آخر الأخبار

"الولد" الذى حكم مصر!! (8)

 


 

نصر القفاص

 

حتى قضية "الأسلحة الفاسدة" تجرأ "خدم الاستعمار والملكية" على التشكيك فيها.. بعضهم ينكرها إنكارا تاما.. آخرون يزعمون أنها "مفبركة" للإساءة إلى جلالته وزمنه "الليبرالى"!!

 

الحقيقة الثابتة أن تفاصيل القضية تحملها مضبطة جلسة مجلس الشيوخ, بتاريخ 29 مايو من عام 1950.. فى المضبطة ما تحدث به النائب "مصطفى مرعى" فى استجواب وجهة إلى "مصطفى النحاس" رئيس الوزراء آنذاك.. اعتمد النائب منهجا ذكيا فى عرض استجوابه.. فقد بدا أنه له علاقة بواقعة فساد عابرة ذات صلة بمستشار الملك "كريم ثابت" باعتباره تقاضى خمسة آلاف جنيه من مستشفى "المواساة" مقابل مواد دعائية وإعلانات.. لكن الجزء الأكبر والمهم من الاستجواب, كان "مصطفى مرعى" قد أخفاه لحين عرض استجوابه أمام المجلس.. وعرض فى البداية واقعة الفساد العابرة.. ثم وصل إلى الخطير حين قال: "لعلكم تذكرون يا حضرات الشيوخ, أنه حين عقدنا العزم على أن يتوجه جيشنا إلى فلسطين.. قرر مجلس الوزراء القائم حينذاك, أنه يلزم الترخيص لوزارة الحربية أن تتحلل من جميع القيود المالية.. على ذلك أصدر مجلس الوزراء قرارا يوم 13 مايو عام 1948, قضى بذلك لوزارة الحربية.. أصبح مقررا من هذا التاريخ أن وجوه الإنفاق التى تنفقها وزارة الحربية لا تلتزم بالقيود المالية العادية.. فى هذا اليوم أصدر وزير الحربية قرارا شكل فيه لجنة أسماها – لجنة احتياجات القوات المسلحة – وخولها سلطة إبرام الصفقات اللازمة لسد حاجة الجيش من المؤن والذخيرة".

 

بعد هذا التنويه الذى كان يشير إليه النائب "مصطفى مرعى" بصوت خفيض.. راح صوته يعلو وهو يقول: "أصبحت هذه اللجنة يا حضرات الشيوخ المحترمين.. صاحبة السلطة المطلقة فى أن تشترى أو تستولى لحساب الجيش على ما تشاء.. لا يقيدها غير قيد الضمائر, وقيد آخر كان قد احتاط له مجلس الوزراء – حكومة النقراشى – وهو أن تكون كل صفقة بمستنداتها".

 

بدأ صوت "النائب" يرتفع أكثر وأكثر وهو يقول:"يا حضرات الشيوخ المحترمين.. ستسمعون منى المزعج والمؤلم.. لكن أرجو أن تقدروا أن ليس عيبا أن نخطىء.. فالخطأ جائز.. ومن لا يخطىء لا يعمل.. لكن العيب كل العيب ألا نعتبر بأخطائنا وأن نتغاضى عنها وهى قائمة".. ثم أضاف: "كان هناك موردون للذخيرة والمؤن للجيش.. منهم موردون ما سمعت عليهم سوء.. وكان هناك موردون غير ذلك.. كانوا بحيث اعتقد رجالنا فى جبهة القتال أن هناك من هو متآمر عليهم لكيلا ترسل لهم ذخيرة القتال".

 

راح صوت "مصطفى مرعى يجلجل وهو يقول: "يا حضرات الشيوخ.. سأسوق لكم أمثلة, لأن ما عندى كثير.. وما عند رئيس الديوان – ديوان المحاسبة – أكثر.. وما عند الله أكثر وأكثر.. أعظم وأضخم.. مورد مصرى اسمه – رودى رجيلة – كان فى خدمة بنك من البنوك, وصدر ضده حكم من محكمة الجنايات.. اتفق هذا الشخص مع لجنة احتياجات القوات المسلحة على أن يورد خمسين ألف طلقة مضادة للدبابات, مشروط فيها أن تكون مطابقة للنوع الأمريكي وبنفس المواصفات للمواد المكونة لها والخواص والمفعول.. اتفق أن تدفع الدولة ثمنا لكل طلقة تسعة آلاف ليرة إيطالية, فبلغ مجموع قيمة هذه الصفقة 450 مليون ليرة إيطالية.. كان هذا فى فبراير سنة 1949, وفى شهر مارس أوفدت الوزارة مفتشا للذخيرة والمفرقعات مع اثنين من المدنيين لفحص الطلقات موضوع العقد واختبارها ومراقبة صنعها".

 

أنقل من مضبطة مجلس الشيوخ, ما أضافه النائب قائلا: "إذا بهذا المفتش ورفيقيه يقولون فى تقرير رسمى أن ما يصنع جديدا فى إيطاليا هو الدانة والبارود الأسود فقط.. أما باقى العبوات كالطابة والمادة المحطمة للدانة والمادة القاذفة والظرف النحاس, فهى مستخرجة من مخلفات الجيوش الأمريكية الغير صالحة للاستعمال.. جرى التفتيش عليها لتحليلها بواسطة الضابط مفتش المفرقعات المنتدب لهذه المأمورية.. وعملية التفتيش والتحليل وحدهما غير كافيتين للحكم على صلاحية هذه الذخائر.. كان يجب إجراء اختبار بالضرب الفعلى.. وهذا أمر قالوا أنه غير ممكن إجرائه بإيطاليا فى شركة مخلفات الجيوش!!.. فتم الاتفاق على إرسال الذخيرة لمصر, ولا يتقرر صلاحيتها للاستعمال قبل إجراء اختبار لكل رسالة بالضرب الفعلى.. فإذا كانت صالحة يتم صرف ثمنها.. ويوم 8 مايو سنة 1949 وردت إلى مصر 500 ألف طلقة شديدة الانفجار, اتضح باختبارها بالضرب الفعلى أنها غير صالحة لرداء العبوة القاذفة.. والدليل عدم حدوث احتراق كامل, مما تسبب فى تحلل بقايا منها بماسورة المدفع.. كما أن الدانة لم تصل إلا لمنتصف مسافة الهدف.. تتابع الاختبار فى أكثر من 16 ألف قذيفة".

 

ثم قال النائب: "إننى أتعجب غاية العجب, لأننى لم أجد أحدا يذكر ما جاء فى التقرير من أن هذه الذخيرة غير صالحة للاستعمال.. بل سكتوا ليتوالى الإرسال, فصار ما تم إرساله 23 ألف قذيفة غير صالحة.. ولم تقف المسألة عند هذا الحد, لكن هذا المورد قام رغم هذا كله.. بتوريد خمسين ألف طلقة للسلاح البحرى الملكى.. تبين أنها جميعها فاسدة ومصابة بالصدأ.. بل هى كهنة!!".

 

مضى "مصطفى مرعى" فى تقديم الوقائع على هذا النحو بالتفاصيل.. حتى قال: "إننى أرى فاجعة تتجمع فى الأفق, وأرى أن القالة – اللغط – قد انتشرت فى الداخل والخارج.. إننى أرى أن الحكم قد فسد.. أرى تجارة النفوذ راجت.. وهذه أعراض هذا الفساد".

 

تلقف "إحسان عبد القدوس" الاستجواب الذى هز مصر وزلزل عرش الملك, وكتب فى "روز اليوسف" بوضوح: "لقد أثبت الاستجواب أن ضباطنا وجنودنا لم تهزمهم جرأة العدو وحنكته.. إنما هزمتهم جرأة موردى السلاح الذين تعاملت معهم وزارة الحربية.. تم طرح أسئلة, كان كل الشعب يعرف إجابتها.. جاء فيها.. من هو الضابط الذى يملك قصرا فى جزيرة كابرى؟! – كان يقصد حلمى حسين - لماذا يستورد النبيل عباس حليم سلاحا؟! لماذا تدافع بعض الصحف عن المليونير المتهم؟! لماذا كانت القنابل اليدوية تنفجر باللمس؟! ماهى أسماء الضباط – عددهم 28 ضابط – الذين أعلنوا استعدادهم للإدلاء بالشهادة؟!".

 

تفاصيل الاستجواب.. ما تناولته الحملة الصحفية كانت تستهدف الملك شخصيا, باعتباره كان الراعى الرسمى لهذه الصفقات.. فاحت رائحة رجال الملك وراحت ألسنة العامة تتحدث عن "أنطوان بوللى" و"محمد حسن" القريبين من الملك.. و"محمد حسن" كان شماشرجى ينحنى أمامه كبار رجال الدولة.. أصر الملك على إزاحة "محمد حسين هيكل" عن رئاسة مجلس الشيوخ عقابا له على السماح بهذا الاستجواب وتفجير الفضيحة!!

 

كان الملك قد عقد هدنة مع "الوفد" ووافق على أن يشكل "النحاس" الوزارة.. وتحولت العلاقة بينهما من عداء إلى صداقة.. حدث ذلك لأن "مصطفى النحاس" تعاطف معه فى فضيحة أمه وأخته اللتان كانتا تعيشان فى الولايات المتحدة الأمريكية.. وكانت أسماء "إلياس أندراوس" مستشار الملك الاقتصادي وصديقه.. و"كريم ثابت" مستشار الملك الصحفى وصديقه لا تكف الألسن ولا الصحف عن تناول فسادهما.. إضافة إلى "حلمى حسين" سائق الملك الذى نهره يوما "عزيز المصرى" – رئيس الأركان – لتجرئه على دخول نادى الضباط والتحدث معه.. فقرر الملك أن يرتدى سائقه البدلة العسكرية, ويضع على كتفه نجمتين.. وراح يرقيه بعد ذلك حتى أصبح من كبار القادة برتبة أميرالاى, وجعله يترأس بعثات شراء الأسلحة من أوروبا.. لأنه كان مسئول عن إيداع العمولات التى يحصل عليها الملك فى بنوك سويسرا.. فقد أثبتت التحقيقات فى قضية الأسلحة الفاسدة أن الملك حصل على مائة ألف جنيه فى صفقة قيمتها ثلاثة ملايين جنيه.. واعترف "إدموند جهلان" أحد مستشاري الملك, بأنه حول مبلغ السمسرة فى إبريل عام 1949 لحساب الملك فاروق.. كان ذلك الاعتراف عن عملية واحدة!!

 

كل هذا وغيره من وقائع وأحداث اعتقد البعض أنها سقطت من ذاكرة التاريخ.. هؤلاء يروجون للزمن التعيس على أنه عصر ذهبى, هدمته ثورة 23 يوليو.. أخفوا أخطر الوثائق وأكثرها أهمية.. تلك كانت مذكرة رفعها عدد من ساسة هذا الزمان لجلالته يوم 18 أكتوبر عام 1950, وهى منشورة فى الصحف بأسماء الذين وقعوها.. كان بينهم "إبراهيم عبد الهادى" و"د.محمد حسين هيكل" و"مكرم عبيد" و"عبد الرحمن الرافعى" والشيخ "على عبد الرازق".. وجاء فى هذه المذكرة: "تجتاز البلاد اليوم مرحلة قد تكون من أدق مراحل تاريخها الحديث.. ومن أسف أنها كلما اتجهت إلى العرش فى محنتها حيل بينها وبينه.. لا لسبب إلا لأن الأقدار قد أفسحت مكانا فى الحاشية الملكية لأشخاص لا يستحقون هذا الشرف, فأساءوا النصح وأساءوا التصرف.. بل أن منهم من حامت حول تصرفاتهم ظلال كثيفة من الشكوك والشبهات, هى الآن مدار التحقيق الجنائى الخاص بأسلحة جيشنا الباسل.. حتى ساد الاعتقاد بين الناس أن يد العدالة ستقصر حتى عن تناولهم بحكم مراكزهم.. كما ساد الاعتقاد أن الدستور والنظام النيابى حبر على ورق.. فقد زيفت الانتخابات قبل تكوين مجلس النواب!! إن احتمال الشعب لابد أنه منته إلى حد.. إننا نخشى أن تقوم فى البلاد فتنة لا تصيب الذين ظلموا وحدهم.. بل تتعرض فيها البلاد إلى إفلاس مالي وسياسي وخلقي".

 

كل هذا كان واضحا ومعلنا.. كل هذه وقائع وأحداث ثابتة.. حتى التحذيرات التى قالت للملك أن الدستور ومجلس النواب أصبحا حبرا على ورق فى الزمن "الليبرالى" محفوظة فى ذاكرة التاريخ.. يصعب شطبها.. يجوز التعتيم عليها.. ممكن تشويهها بالأكاذيب التى لا يكف "خدم الاستعمار والملكية" عن ترديدها!!

 

لكن حتى أصدقاء الملك ومستشاريه سجلوا شهاداتهم التى تجعل من يملكون حمرة الخجل يعتذرون لوطنهم وشعبهم.. وللحديث بقية..

 


"الولد" الذى حكم مصر!! (7)


يتبع

 



 

إرسال تعليق

0 تعليقات