آخر الأخبار

العمامة..... والمجتمع والوعي

 



 

 

عز الدين البغدادي

 

بعد سنة 2003 أقمت ما يقارب سنتين أو أكثر في مدرسة الصدر الأعظم في النجف الأشرف، وكان هناك طالب شاب طيب من أهل البصرة يتكلم باندفاع، وقد كرر امامي أكثر من مرة عبارة تتردد كثيرا وهي: "لا بد أن ننزل إلى المجتمع" في إحدى المرات قلت له بملاطفة: "شيخنا رحمة لوالديك اترك المجتمع وهو سيعرف طريقه لوحده" ثم قلت له: "يعني كفوا المجتمع شركم" ضحك كثيرا، وصار كلما رآني يقول لي وهو يضحك : شيخنا لازم ننزل للمجتمع.

 

ما قلته كنت اقصده وكنت واعيا له مبكرا وبشكل جيد، فالدراسة التي يأخذها الطالب في المؤسسات الدينية عموما وليس في الحوزة (الشيعية) فقط، والمفاهيم التي تبث في عقله والحياة التي يعيشها في تلك المؤسسة لا تجعله أبدا مؤهلا لذلك النزول، فهي تجعله بعيدا عن الوعي بالمجتمع. وإذا نزل -حسب التعبير الشائع- فسوف يربك الأمور ولا يصلحها بأي حال، بل ويفسدها ويقدم صورة سيئة عن شخصه وعن المؤسسة الدينية والعلمية التي يفترض انه يمثلها.

 

صحيح ان هناك من يقوم بنشاطات طيبة في خدمة الأيتام والفقراء، وهو يفهم النزول الى المجتمع بهذا المعنى، أو بمعنى المشاركة في الجهاد كما فعل كثير من طلبة العلم في سوح الجهاد، وهو وان كان يفعل شيئا جيدا الا أن فهم المجتمع أبعد من ذلك، فهو لا يتفهم الشباب مثلا، وربما يبحث عن محمل فقهي فلا يجده فيقع في تعارض حتمي مع حاجات المجتمع او رؤيته. لذا فهو لا يستطيع إدراك طبيعة الحياة وانسابياتها التي لا ينسجم معها المنهج المعرفي والسلوكي في الحوزات، وهو في النهاية باي حال نتاج الرؤية المعرفية السائدة ولن يزيد عليها.

 

هذا فضلا عن نظرة الناس إليه التي تتراوح بين رؤيتين إما ان تنظر اليه على انه شيء مقدس ونظيف جدا لا ينبغي له ان ينغمس في الحياة او نظرة سلبية جدا باعتبارها شخصا مخادعا غير جدير بالثقة…

 

عموما كانت تجربة ما بعد 2003 محرجة ولم تكن ناجحة بأي حال، فالكتب التي تدرس وأهم من ذلك المنهج الذي يكمن خلفها لا يمكن أن تبني أشخاصا لهم قدرة على فهم طبيعة المجتمع وحركته وحاجته، فأمور كهذه لا توفرها دراسة كتب الفقه والأصول.

 

مع ان المشكلة لا تكمن في المنهج فقط، بل وفي ذلك الشعور بالثقة واليقين الوهمي وامتلاء الذات وامتلاك الحقيقة واستصغار المناهج والرؤى الأخرى، وهو ما يجعل الاستفادة من الآخرين ومراجعة الذات أمرا صعبا جدا. مع ذلك فإن هناك فائدة كبيرا يمكن ان نجنيها من هذا الإخفاق، وهو مراجعة أنفسنا والقيام بعملية نقد حقيقي.. ولكن من يقوم بذلك؟ وأنى لنا أن نقوم بذلك؟ فالذي لا يشعر بالمشكلة لا يمكن بالتأكيد أن يحل تلك المشكلة.

 

إرسال تعليق

0 تعليقات