بقلم / محمود جابر
حكاية لم تنتهى بعد...... والنهر مهما تعرض لسده جبرية، فإنه حتما
سوف يندفع الماء من جوانب السدادة أو يحطمها، فقوة الإزاحة قوة لا يتخيل عاقل
منعها، وهى كضوء الشمس، تشع نورا وضياءا ودفئا لا يحجبها حجاب، فالصدر مازال باق بما
بعثه من نور الحق فى جوانب العراق خاصة وفى جوانب الدنيا كلها لأنه كان من عباد
الله الصالحين ...
ونحن هنا نتذكر استشهاده " رضوان الله عليه" وما يزال
الصدر يقلق مضاجع الظالمين ...
فمن هو هذا الصدر ؟! ....
السيد محمد محمد صادق الصدر أحد أعلام الحوزة العلمية في النجف،
ومجتهد اجتمع حوله شريحه واسعة من المقلدين فى عموم بلاد الإسلام حتى بعد
استشهاده، فضلا عن تأسيسه وقيادته للحركة الإسلامية فى العراق، وهى حركة واعية
ونظيفة لم تستعن بالخارج ولم تتحالف مع محتل أجنبي وهو صاحب شعار " كلا كلا
يا أمريكا "، فى الوقت الذي كان الآخرين يتحالفون مع الأمريكان ضد بلادهم.
ولد من أبوين عراقيين في السابع عشر من ربيع الأول عام 1362هـ
الموافق الثالث و العشرين من مارس/ آذار 1943، والصدر سليل عائلة آل الصدر العريقة
النسب. أبوه محمد صادق بن محمد مهدي بن إسماعيل بن صدر الدين بن صالح بن محمد بن
إبراهيم شرف الدين (جد آل شرف الدين) بن زين العابدين بن السيد نور الدين علي بن
السيد علي نور الدين (جد آل نور الدين) بن الحسين بن محمد بن الحسين بن علي بن
محمد تاج الدين أبي الحسن (جد آل أبي الحسن) بن أبي الحسن علي بن عبد الله أبي
طاهر بن أبي الحسن بن أبي الطيب طاهر بن الحسين القطعي بن موسى بن أبي سبحة (جد ال
أبي سبحة) بن إبراهيم المرتضى بن الإمام أبي إبراهيم موسى بن جعفر بن محمد الباقر
بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام .
عاش السيد محمد الصدر في كنف جده لأمه الشيخ العلامة محمد رضا آل
ياسين، وكذلك في كنف أبيه السيد العلامة محمد صادق الصدر، وكان لنشأته في هذا
الوسط الديني انعكاس واضح على تربيته و أخلاقه.
حصل الصدر الثاني على درجة الاجتهاد فى سن مبكر، بيد انه آثر
السكوت لانشغاله بعبادته وقراءته والتدريس، وكذلك خوفا من أن يفتح هذا الإعلان
بابا للتنازع الدنيوي في الأوساط العلمية الحوزوية.
ومن دلائل اجتهاده إصداره للجزء الأول من موسوعة الإمام المهدي،
وهى موسوعة تحتوى استدلالات وآراء واجتهادات لم يسبقه بها أحد .
فضلا عن كتاب "نظرات إسلامية في حقوق الإنسان" و فيه
مناقشة لكبار فلاسفة الغرب في العصور الوسطى وما بعدها مثل جون لوك صاحب النظرية
الحسية والتي اعتمدتها الماركسية وكذلك جان جاك روسو وكتابه العقد الاجتماعي والذي
أكد فيه على ((أن الإنسان يولد حرا لكنه مقيدا بالأغلال في كل مكان).
ثم اشتغل الصدر بتدريس الفقه الاستدلالي (الخارج) أول مرة عام
1978م، وكانت مادة البحث آنذاك من ((المختصر النافع)) وبعد فترة باشر ثانية بإلقاء
أبحاثه العالية في الفقه و الأصول ((أبحاث الخارج)) عام 1410هـ- 1990م، واستمر في
ذلك متخذا من مسجد الرأس الملاصق للصحن الحيدري الشريف، مدرسة وحصنا روحيا لأنه
اقرب بقعة من جسد أمير المؤمنين علي عليه السلام .
بذل الصدر الثاني جهودا كبيرة في بحوثه عن الإمام المهدي (عليه
السلام) واصدر موسوعة الإمام المهدي كما ذكرنا ذلك سابقا والذي قال عنها الشهيد
الأول محمد باقر الصدر: ((وسأقتصر على هذا الموجز من الأفكار تاركا التوسع فيها
وما يرتبط فيها من تفاصيل إلى الكتاب القيم الذي أمامنا فأنا بين يدي موسوعة جليلة
في الأمام المهدي عليه السلام وضعها أحد أولادنا وتلامذتنا الأعزاء وهو العلامة
البحاثة السيد محمد الصدر حفظه الله تعالى وهي موسوعة لم يسبق لها نظير في تاريخ
التصنيف الشيعي حول الإمام المهدي عليه السلام في إحاطتها وشمولها لقضية الإمام
المهدي المنتظر من كل جوانبها، و فيها من سعة الأفق وطول النفس العلمي واستيعاب
الكثير من الكلمات و اللفتات مما يعبر عن الجهود الجليلة التي بذلها المؤلف في
انجاز هذه الموسوعة الفريدة واني اشعر بالسعادة بما تملأه هذه الموسوعة من فراغ
وتعبر عنه من فضل ونباهة والمعية واسأل الله المولى- سبحانه وتعالى- أن يقر عيني
به ويريني فيه علما من أعلام الدين)).
ولقد أدى الشهيد الصدر الثاني دوراً مهما في تاريخ العراق المعاصر،
فقد أسهم وبفاعليه في تحريك أبناء الشعب العراقي، من خلال مرجعيته، و إحياء صلاة
الجمعة المليونية، و الدور الذي لعبه (رضوان الله عليه) في تغييـر واقع الشعب
العراقي من خلال مرجعيته .
وهو ( رضوان الله عليه ) ظاهرة ضخمة الأبعاد، ضخمة الحيثيات، كما
هى ضخمة النشأة، ثم هي ضخمة العطاء الفكري والمعرفي والثقافي. لقد كانت من الضخامة
بمكان استطاعت معه أن تملأ الفراغ المرجعي الناتج من التقاعسات المتراكمة من جهة،
ومن الهجمة الشرسة المخططة التي أحكم النظام تنفيذ فصولها من جهة أخرى.
فقد استطاع الصدر الثاني مليء الفراغ الذى كانت تعيشه المرجعية،
ولعلّ ضخامة المشهد وسطوع الصورة هي التي أثرت على البعض فعمي أو تعامى عن وصف
الظاهرة، وراح يعلن عن رؤيته المشوهة وغبشه المشوش وعمى ألوانه بعبارات النقد
الجارح للظاهرة الشامخة المتعالية وكلمات التشكيك اللئيمة الحاقدة لمواكب العطاء والمجد
التليد.
لقد قام الشهيد الصدر «قدّس الله نفسه الزكية» أحسن قيام بأداء دور
المرجع القائد في العراق الجريح، فالتفّت الملايين من الناس حوله وآمنت بخطه
واتبعت نهجه، واستشهد هو تطبيقاً لمبادئه، وجماهيره مازال تواصل طريقه في العراق .
وآمنت به الطليعة الواعية من ذوي البصائر وأصحاب العقائد الإسلامية
الراسخة، ولا عجب في ذلك، فقد كان الصدر واعياً لما يقوم به، وذكياً في تصرفاته
ومواقفه، وحكيماً بعيداً عن الانفعال أو التأثر بعناصر غير لصيقة بمشروعه الإسلامي.
كان للسيد الشهيد أطروحة كاملة ناضجة في التحرك الإسلامي السياسي
في ظل الدولة الظالمة وهو ما دوّنه في كتابه " تاريخ الغيبة الكبرى"
وبعشرات الصفحات وقبل شهادته بما يقارب من ثلاثين سنة. فقد استعرض كل الاحتمالات
ووضع الحلول لكل منها وما ينبغي للمؤمن من القيام به في كل ظرف من الظروف.
ونحن مطالبون بدراسة فكر ونظريات وتوجيهات السيد الصدر الثاني
فإنها مصابيح في طريق العاملين.
هذا وليعلم الجميع إنّ خطابه الأخير الذي اغتيل على أثرها كانت
خلاصة لأهم منطلقاته الفكرية والحركية.
كان يدعو فيها بالالتزام بالإسلام وبالمرجعية الرشيدة المجاهدة،
وبالالتزام بالشعائر الإسلامية، مثل مواكب المشي للحسين «ع» وصلاة الجمعة. وكان
يعتبر أنّ هاتين الشعيرتين من أفضل وسائل محاربة الاستعمار وفك الحصار الظالم عن
العراق.
وفي خطبته الأخيرة قال السيد الصدر الثاني حول المسير إلى كربلاء
ما يلي ((لاشك إن أفضل ما تفعله أي دولة لمجتمعها ولشعبها هو إعطاء الحرية للتصرف
والقيام بالشعائر الدينية والتنفيس عن قناعاته النفسية والعقلية بالشكر الذي لا
يضر الدولة أصلا ولا يمت إلى سياستها وإلى كيانها بأي صلة أننا الآن في نظرهم في
ظروف الحصار الاقتصادي الغاشم من الراجح أن نواجه الاستعمار بما يغيظه وخاصة
الشعائر الدينية والسير إلى كربلاء المقدسة إذن ستكون هذه الشعير المقدسة إلى جانب
السائرين ضد الاستعمار والمستنكرين للحصار وخطوة جيدة يمكن أن تكون تدريجيا لفك
الحصار والضغط الشعبي على الاستعمار فما قيل هنا من أن الظرف الحصاري يناسب القول
بالمسير إلى كربلاء، ليس أمرا مقبولا بطبيعة الحال بل الأمر بالعكس ولا يحتاج ذلك
الحد إلى التفاته بسيطة إلى واقع الحال الاجتماعي الذي نعيشه)).
وفى التاسع عشر من فبراير/ شباط 1999 سقط الأستاذ شهيدا، ولكن
الحكاية لم تنتهى بعد ....
0 تعليقات