د. حازم الرفاعي
تضاعف سكان مصر في العقود الماضية من ٤٠ مليوناً عام ١٩٨٠ إلى ٩٠
مليوناً في ٣٠ عاماً. وها هي الأرقام تشير إلى أن عدد سكان مصر سيصل إلى ١١٩ مليون
في عام ٢٠٣٠. والمأساة السكانية المصرية لا تتشابه إلا مع تلك في باكستان التي
سيقترب تعدادها من الـ ٢٤٠ مليوناً عام ٢٠٥٠ في بلد تقارب مساحته ولاية تكساس
الأمريكية. وفي احتفال حضره عدد لا بأس به من الوزراء دشن رئيس الوزراء اليوم
القومي للسكان. تكررت الجمل المعتادة وبعض الأرقام وانتهي الأمر. فللقوى السياسية
المصرية كلها تقريباً (موقف سلفي) من قضايا السكان، ومن السياسات الإنجابية. فهناك
شبه توافق بينهم ان أثاره موضوع السكان هو محاولة للتنصل من المسئولية السياسية عن
التدهور والانحطاط العام المحيط بالبلاد؛ بل وهناك من يرون أن قضايا السكان هي مجرد
سوء توزيع للسكان متجاهلين حقيقة الصحارى المصرية الواسعة وندرة المياه التي صارت
هاجساً قومياً. تختزل قضايا السكان إلى قضية طبية يتسيد الصف الأول فيها رجال
التكنوقراط من المهنيين الأطباء، ويقف الساسة وكوادرهم في الصف الثاني ، يقف
الساسة خلف الأطباء لأنهم في الأغلب غير قادرين علي مواجهه الأزمه. يتصدر الأطباء
الصف الأول، فيقتصر دورهم على إنشاء عدد من عيادات تنظيم الأسرة، عيادات لا تطرق
أبوابها النساء ولا الرجال. وكيف يذهبون إليها بينما منظومة الصحة في البلاد
منظومة مهترئة، ليس لها رسالة أو فلسفة صحية اجتماعية محددة تجاه عشرات القضايا
والعناوين الصحية. فكيف إذن نكون جادين إذا كنا نترك أمر الانفجار السكاني لأطراف
جهاز الدولة ولأضعف حلقاتها وهي المحليات ووزارة الصحة!
ولقد صارت قضايا السكان اليوم جزءاً أساسياً من السياسات الكونية
للقوى الأعظم وهي الولايات المتحدة، فالفكر السياسي الغربي مصاب بهاجس حساسيه
التوازن السكاني فتلك المجتمعات الثرية سوف تفقد تميزها ورغد العيش إذا غمرها
فيضان المهاجرين. وهناك مؤسسات كاملة تدرس قضايا الهجرة بشكل علمي مبني على أرقام
دقيقة وإحصائيات متتابعة مرنة وديناميكية، فهي تفتح الأبواب لقطاعات وكفاءات
تختارها وربما لأجناس معينة للحفاظ على تميز المجتمع واتساقه.
لقد كان المفكر البريطاني مالتوس هو أول من اقتحم قضايا السكان
عندما نشر بحثه الصغير عام ١٨٢٦ الذي استخدم فيه حالة (المجاعة الدائمة في الهند)
لإثبات أفكاره عن دور المتوالية الهندسية للزيادة السكانية في التهام الموارد.
وتعرض مفهوم السيطرة على الانفجار السكاني لنقد كبير من الاشتراكيين حول العالم
ومنهم المفكر المصري الكبير رمزي زكي الذي أفرد بحثا باسم (المشكلة السكانية
وخرافة المالتوسية الجديدة). لكن الصين حسمت الأمر بتجربة عملية تسد عين الشمس كما
يقولون. فلقد اعتبر الحزب الشيوعي الصيني في عام ١٩٧٩ (أن تغييراً في حياة الناس
هو مستحيل في إطار سياسة الأسرة ذات الطفلين). وتبنت التجربة الصينية سياسة سكانية
جريئة ومثيرة للجدل حيث تبنت الدولة بكل أجهزتها مفهوم الأسرة ذات الطفل الواحد،
وتمكنت من تنفيذه بجدية، ولولاه لكان عدد سكان الصين اليوم ٢ مليار إنسان أي أن
الصين تمكنت من منع ٤٠٠ مليون حمل غير مرغوب. وتضافرت عوامل النهضة الصينية ولكنها
في النهاية أثبتت أن (سياسة سكانية جادة) هي ضرورة للتقدم. والتجربة الصينية ليست
وحيدة، فهناك تجارب ناجحة حول العالم تمتد من بنجلاديش الفقيرة إلى سنغافورة
الثرية.
إن مصر ليست الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تشهد انفجارا
سكانياً، بل إنه يمتد حولنا من السعودية التي بلغ تعداد سكانها ٢٩ مليوناً عام
٢٠١٢ بينما كان ٤ ملايين عام ١٩٦٠ وإلى إثيوبيا التي يقال إن تعداد سكانها وصل إلى
٩٠ مليوناً بينما كان ٢٢ مليوناً عام ١٩٦٠. تلك الأرقام المذهلة لا يمكن استيعابها
إلا إذا قارناها ببلد كالمملكة المتحدة التي يبلغ تعداد سكانها الآن ٦٤ مليوناً
بينما كان ٦٠ مليوناً عام ١٩٦٠. ومما لا شك فيه أن البلاد العربية المحيطة بمصر
والتي كانت تتقبل هجرة المصريين سوف تتوقف عن ذلك لتغير طبيعتها السكانية ذاتها.
وتقف مصر اليوم في انتظار موجة كبيرة من ازدياد السكان فهذا "المجتمع
الشاب" سيظل يواجه حلقات متتابعة من الفيضان السكاني مع دخول موجات بشرية
بالملايين سن الإنجاب. إن معدل الاستبدال السكاني هو طفلين للمرأه بينما يبلغ
“معدل الخصوبه” للمرأه المصريه ٣.٣ طبقا لتقديرات البنك الدولي في عام ٢٠١٣. وتقف
قناعات المصريين بحجم الأسرة المرغوبة لأكثر من فردين عند ٦٠٪ كعائق حقيقي للسيطرة
على الانفجار السكاني.
إن عجز المجتمع عن التعامل مع حالات (الحمل غير المرغوب فيه) يتمثل
أمامنا في مشكلة أطفال الشوارع، فالتقديرات المتحفظة لعدد أطفال الشوارع يتجاوز
نصف المليون، مما يمثل ظاهرة اجتماعية في غاية الخطورة لن تستطيع مواجهتها النوايا
الحسنة للجمعيات الأهلية، التي تسعى لرعاية هؤلاء الأطفال، فنشاط تلك الجمعيات
سيظل مسكنا لا أكثر. والمتتبع لأخبار العالم يعرف أن مصر ليست وحدها في مواجهة تلك
المشكلة. فالبرازيل مثلاً ذات الديانة الكاثوليكية عجزت قانوناً ودستوراً عن أن
تتعامل بجدية مع قضايا الحريات الإنجابية، ولهذا واجهت البرازيل مشكلة جد هائلة في
أطفال الشوارع وأعدادهم الضخمة. وربما تجدر الإشارة أن قضية السكان هي قضية سياسية
لا تنفصل عن السعي بجدية للتخلص من قبضة رجال الدين والإخوان والسلفيين على
المجتمع، وربما لا تكون مفارقة إذا تعرفنا على حجم أسر قيادات الإخوان المسلمين
الذين كان العديد من أبرز أسمائهم أباً لستة أو لثمانية أطفال. إن الـ ٣٠ من يونيو
يفتح بارقة أمل في مواجهة أزمة خطيرة كان من المستحيل مواجهتها في ظل سيطرة جماعة
الإخوان المسلمين. ولكن المواجهة لن تكتمل إلا بدفع دماء العلمانية والحداثة
وتوطين العلم في أطراف الأطراف من المجتمع.
إن سياسة جريئة تميز الأسر ذات الطفل الواحد هي حق لأصحاب تلك
الأسر؛ وإن سياسة جريئة تشجع البنات لتأخير الحمل لأواخر العشرينات هو حق لهم؛ وإن
تمييز الأسر التي تؤجل الحمل الثاني لسنوات خمس هو حق لهم. إن السياسات السكانية
تتجاوز قضايا الدعاية والإعلانات التلفزيونية واللافتات في الشوارع لسياسات تتداخل
مع حياة الأفراد والنساء. ويكفي أن يقال إن أي حديث عن تعليم الجنس في التعليم يعد
نوعاً من التجاوز الأخلاقي المشين بل وهاهم اطباء النساء والولاده في عموم البلاد
يشجعون حديثي الزواج علي تلافي وسائل الحمل خشيه العقم ! يبقى أن يقال إن بلداً
كمصر لا يستطيع في حقيقة الأمر أن يحيا وحده دون محيطه فلقد كان انتقال الناس عبر
التاريخ بأمتداد وادي النيل حقيقه وضروره وسيظل قضية جادة وليست مجرد شعارات إن
أردنا أن نتبنى المفهوم الواسع للسياسات السكانية متضمنة حراك الناس والهجرة. إن
الاستفادة من البرامج الأجنبية والانفتاح عليها ضرورة إلا أن دورها سيظل
استشارياً. فبالرغم من شراكتنا لدول العالم في قضايا الانفجار السكاني؛ إلا أن
مشروعاً حقيقياً للسيطرة على السكان لن يكون إلا مشروعاً مصرياً فكراً وفلسفة
وممارسة. مشروع سيبقي عاجزا ألا أذا تبنت مصر برنامجاً حقيقيا للتنميه تقوده جبهة
متحدة في عموم البلاد.
من مقال لي في جريده الأهرام سبتمبر ٢٠١٦ ثم مع غيره من المقالات
في كتابي جسر الكلمات الصادر عن دار الفنون والأبحاث العلميه ٨٤ ش قصر العيني
0 تعليقات