آخر الأخبار

الدور المصري .. فرض الجغرافيا والتاريخ.

 


 

بقلم : عمرو صابح

 

فى بداية عام 1954 أصدر الضابط الشاب جمال عبد الناصر قائد ثورة 23 يوليو كتابه " فلسفة الثورة" .

 

شرح جمال عبد الناصر فى الجزء الثالث من الكتاب نظريته عن الدوائر الثلاثة التى يجب أن تتحرك فيها السياسة المصرية ، لتضمن مكانتها كقوة إقليمية عظمى ومؤثرة فى مجالها الحيوي.

 

هذه الدوائر هى الدائرة العربية تحيطها الدائرة الأفريقية وتحيطهما الدائرة الإسلامية .

 

أكد جمال عبد الناصر أن مصر لا تستطيع الفكاك من دورها الذى فرضته عليها الجغرافيا، وأثبتته وقائع التاريخ.

 

كتب جمال عبد الناصر:

"إن القدر لا يهزل، ليست هناك أحداث من صنع الصدفة ولا وجود يصنعه الهباء.ولن نستطيع أن ننظر إلى خريطة العالم نظرة بلهاء لا ندرك بها مكاننا على هذه الخريطة ودورنا بحكم هذا المكان.

 

أيمكن أن تتجاهل أن هناك دائرة عربية تحيط بنا، وإن هذه الدائرة منا ونحن منها، امتزج تاريخنا بتاريخها، وارتبطت مصالحنا بمصالحها، حقيقة وفعلاً لا مجرد كلام؟

 

أيمكن أن تتجاهل أن هناك قارة أفريقية شاء لنا القدر أن نكون فيها، وشاء أيضاً أن يكون فيها صراع مروع حول مستقبلها، وهو صراع سوف تكون أثاره لنا أو علينا سواء أردنا أو لم نرد؟

 

أيمكن أن نتجاهل أن هناك عالماً إسلامياً تجمعنا وإياه روابط لا تقر بها العقيدة الدينية فحسب وإنما تشهدها حقائق التاريخ؟ وكما قلت مرة: أن القدر لا يهزل".

 

بعد حرب أكتوبر 1973 بدأت حملة شرسة على عبد الناصر وسياساته فتم اتهامه أنه رجل مجنون زعامة وعاشق لهتافات الغوغاء وباحث عن المشاكل ، وارتفع شعار عجيب وهو مصر أولاً!!

 

وكأن مصر كانت ثانياً أو ثالثاً خلال حكم جمال عبد الناصر؟!!

 

هل بنى عبد الناصر السد العالى وأقام القطاع العام وشيد أكثر من ألف مصنع ووزرع الأراضي على الفلاحين ومنح العمال حقوقهم خارج مصر؟!!

 

طوال عقود حكم السادات ومبارك أصبحت وجهة الحاكم هى البيت الأبيض ودول أوروبا ، وتم تبديد أرصدة ثمينة لمصر فى أفريقيا وأسيا وأمريكا اللاتينية.

 

حرب 1967 كان هدفها الرئيسي هو اسقاط نظام حكم جمال عبد الناصر، لأن هذا النظام تخطى الحدود المسموح بها عبر الدور الذى يلعبه فى دعم حركات التحرر الوطنى ، ومساندة الثوار ، ومحاربة الانظمة العميلة للاستعمار، كما انه أقام اقتصاد تنموي مستقل غير تابع للاحتكارات الرأسمالية العالمية ، سياسات نظام جمال عبد الناصر كانت عقبة وسبب رئيسي فى تعطيل المشروع الأمريكي فى العالم العربي.

 

فى عام 1969 وبعد عامين من هزيمة 1967 ، انفجرت الثورة فى ليبيا بقيادة ضباط يعتبرون جمال عبد الناصر زعيمهم ، رغم الهزيمة ظل عبد الناصر قادراً على إلهام الشباب العربي بأفكاره .

 

بعد ثورة القذافي تحولت ليبيا من قاعدة للعدوان على مصر من القواعد البريطانية بها فى عام 1956 ، والقواعد الأمريكي بها فى عام 1967 ، إلى احتياطى استراتيجي مضاف للقوة المصرية.

 

خلال حديث للرئيس "جمال عبد الناصر" لوفد من القادة السوفيت برئاسة " ليونيد بريجينيف" خلال زيارته الأخيرة للاتحاد السوفيتى فى يوليو 1970 قال:

 

" مصيركم كقوة عظمى على المحك وليس مصير نظام حكمى فقط ، قبل الثورة الليبية كان إسقاط النظام المصري هدفاً أمريكياً ، والآن يُعلن الأمريكيون بوضوح إن إسقاط النظام المصري ضرورة".

 

رغم غرابة أطوار القذافي وتقلباته إلا أنه لم يشكل أبداً خطر على الأمن القومى المصري طيلة 40 عام من حكمه لليبيا.

 

دعم جمال عبد الناصر لحركات التحرير الأفريقية وإقامته لشركة النصر للتصدير والاستيراد التى فتح بها القارة الأفريقية بقوة مصر الناعمة ، وعلاقاته بإمبراطور إثيوبيا هيلاسيلاسي التى تراوحت بين العصا والجزرة بدعم ثوار أريتريا إذا خرج الإمبراطور عن حدوده ، وبمعامله هيلا سيلاسي بإحترام بجعل أديس أبابا مقر منظمة الوحدة الأفريقية عند إنشاءها فى عام 1963 ، ودعوته لحفل افتتاح الكاتدرائية المرقصية عام 1968 ، كانت كلها سياسات تهدف لحماية مصالح مصر الحيوية.

 

لم يكن عبد الناصر محكوماً بجنون العظمة أو حب الزعامة بل كان بعيد النظر باحثاً عن مصالح مصر ومحافظاً على مقتضيات أمنها القومي.

 

دار الزمن وبعد أكثر 41 سنة من حكم سياسات السادات ومبارك المناقضة شكلاً وموضوعاً لسياسات عبد الناصر ، ومع استغلال حالة الفوضى التى تسود العالم العربي منذ 2011 ، ومع تفاقم حالة السيولة فى النظام العالمى الجديد بسبب تخبط سياسات ترامب الخارج على المؤسسة الحاكمة فى أمريكا والتى تسعى لاسقاطه بشتى السبل ، جاء أوان دفع مصر لثمن سياسات 41 سنة افتقرت للبصيرة وغابت عنها الرؤية السليمة لمقتضيات أمن مصر القومى.

 

المعركة فى سيناء والمعركة فى ليبيا ومعركة الحفاظ على حقوق مصر التاريخية فى مياه نهر النيل هى كلها معركة واحدة.

 

لا تستطيع مصر التخلي عن دورها فى مجالها الحيوي عربياً وأفريقياً وإسلامياً ، فلا يمكن لمصر أن تنتحر تاريخياً.

 

دور مصر فى مجالها الحيوي هو فرض الجغرافيا والتاريخ عليها ، ولا مهرب منه.

 

غياب مصر عن القيام بمهام دورها فى مجالها الحيوي فى العالم العربى وفى أفريقيا وفى العالم الإسلامي خلال عهدي السادات ومبارك، ترك المجال مفتوحاً لإسرائيل وتركيا وإيران للتصارع على لعب دور القوة العظمى فى الشرق الأوسط وفى العالم الإسلامي، كما ترك المجال مفتوحاً لحكومات إثيوبيا لكى تعربد فى دول حوض النيل، كما أن الانسحاب المصري من أفريقيا فى عهد مبارك، أغرى جنوب أفريقيا بمحاولة احتلال دور مصر الأفريقي.

 

وصدق الرئيس جمال عبد الناصر عندما اختتم كتابه فلسفة الثورة :

" ثم أعود إلى الدور التائه الذي يبحث عن بطل يقوم به..

 

ذلك هو الدور، وتلك هي ملامحه، وهذا هو مســرحه.

 

ونحن وحدنا بحكم «المكان» نستطيع القيام به".

 

بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر بنصف قرن ، لم تتم حتى الآن عملية قراءة كاملة لتراثه الفكري رغم صدور ألاف الكتب عنه ، للأسف قام البعض بتحويل تراثه لكهنوت جامد ، واحترف البعض الأخر مهنة النباش الباحث عن السلبيات وتسليط الضوء عليها بحجة تقديم قراءة نقدية موضوعية للفكر الناصري!!

 

ونسى هؤلاء النباشون أن الباحث عن قراءة نقدية موضوعية لتراث عبد الناصر الفكري ، يجب عليه ألا يقتطع جملة من هنا وجملة من هناك ثم يقيم أحكامه النقدية الموضوعية عليها كما يدعي!! بل يجب عليه قبل إصدار أى حكم أن يقرأ تراث الرجل العظيم كاملاً ثم يقوم بنقده.

 

إعادة قراءة تراث جمال عبد الناصر الفكري ليست إبحاراً فى الماضي ، وليست تقليباً فى دفاتر التاريخ ، بل هى ضرورة قصوى من أجل مستقبل مصر.

 

إرسال تعليق

0 تعليقات