*خالد عكاشه.
الحديث عن تفكك وشيك للدولة الأثيوبية الفيدرالية المتعارف عليها،
أصبح يتجاوز التحذير النظري الذي أنطلق في الفترة الأخيرة من عديد المتابعين ومن
أثيوبي الداخل، ليصبح واقع تؤكده الأحداث حيث يدفع الأخير منها بسرعة تجاه هذا
المنحدر، مما نقل المهتمين والمعنيين إلى مرحلة إعداد السيناريوهات لما بعد
السقوط، في محاولة لتفادي مغبة التشظي الذي بدأت أماراته وشواهده تلوح على الأرض.
ما أجمع عليه من يهمهم أمر أثيوبيا حتى أعداءها أو منافسيها، أن هذا مآل خطر يحمل
انكشاف استراتيجي كبير للقرن الأفريقي الكبير بالمسمى الدولي، والذي يضم فيه
المشرق الأفريقي الذي يبدأ من السودان وجنوبها وصولا إلى سواحل البحر الأحمر
والمحيط، فيما تضم هذه المساحة من دول، حيث تتشابك هذه الدول مع أثيوبيا في كثير
من مفردات الأمن والاتزان الاستراتيجي الذي صار مهددا أكثر من أي وقت مضى.
ملامح التفكك الماثلة منذ سنوات؛ والذي جاءت التطورات الراهنة
بالداخل الاثيوبي وعلى خطوط تماسها الحدودية لتعمقها وتجعل هذا الهاجس له اليوم ما
يبرره. يبدأ من مساحات الاقتتال الداخلي التي تدور ما بين الأقاليم والعرقيات
المختلفة، حاولت إدارة الحكم الفيدرالي في أديس أبابا تصوير صراعها مع
"التجراي" عرقية وإقليم، باعتباره شكل من أشكال فرض المركز للأمن
المنفلت، لكن تداعي الأحداث وانكشافها أخذت المشهد برمته إلى أبعاد أخرى، لم تقف
عند حد الانتهاك الإنساني الفادح لأبناء العرقية بل وصلت لحد فتح الباب أمام قوات
أجنبية "الجيش الإريتري"، كي يقوض كافة مقومات العيش للإقليم ويحطم بنية
الحكم المحلي برمته. واليوم هذا الإقليم وما جرى فيه يصدر يوميا بحقه تقارير
مساءلة حقوقية وإنسانية، تشير بأصابع الإتهام بوضوح لمرتكبي "جرائم
الحرب" بحق المدنيين وتطالبهم بالخروج، في حين يجري إعداد ملفات للمحاسبة
الدولية بدت أنها ستخرج للنور في فترة وجيزة قادمة.
على جانب آخر؛ يخضع إقليم "أوروميا" الكبير الذي ينتمي
رئيس الوزراء الحالي "آبي أحمد" لعرقيته، إلى حكم عسكري غير معلن منذ
منتصف عام 2018. في حين اندلعت منذ هذا التاريخ حرب خفية عن أعين العالم في
المناطق النائية للإقليم، تقوم فيها قوات الأمن بترهيب الأسر على نطاق واسع، عبر
سجن واغتصاب الأمهات والبنات، كما يتعرض الآباء والأبناء للضرب والقتل، كما تتعرض
المحاصيل والمنازل إلى الحرق والهدم متى شاءت هذه القوات القمعية. أدى ذلك
الانتهاك الواسع إلى تشكيل مقاومة محلية لهذا القمع المتصاعد، وتنامت الرغبة في
التحرر من هذا الكابوس، ليقوم شباب الإقليم بتكوين جيش تحرير أورومو (OLA) الذي شهد عمليات انضمام بشكل جماعي خلال
العامين الأخيرين على الأقل، على هامش ذلك جرت عمليات اعتقال واسعة للقادة
السياسيين للإقليم، لكل من تحوم حوله شبهات إدارة أو دعم (OLA)، وهو يجعل التوصيف الأكثر دقة أن
"أوروميا" اليوم صارت غير قابلة للحكم. على ذات النسق تشهد المنطقة
الجنوبية حالة تغيير وسيولة غير محدودة، فقد تعرضت "سيداما"
و"ولايتا" اللتين طالبتا بـ"الحكم الذاتي" وفق قواعد الدستور
الفيدرالي، إلى مقابلة ذلك من اديس أبابا بالقوة الغاشمة التي واجهت مظاهرت سلمية
شهدتها الساحات العامة، وأعقبها خلع قادتهم المحليين على شاكلة ما جرى مع
"التجراي" وقيادات جبهة التحرير الحاكمة.
إقليم "الأمهرة" ليس بأفضل حال مما سبق، بل ربما هو
المكون الرئيسي الذي يشارك حكومة "آبي أحمد" في صناعة هذا المشهد
المعقد، فبداية الأقليم على الأرض في حالة حرب مع جميع جيرانه، في الداخل مع إقليم
"أوروميا" تحت مزاعم مختلطة ومرتبكة تطال قيادات الإقليم وتبذر اشكاليات
الحيازة حول المدن والأراضي، ما يجعل امكانية الحديث عن العيش المشترك بعيدا بل
ويتراجع اليوم أكثر، على خلفية ما جرى خلال الشهور الماضية حيث أعطت
لـ"الأمهرة" سطوة اضافية أمام أعداءها. في إقليمي "التجراي"
و"بني شنقول قموز" يتجاوز الأمر بالنسبة لـ"الأمهرة" حد
الخلاف أو النزاعات، فهناك تورط كبير وواسع المدى بالوقائع ارتكبه الأمهريين بحق
هاذين الإقليميين، توصف اليوم في عشرات من التقارير الدولية باعتبارها "جرائم
حرب" قد تدفع ثمنها الدولة الأثيوبية بكاملها. فالأمهرة شكلوا القوة الضاربة
لأديس أبابا في حربها ضد "التجراي"، وأمام هذا التكليف والإسناد الذي
قدمته الأمهرة بحماس تجاوز المهمة، قامت سريعا بتحصيل الثمن بنفسها عبر ضم منطقة
"غرب التجراي" إلى أراضيها بالقوة المسلحة، وتعد اليوم من غنائم الحرب
التي تمارس فيها أكبر عملية تطهير عرقي لإحلال أبناء عرقية "الأمهرة"
محل التجرانيين أصحاب الأرض الأصليين. في إقليم "بني شنقول" الإشكالية
تتمثل على ذات النحو تقريبا من الترويع المسلح والتهام الأراضي، وربما الإقليم له
خصوصية انفراد الأمهرة بارتكاب جرائم مزدوجة بحق اللاجئين والفارين من حرب
التجراي، لتجري مذابح واسعة بحقهم على أراضي "بني شنقول" التي ظنوا أنها
قد تمثل لهم ملاذ آمن لحين استقرار الأوضاع بإقليمهم.
هذا يمثل إشارة عامة لحجم التفكك ومهددات الانزلاق لما هو أسوأ،
لعل الأبرز فيه أنه يؤسس لمراحل تالية ممتدة من العداء بين شعوب الأقاليم
والعرقيات الأثيوبية المتنوعة، خاصة مع تفشي جرائم الإبادة الجماعية والتهجير
القسري عن الأراضي والممتلكات، وهي من الجرائم ـ عبر الموروث الأفريقي ـ التي
يستتبعها فصول من الثأر المتبادل التي قد تفتح النزاعات المسلحة لعقود. وبالنظر
لإيمان رئيس الوزراء وزمرته الحاكمة بأن الفيدرالية هي أم الشرور كما يصفها، ويسعى
منذ توليه الحكم لتقويضها عبر انقلاب بدأ يتكشف حجم خشونته، يضفي على الصورة العامة
ومستقبل معادلة الأمن الإقليمي قتامة حادة. فالمشهد له ارتباطاته خارج نطاق الحدود
الأثيوبية وهو ما يمكن رصده بوضوح في حالتي السودان وأريتريا، الأولى طالتها شظايا
الخلل الأمني والاقتتال المسلح بضغط كبير لأعداد اللاجئين الأثيوبيين على أراضيها،
قبل الدخول في فصل الانزلاق الأثيوبي التالي لمعارك الحدود مع الخرطوم، والتي في
طياتها يقبع المزيد من عوامل التهديد والضغط على الاستقرار الهش بالمنطقة.
هذا عن السودان، أما أريتريا وما تأثرت وشاركت به فيما يجري وهل سيقف الأمر عند حد هاتين الدولتين، أم أن التهديد بتفكك حقيقي يطال القرن الأفريقي بكامله، هو أمر حساباته صارت خارج سيطرة المركز الأثيوبي بعد 4 أشهر فقط من بداية الدخول في هذا النفق المظلم المحفوف بالمخاطر الجدية ..
هذا نتناوله الأسبوع
القادم بمشيئة الله.
0 تعليقات