آخر الأخبار

لماذا أصبحنا هكذا !! ترييف المدن المصرية .... (7)

 



 

أحمد برهام

 

دور السينما فى الترييف

 

إذا نظرنا الى الأفلام المصرية حتى منتصف الخمسينات ، سنجد ان النظرة الى العلاقة بين الريف و المدينة كانت كالاتى :

 

ان من المستحيل القبول بدمجهما دون صراع

 

الريف مصدر الخير والقيم المطلقة

 

المدينة رمز الشرور كلها وبشكل مطلق

 

الريفى إذا أراد ان يعيش فى المدينة فعليه ان يخلع منظومة الثقافة الريفية كاملة ويرتدى منظومة الثقافة المدنية ويتحول الى شيطان يتبرأ من أصله ومن كل القيم التى يتم التأكيد على روعتها وعظمتها فى أول الفيلم أو الرواية ..

 

وإذا أراد ان يعود لمنظومة الخير ، فعليه ان يترك المدينة (أرض السوء) و أن يعود الى (القرية) " ارض الخير"" ، لكن من المستحيل نقل الثقافة الريفية الى المدينة ، فلا يمتزجان !!

 

أفضل مثال على هذا ، فيلم ابن النيل ليوسف شاهين 1951 م ((قبل الثورة ))..

 

بطل الفيلم الريفى الذى لا يرضى عن أحواله ، هرب للمدينة ، انجرف فى تيار الشر ، ونسى أسرته وتبرأ منها ، ثم انهار كل شىء وعوقب على أفعاله ، ثم عاد لقريته تائبا نادما ليعيش فيها بمنظومتها الغير قابله للنقل للمدينة !!

 

لاحظ ان يوسف شاهين ابن المدينة يرى أن المدينة شريرة ، لكنه يرى أيضا أن يبقى الريف نقيا بعيدا ، ولا يصح ولا يمكن نقل الريف (المثالى الذى يتصوره شاهين ولا يعرف عنه شيئا فى الواقع ) إلى المدينة، لابد ان يبقى كل فى عالمه، وهذا طبيعى ، الفيلم ابن العصر الملكى ، الذى يرغب فى بقاء الفلاح فى أرضه للقيام بمهمته المقدسة ، زراعة الأرض لصالح الملاك ، وبالتالي لابد من ان يبقى بعيدا هناك ، مينفعش يجى المدينة، أمال مين هيقوم بعمله ؟! والفيلم أيضا ابن لمخرج من أهل المدينة ، كل ما يعرفه عن الريف هو تلك الصورة الرومانسية السطحية !!

 

لكن بعد هذ الفتره نجد أفلام كثيرة تعطى نموذجا مختلفا ، لقد جاءت ثورة 1952 والتى غيرت كل شىء، ولم يعد الفلاح هو ذلك المخلوق الملقى فى اقاصى الريف من اجل القيام بتلك المهمة الثقيلة الضرورية ، الزراعة ، بل أصبح الكل فى الكل ، وأصبح رأسا برأس مع أكابر البلد السابقين ، وربما أفضل !!

 

هنا لم يعد مطلوبا ان نقدم نفس الصورة ، ان الريف ينتصر يا عزيزى ، والثورة نصرته نصرا مبينا ، فلماذا لا تعكس السينما هذا ؟!

 

شباب امرأة 1956م من إخراج صلاح ابوسيف ،وهو ابن قرية صغيره فى الواسطى ، بنى سويف ، اى صعيدى ريفى الأصول إذا جاز التعبير

صلاح ابوسيف يقدم نماذج جديدة هنا !!

صحيح ان المدينة تبقى شرا (تحيه كاريوكا)، لكن يمكن هزيمته من قبل الريفى الصلب (شكرى سرحان) حتى لو كان انجرف فى حبائلها لبعض الوقت ، كما ان المدينة ليست شرا خالصا ، هناك ايضا بعض الخير والنقاء الذى يستحق البقاء من اجله (شاديه) ، ثم ان الشر سيموت فى النهاية ، ويعيش الريفى بمنظومته الأخلاقية منتصرا فى المدينة ، ويستحق خيرها و نقاءها الذى أخفته أفلام الملكية !!!

 

هنا صلاح ابوسيف ابن الريف يقول انه سينتصر على المدنية وانها ليست شرا خالصا يا جماعه ، مستخبيين ليه بقى فى الريف القاسى ؟!!

 

تعالوا هنا ، اتعلموا وابقوا موظفين و سيبوا الزراعة دلوقت ، مش هى الأساس ، احنا فى عصر التصنيع ( اتجاه طبيعى للاشتراكية فى العالم كله باستلهام التجربة السوفيتية والصينية )، الزراعة دعها لأبيك و جدك ومن لم يتعلم من إخوتك ، إنما أنت أتعلمت يبقى مكانك هنا فى المدينة ، ستقابل الشر ، وستنتصر عليه تماما زى " إمام" لما انتصر على "شفاعات" التى ماتت وانتهى الأمر ولقت جزاءها الاخلاقى الذى يحبه "صلاح ابوسيف" الذى لقب بشكل مبالغ فيه ""برائد الواقعيه"" ، على الرغم ان هذا الطرح كان مثاليا وخاليا من الواقعية ، لكن ماشى ، ما علينا ، هذه تسميات اليسار المسيطر على النقد الفنى وهى بطبعها مبالغ فيها !!

 

طبعا أنت تظن أنى أبالغ بعض الشىء !! حسنا بامكانك ان تطالع إهداء الفيلم الذى يظهر فى بعض النسخ (وليس كلها) وسترى بنفسك الدعاية الصريحة والرسالة المباشرة التى يحرص المخرج على توجيهها برعاية الدولة طبعا !! ستجده فى الصورة المرفقة ..

 

يستمر صلاح ابوسيف فى توضيح رسالته فى فيلمه التالى " الفتوة" حيث ان بطل الفيلم هنا تمادى فى انغماسه فى الشر (بتاع المدينة) لكنه دفع الثمن فى النهايه ، صحيح ان صلاح ابوسيف ترك النهاية مفتوحة ، ولم يحسم موت البطل ، لعله تاب أو يتوب ، إلا انه أيضا ترك الباب مفتوحا لدورة جديدة من الصراع بين الريفى الجديد ، حامل لواء الخير(كان محمود المليجى فى اخر مشهد من الفيلم) ، وبين الشرير القديم ، الذى كان ريفيا وتنكر لمنظومة الاخلاق الريفيه (فريد شوقى أو هريدى) والذى انتصر رغم كل شىء على شرير المدينة (زكى رستم أو المعلم ابوزيد) .

 

يعنى لا يزال صلاح ابوسيف رمز هذه المرحله - فى تصورى - يؤكد رسالته ، تعال أيها الريفى ، وستنتصر على ابن المدينه الشرير ، لكنك اذا تنكرت لمنظومتك الاخلاقيه ، سيأتي ريفى آخر ليوقفك عند حدك مستقبلا !!

 

انه تأكيد للرسالة التى يتبناها والخط الذى يمشى عليه ........

 

حتى عندما يريد صلاح ابوسيف ان يصنع فيلما عن المدينة ، فانه يضع الحارة المصرية (اقرب شيء لمجتمع الريف فى نظره ، باعتباره مجتمعا مغلقا و صغيرا يحمل دفء الريف الذى يفتقده ) فى مواجهة الأحياء الراقية ، ودائما ما ينتصر ابن الحى الفقير ، ابن الحارة الذى يحمل منظومة أخلاقيه ريفيه فى رأى صلاح ابوسيف ، يحمل صك الغفران الريفى لما تقدم من ذنبه وما تأخر ، على ابن الحى الراقى بما يحمله من منظومه شر وفساد ، كانه يقول لا بأس يا عزيزى الريفى ، تعال اسكن جنب اخوك فى الحى الشعبى ، انه يحمل قيما متقاربه مع ما تحمله ، وستواجها معا شر اثرياء المدينه ، لم يكن هذا خطابا مسموحا به ايام الملكيه طبعا ، لكن الثورة سمحت به لدعم اركان حكمها وتغييراتها الاجتماعيه المستهدفه ، وهو امر مفهوم .

 

هل تريد أمثله ؟ عندك أفلام الأسطى حسن ، بداية ونهاية ، القاهرة 30، وغيره وغيره

اذن فقد ساعدت السينما منذ 70 عاما تقريبا على هذا التحول الديموغرافى وشجعت عليه بشكل لايمكن إغفاله !!! قبل ان تنفجر القاهرة وتبدأ افلام جديدة من نوعية "" دعوة للخروج من القاهرة "" فى الظهور فى الثمانينات حيث تغيرت قواعد اللعبة،و لم يعد هناك داع سياسى لدعوة الريفى الى الهجرة ، فتوقف الفن عن ممارسته الدعاية ، بل وفرض الواقع نفسه على الجميع فظهرت الدعوة "" للخروج من القاهرة " !!

 

 

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات