نصر القفاص
طرح "محمد نجيب" سؤالا.. ما حدث ليلة 23 يوليو, هل هو
ثورة أم انقلاب؟
أجاب على السؤال فى مذكراته, فقال: "من يؤيدنا ويتحمس لنا
يقول.. ثورة.. وكأنه يكرمنا.. ومن يعارضنا ويرفض ما فعلناه يقول.. انقلاب.. وكأنه
يحط منا".. ثم يضيف موضحا: "بدأت الجماهير تخرج إلى الشوارع للتعبير عن
فرحتها بالحركة.. بدأت برقيات التأييد تصل إلينا وإلى الصحف والإذاعة.. فأحس البعض
أن عنصر الجماهير الذى ينقص الانقلاب ليصبح ثورة قد توفر الآن, فبدأنا فى استخدام
تعبير الثورة إلى جانب تعبيرى.. الانقلاب.. والحركة".. وسيغير رؤيته تلك فى
صفحات أخرى بوضوح!
الثابت أن تعبير "حركة الجيش" تم استخدامه فى الأيام
الأولى بعد ليلة 23 يوليو.. وأن أول من وصف تحرك الجيش بأنه "ثورة" هو
"مكرم باشا عبيد".. ونقلت صحف هذا الزمان قوله: "إنها ثورة شعب
حماها الجيش" وذلك منشور فى صحف 27, و28 يوليو 1952.. ورغم ذلك استمر وصف ما
حدث بأنه "الحركة المباركة"
كان "سيد قطب" هو أول من كتب رافضا انسحاب الجيش من
ثكناته, فى مقال منشور على صفحات "الأخبار" ويوم 26 أغسطس كتب مقالا على
صفحات "روز اليوسف" قائلا أن ما فعله الجيش هو قيادة "ثورة" وذكر:
"الجيش استطاع تحقيق الثورة بدقة وإحكام ودون إراقة الدماء.. ومن رحمة الله
أن الذى تولى تحقيق الثورة هو الجيش باسم الشعب, ولم يكن بأيدى الجماهير"..
وحرص "سيد قطب" على تأكيد أن ما حدث ليلة 23 يوليو هو ثورة فى مقالات
عديدة.. بينها مقال منشور على صفحات "روز اليوسف" يوم 10 سبتمبر, حين
كتب: "أعداء الثورة هم الإقطاع والرأسماليون ورجال الأحزاب والسياسة
المحترفين"!!
حتى هذا الوقت كانت القيادة العامة للجيش ومجلس الوزراء والصحف
تستخدم وصف "الحركة المباركة" حتى كتب "عميد الأدب العربى"
الدكتور "طه حسين" مقالا فى عدد أول ديسمبر عام 1952 بمجلة
"التحرير" ليؤكد على أن ما حدث فى مصر هو "ثورة" بكل ما تحمل
الكلمة من معنى.. وجاء فى المقال: "لم أفهم إلى الآن لم يحرص رئيس وقائد
الجيش محمد نجيب فى بعض خطبه على كراهيته لكلمة ثورة, وإيثاره كلمة أخرى يسمى بها
ما نحن فيه منذ كانت الأحداث الكبرى التى شهدتها مصر فى أواخر شهر يوليو الماضى
وهى كلمة النهضة.. لقد أتيح لنا البدء فى هذه النهضة منذ ثلاثين عاما.. هذه النهضة
التى بدأت مع هذا القرن أو قبله بقليل.. فأما ما نحن فيه منذ يوليو الماضى, فهو
أعظم خطرا من النهضة كما ألفها الناس.. ليس هو تطورا لما حدث هينا لينا رفيقا فى
ظل القانون والدستور.. ليس شىء من هذا تطورا.. وليس شىء من هذا ملائما لما كانت
مصر تخضع له من نظام مقرر مألوف.. إنما هو خروج عنيف على هذا النظام, ومحاولة
عنيفة لتغييره جملة وتفصيلا.. وليس للحركة التى تخرج على النظام بالقوة, وتريد
تغييره بالقوة أيضا.. وتخلع ملكا وتولى ملكا طفلا, وتعلق نظام الملك بالقوة وتريد
تغييره بالقوة أيضا.. ليس لهذه الحركة اسم إلا الثورة.. وحقيقة الأمر أننا نحيا فى
ظل الثورة التى تريد تغيير النظم السياسية والاجتماعية التى ألفناها, تبقى منها ما
تراه خيرا يستطيع البقاء ويلائم الإصلاح.. وتلغى منها ما تراه شرا لتضع مكانه نظما
جديدة أجدر أن تحقق العدل السياسى والاجتماعى".
ولأنه الدكتور "طه حسين" فقد جرت مناقشات مكتوبة,
وحوارات مفتوحة داخل المجتمع حتى فرض ذلك الرأى العام وعكسته صحف هذا الزمان.. انتهت
إلى وصف ما حدث يوم 23 يوليو بأنه ثورة, وهناك عشرات الدراسات العلمية التى أكدت
أن ما حدث ينطبق مع "الثورة" فى معناها ومضمونها.. واستقر المفهوم حتى
أعلن "أنور السادات" وصف "ثورة" على صراعه مع أجنحة الحكم
وأطلق عليه "ثورة 15 مايو".. وإذا كان قد بدأ حكمه بما أسماه
"ثورة" فقد انتهى حكمه بما أطلق عليه "ثورة 5 سبتمبر" وكان
هذا عنوان الصحف يوم 6 سبتمبر.. والمثير أن الثورتين المزعومتين تبخرتا برحيل
"أنور السادات"!!
وبقيت "ثورة 23 يوليو" هى المرجعية التى يعترف بها الشعب
لأنها عبرت عنه, وحملت آماله وأحلامه منذ قيامها حتى رحل زعيمها وقائدها
"جمال عبد الناصر" لتتعاقب محاولات شطبها أو طمسها من الذاكرة الوطنية!
أعود إلى مذكرات "محمد نجيب" التى يذكر فيها:
"قابلت مصطفى النحاس باشا فى الساعة الثانية من صباح يوم 28 يوليو بمقر
القيادة العامة.. كان معه فؤاد سراج الدين وكانا قد وصلا لتوهما من أوروبا حيث
كانا يستشفيان, ومرا على فى طريقهما من المطار للبيت.. كنت آويت إلى سريرى السفرى
الذى فرشته فى مكتبى.. قمت وارتديت ملابسى, وطلبت من الأعضاء الموجودين - لم يذكر
أسماء - أن يحضروا المقابلة.. رحبت بهما وتبادلنا عبارات المجاملة, ولم نتحدث فى
شىء لأنهما فضلا العودة للمنزل.. وعلى الباب وأنا أودعهما قال مصطفى النحاس: إنى
أؤيدك وأدعو الله أن ينصرك ويوفقك على الدوام.. ظلت أستقبل وفود المهنئين طوال
الأيام التالية.. واجتمع ضباط القيادة بكاملهم تحت رئاستى وأصبح عبد الناصر مديرا
لمكتبى"!!
حكاية "عبد الناصر" مديرا لمكتبه مدهشة.. قد يصدقها
ساذج.. يضحك منها واع وفاهم.. ينتحر عندها المنطق.. لم يذكرها أحد غيره.. لكن
"خدم الملكية والاستعمار" يرددونها رغم علمهم ويقينهم أنها
"هزل"!
لا داعى للنفى أو التكذيب.
فى مذكرات "سيد مرعى" المنشورة عام 1977 بعنوان
"أوراق سياسية" ما يكشف الحقيقة بتفاصيل تستحق أن نتوقف عندها, إذ يروى
"سيد مرعى" الآتى: "لم أكن أعرف من ضباط الثورة غير زكريا محيى
الدين, جارى فى كفر شكر الذى تربطنى به صلة قرابة ونسب.. كنت أراه فى مناسبات
متباعدة.. طلبنا موعدا لوفد من الهيئة السعدية للقاء قادة الثورة.. كان الوفد يضم
عبد المجيد الشرقاوى وسامح موسى وشوكت التونى ورابع لا أتذكر اسمه وأنا.. ذهبنا
إلى مقر القيادة العامة فى كوبرى القبة.. كنا قد حصلنا على موعد خاص للقاء محمد
نجيب.. كنت يومها أرتدى بدلة بيضاء من قماش الشاركستين, وأرتدى طربوشا أحمر بوضع
معين - مائل للجنب - وأضع فى جيب سترتى منديلا أحمر.. هذا الوصف مهم لأنه حدد
ملامح علاقتى مع جمال عبد الناصر لفترة السنوات الأولى للثورة.. دخلت مع الوفد إلى
مكتب اللواء محمد نجيب.. للوهلة الأولى استقبلنا الرجل بطريقته البشوشة.. رحب بنا
بأسلوبه المهذب, وأخذ يستمع إلينا بقلب مفتوح.. كان الانطباع الأول عن قائد حركة
الجيش كافيا لكى يشعرنا بالاطمئنان.. لاحظت أن هناك ضابطا شابا طويل القامة.. نافذ
النظرات.. يقف بجواره طوال الوقت, وظل حاضرا المقابلة من أولها إلى آخرها متابعا
كل كلمة خلالها.. سردنا للواء نجيب ما دار فى اجتماع الهيئة السعدية بشكل عام..
صدمنى أن أحد زملائى انتهز الفرصة وتكلم بما يخرج فى تصورى عن التفويض الذى منحنا
إياه الحزب.. كان يتكلم لمصلحة نفسه ويعرض خدماته!! وللحق كان الرجل ينصت إلينا
باهتمام وهدوء شديدين.. حاولت إنقاذ الموقف, وبدأت أشرح مهمتنا.. قلت موجها كلامى
للواء نجيب.. الهيئة السعدية تريد معرفة الأسماء التى تريدون حذفها منها.. لم يرد
اللواء نجيب.. لكن هذا الضابط كان الوحيد الذى تصدى بالرد وقاطعنى بحدة: طهروا
أنفسكم.. لم تعجبنى طريقته فى الكلام فقلت له: كيف نطهر أنفسنا؟! وما هو المقصود
بهذا التعبير الواسع.. عاد الضابط نفسه يقاطعنى, مركزا نظراته الحادة على طربوشى
ومنديلى, وقال: زى ما قلنا.. طهروا أنفسكم وبعدين نتكلم.. كنت جالسا على المقعد
واضعا - رجل على رجل - والظاهر أن جرأتى لم تعجب هذا الضابط.. لأننى عندما استرسلت
فى الكلام, وقلت: إننا نريد من القائد العام أن يوضح لنا رأيه.. ثم أننى أحمل
رسالة معينة من زعماء السعديين, وأريد أن أعود بالرد عليها, بعد أن طال الحديث دون
جدوى حول مفهوم التطهير.. ساعتها أنهى هذا الضابط المقابلة, وقال للواء نجيب بلهجة
قاطعة: على كل حال يجتمعوا خارج المكتب, ويتفاهموا فى هذا الموضوع حتى لا يضيعوا
وقتنا! هز محمد نجيب رأسه موافقا ولم يقل شيئا"!!
من هذا الضابط الذى يأمر فى وجود القائد العام؟!
الإجابة ذكرها "سيد مرعى" فأضاف: "خرجنا من
المكتب.. خرج ورائنا ضابط آخر وسيم المظهر وعلى وجهه إبتسامة مريحة.. إجتمع معنا
فى الردهة - ظهر فيما بعد أنه حسن ابراهيم - وجاء بعد ذلك زكريا محيى الدين
وصافحنى مرحبا وانضم للاجتماع.. لاحظ الاستياء على ملامحى.. سألنى: إيه
الحكاية؟!.. شرحت له الموضوع بالكامل, وكيف أن هناك ضابط فى مكتب القائد العام ظل
يقاطعنى طوال الوقت كلما تحدثت مع اللواء نجيب.. ظهرت علامات الاهتمام على وجه
زكريا محيى الدين.. قال لى: إبتعد عنه ولا تخطىء فيه.. دهشت من كلامه.. سألته: ليه
علشان ايه؟!.. فقال لى: إنت ما تعرفش الضابط دة يبقى مين؟!.. فقلت: طبعا لا
أعرفه.. فقال لى بنفس الجدية والاهتمام: دة جمال عبد الناصر.. وبالطبع لم أكن أدرى
ساعتها أنه القائد الحقيقى للثورة".
هناك تفاصيل كثيرة فى مذكرات "سيد مرعى".
ما يهمنا أن هذا هو "جمال عبد الناصر" الذى يقول
"محمد نجيب" عنه "عينته مديرا لمكتبى"!! بالتأكيد هناك مئات
الشهادات والمواقف التى تؤكد أن "محمد نجيب" كان "جملة عابرة"
فى تاريخ مصر وثورة 23 يوليو.. وكل الدنيا تعلم تلك الحقيقة وتأكدت منها.. لكنه
وافق أن يطعن الثورة وزعيمها حيا.. ثم ميتا!!
يذكر بعد ذلك "محمد نجيب" فى مذكراته: "يوم 30
يوليو تم إلغاء الألقاب الرسمية من بك إلى باشا.. ومن صاحب السعادة إلى صاحب
السمو.. ودولة رئيس الوزراء, وكلها فى الأصل كانت تركية.. كانت تمنح ولا تورث..
كانت منحة من الملك, وغالبا ما كانت تمنح لمن لا يستحقها مثل سائق الملك محمد حلمى
حسين الذى كانوا يقولون له محمد بك"! لكنه يستدرك أو يوضح, فيقول:
"نجحنا فى إلغاء لقب باشا من حياتنا.. لم تعد هذه الكلمة تستخدم فى الشارع
المصرى للاحترام.. إنما للسخرية.. لكننى اكتشفت فى الأيام الأخيرة, وفى عصر
المليونيرات الجدد فى السبعينات.. أن هناك محاولة لإعادة الاحترام لهذا
اللقب"!!
يجب أن نصدق أن تاريخ مصر الحديث, يعبث به المليونيرات الجدد.
يجب أن نصدق أن القراءة هى الطريق الصحيح لفهم التاريخ.
.. ويجب أن نصدق أن مذكرات "محمد نجيب" كانت موجهة,
هدفها ضرب ثورة وقائدها وزعيمها.. ومازالت هناك تفاصيل مهمة..
يتبع
0 تعليقات