشه.. يوم 4 فبراير عام 1942 الذى يعتبره كثيرون بداية النهاية لزمن الملكية, وما
بعد هذا التاريخ كان مجرد دوران فى الفراغ.. دفعت مصر أثمانا فادحة, لمجرد أن هذا
الزمان طال لأكثر من عشر سنوات.
يحكى "كريم ثابت" فى مذكراته أن الملك بعد هذا الحادث,
حاول أن يستجير بالأمريكان فيقول: "كنت عنده فى قصر عابدين مساء أحد الأيام..
قال لى أنه دعا الكولونيل – دريجى - الملحق العسكرى الأمريكى إلى المبيت فى القصر
تلك الليلة, لأنه بلغه أن لامبسون قد يقدم على عمل عدائى ضده فى الليل.. أراد أن
يكون الملحق العسكرى الأمريكي فى القصر ليشاهد بنفسه ما قد يجرى"!!
الرواية على عهدة صاحبها, وهو صديق ومستشار للملك.. وهو يحكى:
"قلت له يا مولاى إن الأمريكان وانجلترا يقاتلان جنبا إلى جنب فى الحرب
العالمية.. فلا يمكن أن يختلفا بسبب جلالته.. فإذا به يرد قائلا: "أنت لا
تعرف مدى الصداقة التى بينى وبين العسكريين الأمريكيين, لذلك لا تستطيع الحكم
والتقييم.. أخرج من جيبه مفتاحا, وقال لى: هذا مفتاح منزل الضابط الأمريكي فلان..
وأنه يمضى الليل عنده سرا كلما ترامى إليه أن لامبسون ينوى له شرا, وكشف لى سر
بهذه المناسبة.. قال أنه اتفق مع الفريق محمد حيدر بعد حادث 4 فبراير, أن يخبئه فى
أحد السجون إذا اضطرته الظروف للاختباء ليفلت من لامبسون"!!
الحكاية مدهشة.. فهكذا كان يفكر "الولد" الذى حكم مصر..
تلك عقلية حاكم زمن الثلاثينات والأربعينات التى يروجون أنها كانت سنوات زاهرة..
مزدهرة..
وللحكاية ما بعدها فى مذكرات "كريم ثابت" الذى يروى
فيقول: "عندما أصيب فى حادث القصاصين قرب الإسماعيلية.. حملوه إلى المستشفى العسكري
البريطاني.. أقام هناك ثلاثة أسابيع, تأثر خلالها بما أحاطوه به من رعاية
واهتمام.. أكثر من التحدث مع زائريه من القادة الانجليز.. وذات يوم قال له أحدهم
أنه يعجب مما يقال بأنه لا يحب الانجليز.. فنحن لم نر منك طوال فترة إقامتك هنا
غير كل ود.. رد عليه الملك: إسألوا المسئول عن ذلك؟! كان يقصد الإشارة إلى
لامبسون, وأوحى إليه الحوار – حسب ما حكى لى – بخطة جديدة.. كانت خطته أنه طلب من
إدارة المستشفى أن تصحبه ممرضتان من اللواتى سهرن على خدمته.. وطلب كذلك أن يرافقه
المدلك طوال فترة النقاهة.. فتمت الموافقة على طلبه.. وأوضح لى أن أحمد حسنين –
رئيس الديوان – فرح بتلك المجاملة للعسكريين الانجليز, وقال لى أن ذلك يخلق توازنا
فى علاقتك بالعسكريين الأمريكيين.. كما أنهم عندما يلمسون شعورى الطيب نحو
الانجليز, ينقلون ذلك إلى المستوى الأعلى فيتم نقل لامبسون.. لأنه بصراحة ما بقى
هذا السفير لن يهدأ لى بال"!!
هكذا كان حال مصر طوال سنوات الاستعمار.. حاكمها وساستها يدورون فى
فلك المندوب السامى ثم السفير البريطانى بعد ذلك.. كانوا جميعهم يحزنون إذا قاطعهم
أو زجرهم هذا السفير.. يطيرون فرحا بلقاء أو ابتسامة.. لأنهم ينالون "الرضا
السامى" وهى الجملة التى تلوكها ألسنتنا!!..
وفى صفحة من المذكرات نفسها.. يذكر "كريم ثابت":
"أن جلالته حدثه عن وشاية قام بها "أمين عثمان" وزير المالية الذى
تم اغتياله بعد أن قال أن العلاقة بين مصر وبريطانيا هى "علاقة زواج
كاثوليكى"!!
فقد عرف جلالته أنه نقل للسفير – لامبسون – أن الملك يسهر فى أوبرج
الأهرام, وأنه مكان لا يليق بملك مصر.. فعرف جلالته الوشاية, وسمع أن السفير قرر
أن يذهب للمكان لمعاينته إذا كان يليق أو لا يليق.. وعندما عرف الملك قرر أن يذهب
فى هذا اليوم.. كان السفير معه بعض أصدقائه وابنته مارى.. وسمع من مارى قولها
لأبيها: المكان لطيف جدا.. هنا انشرح صدر الملك, واطمأن إلى أن السفير لن يفرض
عليه مقاطعة أوبرج الأهرام"!!
هذا الحاكم الخائف.. المذعور من سفير.. كان ملك مصر فى نهاية
الثلاثينات وطوال الأربعينات ومطلع الخمسينات.. فماذا عن فساده؟! سنترك المجلدات
المكتوبة عن هذا الفساد, والتى لم تفلح معها كل عمليات غسيل سمعته..
نتوقف فقط أمام علاقته مع
"أحمد حسنين باشا" رئيس الديوان الملكى.. فقد كان عشيقا لأمه – الملكة
نازلى – وبسبب هذه العلاقة, تركت القصر وعاشت فى بيت والدها بالدقى.. وعن هذه
العلاقة ذكر "كريم ثابت" أن الملك "فاروق" حكى له: "ذات
يوم دخلت أمى حجرتى ومعها حسنين.. نادتنى باسمى وقالت أنها تستأذننى فى أن
يتزوجها.. طار عقلى وهجمت على حسنين.. صفعته على وجهه بكل قوتى.. طردتهما من حجرتى
وأنا أسبهما.. أصدرت أوامرى للخدم أن يلقوا بفرش مكتب حسنين فى حديقة
القصر".. ودون أن يسأله صاحب المذكرات.. فسر له سر احتفاظه به كرئيس للديوان
حتى لقى حتفه فى حادث غامض على كوبرى قصر النيل!!
فقال "فاروق": "كنت مضطرا إلى الاحتفاظ بحسنين,
لأنه يعرف تفاصيل حياتى.. كان يعرف سياستى وأسرارى.. كان يعرف كل شى عن شئونى الخاصة..
كنت قد اعتدت على العمل معه.. كان يريحنى.. إستمر فى خدمتى لأنه كان مطيعا
ومؤدبا"!!
لا تسأل عن معنى "الأدب" وقيمته عند الملك!!
بعد وفاة "أحمد حسنين" سافرت الملكة "نازلى"
إلى أوروبا ومنها إلى الولايات المتحدة الأمريكية.. لذلك قد لا يدهشك أن يقول
"كريم ثابت" صديق الملك ومستشاره والوزير فى زمنه: "أى فساد كان
فاروق فى حاجة إلى تعلمه.. لقد ترعرع فى محيط لا يرى فيه سوى النميمة والوشاية
والدس والتجسس والرياء والكذب والنفاق.. وعندما ارتقى العرش وأطل على حياته
الجديدة.. كان مشهد امرأة مرتمية فى أحضان رجل هو أول ما أبصره ملكا.. كان اسم
المرأة هو نازلى.. التى هى أمه.. واسم الرجل هو حسنين رئيس الديوان".
هكذا جسد "كريم ثابت" الصورة ورسمها.. هو كتب فى مذكراته
ما هو معلوم للكافة فى مصر وخارجها.. فتلك الحكايات كانت تلوكها الألسن, وتتناولها
الصحف باعتبار أن مصر كانت تعيش أزهى عصور "الديمقراطية" وتحلق فى سماء
"الليبرالية"!!
المذهل أن جلالة الملك أنعم على الفقيد لحظة وفاته بالوشاح الأكبر
من "نشان محمد على" وفسر ذلك قائلا: "لكى يتمكنوا من تشييع جنازته
عسكريا"!!
هكذا قال لصديقه "كريم ثابت" الذى يضيف صدمة جديدة حين
يقول: "بعد انتهاء مراسم الجنازة اصطحبني بسيارته, وانطق بها فى طريق الهرم..
وصلنا أوبرج الأهرام.. توقف بالسيارة ودخل وكنت خلفه.. شاهدنا كل من كانوا يسهرون
تلك الليلة فى الأوبرج.. جلس سعيدا.. وقال لى: فيه مأتم فى الدقى الليلة!! لم
أعلق..
فأضاف: فى بيت الوالدة..
الحمد لله أن كل شىء انتهى"!!
لم تتوقف فضائح جلالته عند حكاية أمه – الملكة – بل امتدت إلى أخته
الأميرة "فتحية" التى تركت مصر مع والدتها.. فقد قررت أن تتزوج من
"رياض غالى" فى الولايات المتحدة الأمريكية.. حاول "فاروق" أن
يمنع هذا الزواج بسلطته كملك, وأشرك "مصطفى النحاس" فى الموضوع.. طلب من
السفير الأمريكى أن يساعده فى منع هذا الزواج.. فشلت كل محاولاته وقيل له أن
"رياض غالى" أشهر إسلامه لكى يتزوجها.. أصرت الملكة "نازلى"
على إتمام الزواج.. هنا يقول "كريم ثابت" فى مذكراته: "يوم إتمام
الزواج أصدر لى أمرا بأن أبلغ الحكومة أن تترك الصحف لتنشر ما ترغب فيه عن قصة
رياض غالى ونازلى وفتحية – ليبرالية – وأنه فى وسع الصحف أن تروى لقرائها كل ما
عندها من فضائح بلا قيد أو شرط.. حاولت أن أقنعه بخطورة ذلك.. لكنه صمم وقال لى:
هل نازلى أمك أم أمى؟!..
وأضاف قائلا: أريد أن يعرف الشعب حقيقة هذه الأم.. سيعذرنى الشعب
بعد ذلك فيما أنوى اتخاذه من إجراءات تجاههم.. ولما قلت له أن العرش لا يحتمل هزات
جديدة.. أجابنى: أشكرك على نصائحك.. أرجو أن تتكرم بتنفيذ الأمر.. وظلت الصحف
أياما تنشر صفحات كاملة عن حكايات نازلى.. رحلات نازلى.. مغامرات نازلى.. وكان فاروق
يسعده ذلك.. وذات يوم علم أن الأميرات, فوزية وفايزة وفايقة راسلن أمهن ببرقية
تهنئة فى عيد ميلادها, فغضب عليهن.. قلن له أنهن خاطبنها باعتبارها أمهن وكتبن..
إلى السيدة نازلى.. وليس إلى الملكة نازلى.. خضوعا لأوامره".
كانت حكاية زواج الأميرة "فتحية" سببا فى إذابة الجليد
بينه وبين "مصطفى النحاس" الذى تعاطف معه كثيرا وسانده إنسانيا, وبكل ما
يملك من وزن سياسى وشعبى.. وترك ذلك انطباعا مختلفا وشعورا آخر داخل نفس الملك حول
"النحاس" السياسى والإنسان.. وتلك حكاية تستحق أن نتوقف عندها..
يتبع
0 تعليقات