خالد عكاشة
وفق القواعد الدولية المتعارف عليها تتخذ الشركات الاستثمارية
الكبرى قراراتها الاستراتيجية؛ بعد دراسات معمقة لكافة المتغيرات التي تطرأ عادة
من حين لآخر، على البيئة الكلية لساحة العمل والأنشطة والمدخلات المرتبطة بها، وهي
دراسات تشمل كافة الاعتبارات الأمنية والسياسية ثم الاقتصادية وفق هذا الترتيب، من
أجل الوصول إلى الهدف الرئيسي لهذا الشركات وهو تحقيق الربح من خلال استثمار آمن،
ومتوازن، بما يضمن لها التطور والنمو بأفضل صورة ممكنة تحقق مصالح تلك الشركات
الكبرى.
الاثنين الماضي؛ وفي أول يوم عمل بالأسواق العالمية، خرجت شركة
"تيسلا" للسيارات بإعلان مثير للغاية، حول قرارها باستثمار (1.5 مليار
دولار) في عملة "بتكوين" الرقمية، فضلا عن قبولها لهذه العملة
الافتراضية في عمليات السداد مقابل منتجاتها. أعقب هذا الإعلان المفاجئ ارتفاع سعر
عملة "بتكوين" بشكل كبير ليبلغ مستوى قياسيا جديدا فاق حاجز الـ (43 ألف
دولار)، خلال يومين عمل فقط، خاصة بعد أن قامت الشركة باصدار وثيقة رسمية تخص هذا
القرار، وجهت في الساعات الأولى الاثنين لهيئة الأوراق المالية والبورصات
الأميركية. وفي تعليقها على هذا الزلزال الحقيقي؛ ذكرت أنها غيرت مؤخرا سياستها
الاستثمارية بهدف تنويع مصادر سيولتها، وكسب مزيد من المرونة لتكون أكثر قدرة على
الدفع لمساهميها، باعتبارها شركة عامة يتم تداول أسهمها في بورصة
"ناسداك" بشعار (TESLA)، حيث وصلت الشركة التي تأسست في يوليو 2003 برأس مال لم يتجاوز
(10 مليون دولار) إلى قيمة سوقية، قدرت في يوليو 2020 بـ (206.5 بليون دولار)
متجاوزة للمرة الأولى شركة "تويوتا"، ولتتربع على عرش شركة السيارات
الأعلى قيمة بالعالم.
الزلزال لم يقف عند حد شركة "تيسلا" فحسب، فقطاع كبير من
المستثمرين حول العالم اتخذ خطوة تيسلا، كإشارة إلى أن "بتكوين" ستصبح
أصلا ماليا رئيسيا خلال أعوام قليلة قادمة. هذا في الوقت الذي لم تهدأ فيه
الانتقادات الموجهة لهذه العملة الافتراضية منذ ظهورها، فقد أنشأها مجهولون
وتديرها شبكة لا مركزية تجعلها متقلبة بشكل كبير ويصعب التنبؤ بسعرها، وباعتبار
أنها من أشكال النقود الرقمية فهي ليس لها شكل مادي، لذلك يظل التداول على وحداتها
الرقمية عبر شبكة الكمبيوتر. ويبدو الإطار الوحيد الذي يمكن الحديث بشأنه، أنها
تعمل عبر شبكة عالمية تضم مئات الآلاف من العقد، في أجهزة داخل شبكة مثل الكمبيوتر
أو بعض الأجهزة الأخرى المماثلة، والتي تقوم معا بمعالجة المعاملات وتخزينها. وهي
صيغة ضبابية وزئبقية إلى حد كبير ومع ذلك، ارتفعت أسهم الشركات التي توفر منصات
تداول الـ"بتكوين"، والتكنولوجيا المسؤلة عن تعدين العملة المشفرة في
كلا من الصين وكوريا الجنوبية وأستراليا، كما ارتفعت أيضا أسهم شركات تصنيع رقائق
الكمبيوتر الكبيرة وأشهرها شركة "إس كاي هينيكس". كما شهدت العملة ذاتها
ارتفاع في قيمتها بنسبة تجاوزت 60% فيما مضى من أسابيع معدودة من هذا العام، علاوة
على ما شهدته من ارتفاع بنسبة وصلت 300% في عام 2020. فيما كان يبحث المستثمرون
خلال عام "جائحة كورونا" عن أصول بديلة، في الوقت الذي كانت أسعار
الفائدة في العديد من البلدان تقبع عند مستويات منخفضة قياسية.
الصين خلال سباقها المحموم لضمان حجز مقعد الصدارة في هذا التداول
والاستثمار المستقبلي من وجهة نظرها، بدأت في تبني إصدار عملاتهم الرقمية الخاصة
للاستخدام اليومي، رغم أن البنوك المركزية الكبرى لاتزال متشككة بشأن العملة
الجديدة. ولعل تحذير "أندرو بيلي" محافظ بنك إنجلترا من استخدام
البيتكوين كوسيلة للدفع، يعد أشهر تلك التحذيرات الصادرة من قبل المتخصصين، وقد أطلقه
في أكتوبر الماضي وتسبب حينها في تكبد العملة لخسائر ليست بالقليلة، وهنا كان
المحافظ يشير إلى افتقارها لـ"القيمة الجوهرية" على عكس النقد أو الذهب.
الكثيرون بالطبع يقفون في صف تلك التحذيرات معتبرينها في اطار الحفاظ على قيمة
الأموال التي يمتلكها كلا من الأشخاص والشركات، من أن تتعرض لهزة ضخمة أو انكشاف
غير محدد معالمه فتتسبب بخسائر واسعة المدى. اليوم ينظر لقرار شركة
"تيسلا" باعتباره يمنح هؤلاء المتخوفين طبقة أخرى، من "دعم
الثقة" بأن العملة المشفرة هي المستقبل القادم لا محالة، خاصة وأنها تخضع
الآن للتداول بالطريقة نفسها التي تتداول بها عملات حقيقية كالدولار الأمريكي
والجنيه الإسترليني. ومع مضي الوقت تحظى "بتكوين" بدعم متزايد كوسيلة
للدفع عبر الإنترنت، حيث يعد موقع (PayPal) أحد أهم المواقع التجارية الشهيرة عبر الإنترنت التي تعتمد
استخدام العملات الرقمية كوسيلة للدفع، ومع الإشارة إلى التنامي الهائل في قيمة
الشراء عبر الإنترنت حول العالم، تصبح المعادلة مرشحة للتوسع وللاستقرار بالنسبة
للعملة الجديدة بشكل أوسع مما هي الآن.
لكن الصورة ليست وردية بالكامل، فهناك مساحات القلق التي لم تنقشع
بعد فيما يخص هذا الشكل من التطور النقدي، فتاريخ "بتكوين" ذاتها يحمل
العديد من التذبذبات الخطيرة والمرشحة للتكرار، فالعملة الرقمية سجلت عام 2017
ارتفاعا مشهودا شارفت به على قيمة الـ (20 ألف دولار) لكنها ما لبثت أن تردت إلى
أدنى مستوياتها في العام الذي يليه إلى ما دون (3300 دولار). وتبقى المساحة الأخطر
من مجرد تذبذب القيمة على أهميتها بالطبع، لكن حتى الآن ظلت الهواجس الأمنية حول
استخدام "بتكوين" في الأعمال والنشاطات غير المشروعة، هي الأبرز في
تخوفات هذا التحول غير المحسوب. مؤخرا جاء في خطاب "جانيت يلين" وزيرة
الخزانة الأميركية الجديدة الموجه إلى مجلس الشيوخ لتأكيد تعيينها، أن العملات
الافتراضية تستخدم بشكل رئيسي لتمويل أنشطة غير مشروعة وتمثل مصدر "قلق
خاص"، للنظام المصرفي العالمي، حيث انحازت إلى أن الحكومة الأميركية عليها أن
تدرس وسائل للحد من استخدامها، وضمان ألا تصبح العملة الجديدة وسيلة سهلة لعمليات
تبييض الأموال.
على هذا المفترق تقف اليوم أكبر شركات الولايات المتحدة، بين
خطوتها المزلزلة التي وصفت بأنها قدمت أقوى دعم في تاريخ العملة المشفرة، وبين
مساحات الخطر من القفز على هذه العملة الزئبقية ـ حتى الآن ـ ليجري استخدامها في
كافة ما هو غير قانوني، الذي يبدأ بغسيل الأموال وقد لا ينتهي عند التنظيمات
الإرهابية التي اخترقت مبكرا هذه التقنية، ولها فيها استثمارات بالملايين لم يتمكن
أحد حتى الآن من كشف أغوارها.
0 تعليقات