آخر الأخبار

الأوقاف المسيحية في فلسطين التاريخية إلى زوال

 


 

جوني منصور

 

 

كشف حراك الحقيقة الأرثوذكسية والمجلس المركزي الأرثوذكسي وبعض الجهات الأخرى المعنية، و مع نهاية العام 2020 عن صفقات جديدة لتسريب أراضي وأملاك تابعة للبطريركية الأرثوذكسية في فلسطين في منطقتي بيت لحم وبيت جالا.

 

 وأفادت التقارير الإخبارية ان الحديث يدور عن تسريب مساحة من الأراضي تتجاوز ال 110 دونما لإقامة مشروع سكني وسياحي ومجمعات من المطاعم والمقاهي وسواها لصالح شركة قبرصية.

 

 ويبدو للمدافعين عن الأوقاف من وسط الحراك الأرثوذكسي أن هذه الشركة وهمية للوهلة الأولى، وان من يقف من خلفها قد تكون شركة إسرائيلية او شركاء إسرائيليون. وليست هذه الصفقة الأولى وقد لا تكون الأخيرة في مسلسل الصفقات التي أبرمتها وتبرمها البطريركية الأرثوذكسية منذ عقود طويلة من الزمن لصالح شركات إسرائيلية وأجنبية وحتى للمستوطنين الإسرائيليين الذين سرقوا الأراضي الفلسطينية تحت حماية السارق الأكبر حكومة إسرائيل.

 

ولي الثقة الكبيرة بالمناضلين والمكافحين من اجل منع إتمام هذه الصفقات سواء نجحوا في إيقافها كليا أو فشلوا في بعض منها، ولكن ما يهمني هو ان ننظر بالصورة العامة إلى ما يجري لمسيحيي فلسطين في هذه الجزئية الهامة، اعني بها الأملاك/الأوقاف الكنسية. فقبل نصف سنة تقريبا ابرم البطريرك اللاتيني باتيسبيلا الحالي حين كان مدبرا رسوليا صفقة علنية لبيع 270 دونما في مدينة الناصرة لصالح شركة عربية للوهلة الأولى بقيمة لا تتجاوز نصف الثمن بذريعة تغطية ديون جامعة مادبا في الأردن. وقامت الدنيا على هذه الصفقة اللئيمة، وجاءت صفعة الفاتيكان بتعيين الموقع عليها بطريركا على الكنيسة اللاتينية في الشرق الأوسط. كانت هذه صفعة اقرب الى الطعنة من الخلف والأمام لشباب طموحين من أبناء الناصرة والجوار الذين ينظرون الى هذه الأراضي كجزء مهم من حل الأزمة السكنية التي يعانون منها، وبالأخص الشباب المسيحي العربي.

 

 هذه الصفقة في الناصرة والتي تم الإعلان عنها على الملأ وفي كنيسة البشارة بالناصرة تحديدا حطمت أحلام مئات من الشباب النصراوي في إمكانية ان يستفيدوا من قطع من هذه الأراضي لبقائهم في ارض المسيح وتوقيف نزيف الهجرة. لكن ما تفكر به وتخطط له وتعمل من اجله الكنيسة ليس مصلحة ابنائها وبناتها، وإنما لتغطية أخطائها المالية والإدارية الأخذة بالزيادة عاما بعد عام.

 

وليس الامر في هاتين الكنيستين إنما في الكنيسة الكاثوليكية والتي تعاني من أزمات مالية وإدارية منذ عقود طويلة أثقلت كاهل أبرشية الجليل لدرجة بيع عقارات في حيفا وأراض في مواقع أخرى، بالإضافة الى صفقات مشبوهة للغاية.

 

إذن، نحن أمام مشاريع تصفية أملاك وأوقاف مسيحية قدمها آباؤنا من قرون مضت لخدمة الكنيسة ومؤسساتها. نحن أمام عمليات تسريب أراضي أوقفها آباؤنا وأجدادنا لتعود بالفائدة على مصلحة أبناء الكنيسة خاصة والشعب الفلسطيني عامة. ادعاء رؤساء الكنائس ومنذ عقود من الزمن انهم بموجب القانون الكنسي مؤتمنون على هذه الأوقاف/الأملاك. ونحن نوافق على ذلك، ولكن الائتمان لا يعني التفريط بها، والائتمان لا يعني البيع والتسريب. الائتمان يعني الإيمان والحفاظ عليها. وأصبح الوضع مقلقا للغاية في السنوات الأخيرة، مع انتشار وسائل التواصل ومنالية الوصول الى المعلومات سهلة وميسرة، وإن كانت بعض الصفقات تبقى طي الكتمان. ففي ظل هذه التحولات انتشرت وثائق عديدة تبين حجم الصفقات وخطورتها ليس فقط على مستقبل الكنيسة وأبنائها، وإنما على قضية الشعب الفلسطيني. فمساحات كثيرة من الأراضي وأملاك عقارية تم بيعها لشركات أجنبية، ومن خلفها شركات أو شركاء من إسرائيل. وتم تبليغ السلطة الفلسطينية وكذلك الحكومة الأردنية بهذه الحالات، ولكن لم يحصل اي تحرك حفاظا على العلاقات الدبلوماسية مع اليونان وقبرص اللتين توفران دعما للبطريركية الأرثوذكسية التي يترأسها بطريرك يوناني همّه الحفاظ على يونانية الكنيسة في قيادتها العليا وعدم الرضوخ الى المطالب بتعريبها. وعلى فكرة فإن المطالبة بتعريبها بدأت في مطلع القرن العشرين بمبادرة خليل السكاكيني ولم ينجح أبناء الكنيسة الأرثوذكسية من تحقيق غايتهم بسبب تركهم وحيدين في ساحة المعركة دون توفر غطاء سياسي داعم من قبل السلطة الفلسطينية والحكومة الأردنية في الحد الأدنى في العقود الثلاثة الأخيرة.

 

صفقات التسريب وبيع الأراضي والعقارات التي تجري في كنائس كبرى في فلسطين تساهم بقوة في خلق فجوة كبيرة بين الرئاسات الروحية المؤتمنة على هذه الأوقاف وبين إتباعها من أبناء الشعب الفلسطيني. وتُحدث هذه الصفقات والإدارات السلبية للعقارات والتصرف بها بصورة سيئة شرخا كبيرا وواسعا داخل الكنيسة وتقذف بأعداد كبيرة من أبنائها الى خارج أطرها والبحث عن بدائل في مقدمتها اللامبالاة والتقزز من هكذا سلوكيات. إلى جانب كل ذلك، وهذا مؤلم للغاية الشعور بأن الصفقات تسير مع مسارات التطبيع والارتماء في أحضان السياسة الإسرائيلية وتسليم الكل من منطلق انه إذا ما في حل للقضية الفلسطينية فعلى الدنيا السلام، وهكذا تتناقص الأراضي التي تشكل مستودعا غنيا لبقاء واستمرارية وجود الفلسطينيين في معركتهم مع الاحتلال ومشاريع الاستيطان الرهيبة جدا والتي تأكل الأخضر واليابس ولن تبقي على سنتيمتر واحد من الأراضي الفلسطينية بملك فلسطيني.

 

من جهة أخرى، تمتنع الرئاسات الدينية لكل الكنائس عن الشفافية. وتمتنع عن مشاركة أبنائها في تشكيل مؤسسات إدارية لهذه الأوقاف اللهم إلا في بعض الكنائس البروتستانتية. وتفضل هذه القيادات الإبقاء على أوراقها قريبا من صدورها. إننا في عصر مختلف عما سبق، وهذا ما لا يفقهه رؤساء الكنائس. وبناء عليه فإنهم يقعون فريسة بأفواه سماسرة وطامعين ولصوص وهم على استعداد للتعاون معهم.

 

تواجه الكنائس المسيحية كافة في فلسطين – الأراضي المقدسة أزمة ثقة كبيرة. وعندما تُفقدُ الثقة يضيع كل شيء. هل بقي هناك أمل واحد بالمائة لاستعادة هذه الثقة واستعادة ما خسرته الكنيسة من أملاك من خلال صفقات مشبوهة ومؤلمة؟ هناك غربة كبيرة جدا وفجوة واسعة بين الرئاسات الدينية المسيحية والتابعين لهم او لكنائسهم. هناك حالات من التخلي من قبل التابعين للكنائس عن انتمائهم لهذه الكنيسة او لتلك. هذه أسئلة ومسائل يتوجب التفكير بها بالرغم من استمرار رؤساء كنائس بإبرام صفقات دون الأخذ بعين الاعتبار وضعية المسيحيين الفلسطينيين خصوصا، والفلسطينيين عموما، وذلك لتشكيل لوبيات ضاغطة لتحقيق الأهداف المرجوة. ولا يمكن الاستمرار في غض النظر عما يجري من تخل وتغييب. وإن كنت أشير إلى الروح الطيبة السائدة لدى الحراكات الكنسية في الداخل وفي مناطق السلطة الفلسطينية وفي الأردن لمواجهة هذه الصفقات، إلا أن المواقف السياسية للأحزاب والحركات السياسية والحكومات لا تبشر بالخير. فالمسارات سوداوية لتصفية أملاك الكنائس تدريجيا وعدم الإبقاء على دونم واحد في المستقبل. وأقول أنه بالرغم من ان مسألة التصرف بالاوقاف ليست شأنا حكوميا، إلا انه في ظل ظروفنا الفلسطينية وأطماع إسرائيل واذرعها بأراضينا وأوقافنا، يصبح هذا الأمر مسألة سياسية ووطنية بامتياز. لهذا، يتوجب تكثيف النشاط المعارض للصفقات والعمل على إيقافها، وان يرتدع رؤساء الكنائس او ان يتنحوا ويستقيلوا ويفسحوا المجال أمام قوى جديدة تعرف كيف تصون هذه الأملاك وتحافظ عليها. الوضع لا يمكنه ان يبقى بهذا الشكل ولعشرات السنين والعقود. والمؤسف أن هناك من المطبلين والمزمرين الذين يسحجون ويتملقون يوميا لرؤساء الكنائس لغاية في نفس يعقوب. الوضع صعب جدا، ولا يطاق بالمرة. وباختصار: طفح الكيل.

 

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات