آخر الأخبار

شبهة نفي أبي ذر الغفاري في الربذة

 




 

 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « رحم الله أبا ذرٍّ، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده».

 

وقد توفي رضي الله عنه في منطقة تسمى الربذة، وهي تقع إلى الجنوب الشرقي من المدينة المنورة بحوالي 170 كم، ويأتي موقعها على حافة جبال الحجاز الغربية ، وهي صحراء قاحلة.

 

وقد زعم بعض مبغضي عثمان بن عفَّان رضي الله عنه أنَّه هو من أمر بنفي أبي ذرٍّ رضي الله عنه إلى الرَّبَذَة، وكانوا يشنِّعون عليه ذلك.

 

والصواب أن أبا ذرٍّ رضي الله عنه نزل في الرَّبذة باختياره، بدليل ما ذكره ابن حجر عن عبد الله ابن الصَّامت قال: "دخلت مع أبي ذرٍّ على عثمان، فحسر رأسه، فقال: والله ما أنا منهم ـ يعني: الخوارج ـ فقال: إنَّما أرسلنا إليك لتجاورنا بالمدينة، فقال: لا حاجة لي في ذلك، ائذن لي بالرَّبَذَة. قال: نعم". انتهى

 

وذهاب أبي ذر للربذة كان بسبب اجتهاده في فهم آيةٍ خالف فيها الصَّحابة، وأصرَّ على رأيه، فلم يوافقه أحدٌ عليه، فطلب منه عثمان أن ينزل بالرَّبذَة الّتي كان يغدو إليها زمن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يكن نزوله بها نفياً قسريّاً، أو إقامةً جبريَّة، ولم يأمره الخليفة عثمان بن عفان بالرُّجوع عن رأيه، حتى يقال أنه نفاه.

 

فقد روى البخاريُّ في صحيحه عن زيد بن وهبٍ، قال: مَرَرْتُ بالرَّبَذَةِ فَإِذَا أَنَا بأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنْه، فَقُلتُ له: ما أَنْزَلَكَ مَنْزِلكَ هذا؟ قالَ: كُنْتُ بالشَّأْمِ، فَاخْتَلَفْتُ أَنَا ومُعَاوِيَةُ فِي: {الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ ولَا يُنْفِقُونَهَا في سَبيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] قالَ مُعَاوِيَةُ: نَزَلَتْ في أَهْلِ الكِتَابِ، فَقُلتُ: نَزَلَتْ فِينَا وفيهم، فَكانَ بَيْنِي وبيْنَهُ في ذَاكَ، وكَتَبَ إلى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عنْه يَشْكُونِي، فَكَتَبَ إلَيَّ عُثْمَانُ: أَنِ اقْدَمِ المَدِينَةَ فَقَدِمْتُهَا، فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاسُ حتَّى كَأنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ ذلكَ، فَذَكَرْتُ ذَاكَ لِعُثْمَانَ فَقالَ لِي: إنْ شِئْتَ تَنَحَّيْتَ، فَكُنْتَ قَرِيبًا، فَذَاكَ الذي أَنْزَلَنِي هذا المَنْزِلَ، ولو أَمَّرُوا عَلَيَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْتُ وأَطَعْتُ". انتهى

 

فأبو ذر فسر قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ*يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ" -التوبة: 34ـ35-

 

وجعل الوعيد "يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا"، على عامة المسلمين وكان يخوِّف النَّاس بها، وقد خالف جمهور الصَّحابة أبا ذرٍّ، وحملوا الوعيد على مانعي الزَّكاة واستدلوا على ذلك بالحديث، الّذي رواه أبو سعيد الخدريُّ، قال: قال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمس أواقٍ صدقةٌ، وليس فيما دون خمس ذَوْدٍ صدقةٌ، وليس فيما دون خمسة أوسقٍ صدقةٌ». انتهى

 

وأما قول عثمان: إن شئت؛ تنحَّيت، فكنت قريباً؛ يدلُّ على أنَّ عثمان طلب من أبي ذر أن يتنحَّى عن المدينة، برفقٍ، ولم يأمره، ولم يحدِّد له المكان الّذي يخرج إليه، ولو رفض أبو ذرٍّ الخروج ما أجبره عثمان على ذلك، ولكنَّ أبا ذر كان مطيعاً للخليفة؛ لأنَّه قال في نهاية الحديث: لو أمَّروا عليَّ حبشيّاً؛ لسمعت، وأطعت.

 

وممَّا يدلُّ على أنَّ أبا ذر يمقت الفتنة، والخروج على الإمام المبايع ما رواه ابن سعدٍ في أنَّ ناساً من أهل الكوفة قالوا لأبي ذرٍّ وهو بالرَّبَذَة: إنَّ هذا الرَّجل فعل بك، وفعل، هل أنت ناصبٌ له رايةً ـ يعني: مقاتله ـ ؟ فقال: لا! لو أنَّ عثمان سيَّرني من المشرق إلى المغرب؛ لسمعت وأطعت.

 

قال أبو بكر بن العربيِّ: كان أبو ذرٍّ زاهداً، ويرى النَّاس يتَّسعون في المراكب، والملابس حين وجدوا، فينكر ذلك عليهم، ويريد تفريق جميع ذلك من بين أيديهم؛ وهو غير لازمٍ، فوقع بين أبي ذرٍّ ومعاوية كلامٌ بالشَّام، فخرج إلى المدينة، فاجتمع إليه النَّاس، فجعل يسلك تلك الطُّرق، فقال له عثمان: لو اعتزلت. معناه: أنَّك على مذهبٍ - أي رأي- لا يصلح لمخالطة النَّاس. ومن كان على طريقة أبي ذرٍّ فحاله يقتضي أن ينفرد بنفسه، أو يخالط النَّاس، ويسلم لكلِّ أحدٍ حاله ممَّا ليس بحرامٍ في الشَّريعة، فخرج زاهداً فاضلاً، وترك جلَّةً فضلاء، وكلٌّ على خيرٍ، وبركةٍ، وفضلٍ، وحال أبي ذرٍّ أفضل، ولا تمكن لجميع الخلق، فلو كانوا عليها، لهلكوا؛ فسبحان مرتِّب المنازل". انتهى

 

ولمَّا حضرت أبا ذر المنية أوصى امرأته، وغلامه فقال : إذا متُّ؛ فاغسلاني وكفِّناني، ثمَّ احملاني فضعاني على قارعة الطَّريق، فأوَّل ركبٍ يمرُّون بكم، فقولوا: هذا أبو ذرٍّ.

 

فلمَّا مات؛ فعلوا به كذلك، فطلع ركبٌ فما علموا به حتَّى كادت ركائبهم تطأ سريره، فإذا ابن مسعودٍ في رهطٍ من أهل الكوفة، فقال: ما هذا؟ فقيل: جنازة أبي ذرٍّ، فاستهلَّ ابن مسعود يبكي، فقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله أبا ذرٍّ! يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده».

 

فغسَّلوه وكفَّنوه وصلَّوا عليه، ودفنوه، ثم ذهبوا إلى مكَّة، ونعوه إلى عثمان رضي الله عنه، فضم ابنته إلى عياله.

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات