نصر القفاص
ظلم "محمد نجيب" نفسه حين كتب مذكراته, وظلمه من
استخدموا هذه المذكرات لضرب "ثورة 23 يوليو" وزعيمها وقائدها "جمال
عبد الناصر" لأن الرجل لا يملك غير أوهام اختلقها, دون أى سند أو دليل أو
وثيقة.. فهو سمع عن تفاصيل راح يذكرها ويمر عليها مرور الكرام رغم أهميتها.
يقول "أول رئيس لمصر" فى مذكراته: "على مكتب رئيس
الأركان اللواء حسين فريد, وجدت مفكرته الخاصة وفيها سجل أسماء ثمانية من أسمائنا
تمهيدا للقبض علينا أو تشريدنا فى اليوم نفسه.. 23 يوليو" ذلك ما سمعه عن
المفكرة.
الحقيقة.. أن المفكرة كانت موجودة فعلا.. وكان فيها تفاصيل تقرير
أرسله "حسين سرى عامر" قائد سلاح الحدود إلى الملك عن طريق شماشرجى
الملك, يوم 29 ديسمبر عام 1951.. قبل انتخابات نادى الضباط.. تحذر من خطورة الدور
الذى يلعبه اللواء "محمد نجيب" ومساعده الأميرالاى "محمد كامل
الرحمانى" فى الانتخابات.. وأنهما يلتف حولهما عدد من الضباط الشباب
المعروفين بالتطرف.. وشملت المذكرة "14 نقطة" كلها تركز على ضرب
القيادات الذين يحترمهم الضباط الشباب, وذكر من بينهم اللواء "فؤاد
صادق".. كما تناولت المذكرة إسم اللواء "على نجيب" قائد حامية
القاهرة.. وتتهم المذكرة حزب "الوفد" بأنه يغذى تيارات سياسية داخل
الجيش!! وتناولت المذكرة الصاغ "ثروت عكاشة" شقيق حرم "أحمد أبو
الفتح" الذى يتبنى هؤلاء بذكر أسماء مرشحيهم فى جريدة "المصرى"..
وتطالب المذكرة بالحزم مع هؤلاء الضباط لفرض الانضباط فى الجيش.. ولم ينس كاتب
التقرير القائد العام "حيدر باشا" الذى يتواصل مع اللواء "محمد
نجيب" لأنه يصدقه بأنه تحت أمره.. بينما الصاغ "إسماعيل فريد"
مساعد "نجيب" يقابل هؤلاء المتمردين!! ويذكر أن المنشورات السرية للضباط
الأحرار يتم توزيعها داخل سلاح المشاة الذى يقوده اللواء "محمد نجيب"..
وتلك المذكرة بتفاصيلها نشرها "ثروت عكاشة" فى مذكراته.
نعود إلى مذكرات "محمد نجيب" التى يقول فيها: "بعد
دقائق من وصولي إلى مقر القيادة, بدأت أرد على المكالمات التى تلقيتها من
الإسكندرية.. حدثنى الفريق حيدر ووزير الداخلية ورئيس الوزراء.. وكانوا يطلبون
تأجيل إذاعة البيان الأول الذي سيذاع مع افتتاح الإذاعة.. فقلت لوزير الداخلية:
نحن مصرون على إذاعة البيان فى موعده, ونأسف لعدم إجراء أية تعديلات فى برنامجنا..
وقلت لرئيس الوزراء لقد استولينا على السلطة لمساعدة الحكومة فى تطهير الأمة من
الفساد.. بينما قال لى حيدر: إن الملك سيعينك وزيرا للحربية ويغفر كل شىء إذا
أوقفت الانقلاب.. قلت له: سوف أدرس الأمر"!!
الحقيقة.. أن تلك القصص كلها لم يذكرها أحد من "الضباط
الأحرار" غير "محمد نجيب".. لأن الحقيقة اختلف البعض على تفاصيل
قليلة فيها.. لكنها بالتأكيد غير ما ذكره "أول رئيس لمصر"!!
فى "مذكراتى" نشر "ثروت عكاشة" خطط التحرك بخط
اليد, وعليها تعديلات أدخلها "عبد الناصر" عند مراجعتها.. ويؤكد على أن
الموعد الذى كان محددا للتحرك هو 5 أغسطس, لكن حدث "ما جعلنا نغير
الموعد".. يقول بالنص: "يوم 20 يوليو.. كنت دعوت حسين الشافعى لتناول
الغذاء معى فى البيت.. أتصل بى أحمد أبو الفتح من الإسكندرية, وقال لى أن هناك
أزمة وزارية ستطيح بحكومة حسين سرى, لأن الملك طلب منه تعيين حسين سرى عامر وزيرا
للحربية - لاحظ أن المنصب كان يشغله رئيس الوزراء - لكنه اعترض تفاديا لغضب ضباط
الجيش, وأشار بتعيين محمد نجيب فى هذا المنصب.. وأبلغنى أحمد أبو الفتح أن النية
تتجه لتشريد أربعة عشر من الضباط - ليس ثمانية - سيزج بهم فى السجون.. حاولت أن
أعرف أسماءهم فلم تكن عنده, وعرفنا بعد ذلك أسماءهم من مفكرة الفريق حسين فريد وقت
اعتقاله"!
يضيف "ثروت عكاشة" فى روايته قائلا: "نزلت أنا
وحسين الشافعى قاصدين منزل جمال عبد الناصر, فوجدناه فى جملة من إخواننا الضباط
كما هى العادة.. اختلينا به لأنهى إليه ما أفضى به أحمد أبو الفتح.. سألنى جمال عن
رأيى.. قلت له: لابد أن يكون الغد هو موعدنا للقيام بالحركة.. ولكى نطمئنه قلت له
وأكد حسين الشافعى أن وحدات الفرسان المهيأة للقيام بالانقلاب قوامها 32 ضابطا..
إضافة إلى 48 دبابة و48 سيارة مدرعة.. فضلا عن الكتيبة الميكانيكية, وتلك القوات
كفيلة بإنجاح الحركة دون انتظار وحدات المدفعية والمشاة القادمة من سيناء"..
وبعد هذه التفاصيل لم يذكر رد "عبد الناصر".. ثم يكشف "ثروت
عكاشة" أن: "فى اليوم التالى.. 21 يوليو.. مر جمال عبد الناصر بمكتبى فى
رئاسة أركان حرب الجيش, وأبلغنى أنه يرى تأجيل التحرك 24 ساعة أخرى حتى تصل وحدات
المشاة.. وفى اليوم نفسه اجتمعنا فى منزل حسين الشافعى مع خالد محيى الدين وعثمان
فوزى.. أعددنا قائمة الضباط الذين سيوكل إليهم مهمة التنفيذ.. شكلنا قيادة رباعية
لسلاح الفرسان يتولى قيادتها أقدمنا وهو حسين الشافعي, وأوكلنا مهمة أركان حرب
العملية لى, ولخالد محيى الدين قيادة الكتيبة الميكانيكية, ويتولى عثمان فوزى قيادة
الخيالة.. بعد اتفاقنا على تفاصيل الخطة, تركنا حسين الشافعى إلى بيت جمال ليعرف
الموعد الذى استقر عليه.. عاد حسين وأبلغنا تأجيل البدء أربعة وعشرين ساعة أخرى".
يضيف "ثروت عكاشة" فيقول: "عاد حسين الشافعى إلى
جمال عبد الناصر يوم 22 يوليو, ورجع إلينا فى الخامسة مساء من عنده ومعه الخطة
العامة التى استخلصنا منها ما سيقوم به الفرسان من واجبات.. أخذت على عاتقى تحويله
إلى خطة تنفيذية, وأقدم للقارىء تلك الخطة العامة بخط عبد الحكيم عامر وإضافات
زكريا محيى الدين وتعقيبات جمال عبد الناصر".
ثم يشرح الخطة ومسارات التحرك وأسماء كل مسئول بالتفاصيل الدقيقة,
ويذكر ما حدث قبل التحرك بساعات فيقول: "تجمعنا فى بيتى لتناول وجبة خفيفة
قبل التحرك.. فوجئنا بجمال عبد الناصر يدخل علينا فى زى مدنى, وكان يرتدى قميصا
أبيض وبنطلون رمادى.. بدا عليه الإرهاق الشديد.. إبتسم فى وجوهنا: جئت على غير
موعد لأطمئن على ما سينهض به سلاح الفرسان.. قلت له مداعبا وتخفيفا لحدة الموقف
وتوتر الأعصاب: عجبا.. عشنا وشفنا سلاح المشاة يريد الاطمئنان على قيام سلاح
الفرسان بواجبه!!..
وهمست فى أذنه: تحب أصارحك ثانية بأن الله خلق ضباط الفرسان أولا
ثم خلق الحصان.. وبعد أمد طويل خلق الله ضباط المشاة.. ضحكنا.. أعدنا مناقشة تطبيق
الخطة فى عجالة.. وحين رافقته مودعا إلتفت نحوى وقال: إخلع عواطفك الليلة.. لا
تفلت أحد يعترض طريقك.. نحن فى مفترق طرق.. إما الحياة وإما الموت.. أحببت أن أبدد
مخاوفه, فقلت له: نحن محيطون بك كسرب من النحل اللاذع.. توكل على الله وسننتزع
الفوز معا.. غادرنا مشرق الوجه".
المهم فيما يرويه "ثروت عكاشة" هو دقته والوثائق
المنشورة ضمن مذكراته.. فضلا عن تفاصيل تهم كل من يريد أن يعرف ماذا حدث ليلة 23
يوليو؟! والأهم أنه دقق ما نشره غيره بالرجوع إلى مصادره, كما فعل فيما يتعلق برؤى
مختلفة ومنها ما جاء فى كتاب "أحمد حمروش" الذى تناول فيه الثورة بعنوان
"أطول يوم فى تاريخ مصر" فقام بنشر رد "خالد محيى الدين"
عليها.. وكما هو واضح أن "جمال عبد الناصر" كان مركز الدائرة.. كان قائد
العملية بأكملها.. فى الوقت الذى قضى "محمد نجيب" يومه فى "نادى
التجديف" ثم ذهب إلى البيت ليكرر آية من القرآن حدثه عنها صديقه السودانى
بناء على رؤية عاشها فى أحلامه!!.. والواضح أن "محمد نجيب" كان ينتظر
التحرك يوم 5 أغسطس!! لأن "ثروت عكاشة" يذكر فقط: "حوالى الساعة
الثالثة صباحا وصل اللواء محمد نجيب إلى حيث كان ينتظره الملازم محمود عبد اللطيف
حجازى ليصحبه إلى مقر القيادة"!!
إذا عدنا إلى حكايات "محمد نجيب" التى لا أمر عليها
عبورا, كما فعلت مع ما أشرت إليه من مذكرات "ثروت عكاشة".. سنجد أن
"أول رئيس لمصر" يقول: "قام أحد ضباطنا بشرح الأهداف العامة لملحق
بالسفارة الأمريكية كان يعرفه.. وكان السفير الأمريكى جيفرسون كافرى ومساعدوه فى
الإسكندرية مع الحكومة.. كذلك اتصل نفس الضابط بالمستر كرزويل القائم بأعمال
السفارة البريطانية, لغياب مستر رالف ستيفنسون.. ولو كان المستر كافرى فى القاهرة
لكنا اتصلنا به مباشرة, لأننا كنا نعتقد ساعتها أنه أحد القلائل من الدبلوماسيين
الذى يستحق أن نثق فيه.. كان هذا الضابط هو على صبرى"!!
الحقيقة.. أن الضابط هو "عبد المنعم أمين".. وليس
"على صبرى".. لكن هذا هو كل ما ذكره "محمد نجيب" عن
"الانقلاب" وخططه وما حدث قبل التحرك يوم 23 يوليو, وأردت أن أكتبه
تفصيلا حتى لا يزعم أحدا أننى اجتزأت.. لأنك قد تندهش إذا قلت لك أنه انتقل إلى نص
البيان الأول, الذى ذكر أنه عكف على إعداده وتجهيزه, ووقعه بعد أن قام الصاغ
"جمال حماد" بتبييضه!!
ثم يذكر أنه تمت إذاعة البيان.. لكنه يذكر بالنص: "عندما سمعت
البيان بصوت اليوزباشى محيى الدين عبد الرحمن, لم يعجبنى صوته.. فقد كان يتعثر فى
النطق, وكان مرتبكا.. مهزوزا.. نظرت إلى البغدادى أو السادات.. طلبت أن يتولى
أحدهما مهمة إعادة البيان بطريقة أفضل, فتحمس السادات وانطلق إلى مبنى الإذاعة..
بعد نصف ساعة كان البيان يذاع بصوته المعبر.. كان البيان يذاع كل نصف ساعة
تقريبا.. وعندما أذيع لأول مرة, كنا نتحكم فى الموقف تماما.. كانت طائراتنا تطير
فى سماء القاهرة والإسكندرية وبعض مدن القناة.. إتخذت الدبابات أماكنها أمام
المبانى العامة والميادين الهامة.. كان هناك ترحيب شعبى هائل"!!
لنا أن نتخيل أن هذه معلومات قائد "الانقلاب" عن
"الانقلاب".. ولنا أن نتخيله ينفث غليونه ويستمع للبيان الأول, فلا
يعجبه صوت قارئه.. فإذا به ينظر تجاه البغدادى والسادات.. وأن السادات يتحمس فيجرى
إلى الإذاعة لإعادة القراءة.. ذلك المشهد وحده كفيل بأن يجعل مأمور قسم مع عدد من
الجنود, يقدر على إحباط هذا "الانقلاب" ويلقى القبض على كل من نفذوه!!
المفاجأة.. أن "محمد نجيب" يحكى قصة لطيفة بعد ذلك,
فيقول: "قبل أن تدق الساعة الثامنة, جاء إلى القيادة أول وسيط بيننا وبين
الملك.. كان مصطفى صادق بك عم الملكة ناريمان.. قال لنا: الملك مستعد لإجابة جميع
مطالب الجيش, بشرط أن تتوجه إليه وتستعطفه لتلبية هذه الطلبات – لاحظ أن البيان لا
يحتوى على أية طلبات – وعندما رفضت عاد مرة أخرى, وقال: الملك موافق بدون
استعطاف.. رفضت!!.. عاد مرة ثالثة, وقال: الملك موافق على أن تؤلف حكومة عسكرية!!
ثم غادر مصطفى صادق القيادة فى هذه المرة, واستقل طائرته إلى الإسكندرية.. بعد
ساعة خرجت للجماهير فى سيارة مكشوفة وطفت بوسط المدينة"!!
تلك هى حفلة "انقلاب 23 يوليو" كما يحكيها فى مذكراته من
يزعمون أنه قائدها "محمد نجيب" وإذا اعتقدت أن الأوهام توقفت ستكون
مخطىء تماما!! فهناك حكايات وقصص مسلية لطيفة, كلها تمهد للدراما التى كانت وراء
خروج هذه المذكرات للنور.. تم نشر حلقات منها للإثارة فى صحيفة "الشرق
الأوسط" السعودية وقت أن كان "محمد نجيب" فى "معتقل
المرج".. الذى هو فيلا "زينب الوكيل" زوجة "النحاس باشا"
وتلك أيضا حقيقة.. فالنشر حدث قبل احتفال مصر بذكرى 23 يوليو عام 1982.. على هيئة
مقالات فى 23 فبراير 1982.. وهنا أدركنا الصباح.. ونعود لاستكمال القراءة فى
مذكرات "أول رئيس لمصر"!!..
يتبع
0 تعليقات